“ينعقد مؤتمر جنيف 2 في ظروف حرجة بالنسبة لملايين السوريين”،.. “السوريون يتطلعون الى نتائج مؤتمر جنيف 2 لعله يسفر عن مخرج”،… “أحزاب المعارضة السورية تنقسم بشأن المشاركة في مؤتمر جنيف 2″،… “الأخضر الابراهيمي يجري مشاورات مع اطراف الأزمة بحثا عن حل”،… “قوى العالم الكبرى تتفق على جعل جنيف 2 منعطفا حاسما للخروج من المأزق”،… “ملايين المهجرين واللاجئين السوريين يفقدون الأمل بالحصول على معونات إغاثة”،…الخ، الخ، الخ..
حملتُ بعضا مما تقوله الصحف الى صديقي الحمار لأسأله عن رأيه في مؤتمر جنيف 2.
فقال، وهل من الضروري أن تسألني وأنت تعرف النتيجة؟
قلت، لا بأس. يسعدني أن أستأنس برأيك. فبرغم أنك حمار من وجهة نظر حديقة الحيوانات، إلا أنك تمتلك نظرة ثاقبة للأمور.
فقال، بماذا خرج مؤتمر جنيف 1؟
فقلت، إنه خرج بمقترح غير متفق عليه، لتشكيل هيئة حكم انتقالية، ولكن لا النظام مستعد للمشاركة فيها، ولا المعارضة قادرة على إدارتها، حتى لو تُركت الهيئة لها وحدها، لأنها سوف تترك الخصومات مع النظام لتتخاصم فيما بينها.
فقال، ألم تلاحظ المهزلة، إذن؟
فقلت، لاحظت.
فقال، وماذا حصل بعد ذلك المقترح الغبي؟
قلت، زادت الأزمة سوءا. والخراب حل بكل منزل. والخلافات ظلت مستمرة، داخل النظام وداخل المعارضة، وداخل المجتمع الدولي.
فقال، فكيف تريد لمؤتمر جنيف 2 أن يأتي بنتيجة أفضل؟ ألم تر أن كل المعنيين بالأزمة، يمضون في غيّهم، ولا يستدركون، مما يجعلهم أكثر حمرنة من كل الحمير؟
قلت، ولكن كيف تقول ذلك؟ ألا تلاحظ أن هناك أناسا متمرسون بالسلطة في سوريا، كما أن هناك مثقفين كبارا وصغارا ومتوسطي الحجم، يتوسطهم الأخضر الابراهيمي وهو خبير ودبلوماسي كبير، كما أن المجتمع الدولي الذي تتحدث عنه مليء بالعقليات والعبقريات التي لا يُشق لها غبار؟
فقال، دقيقة، دقيقة، من فضلك. لا تأخذني بالطول والعرض، وكأنك محامي الشيطان. فكل هؤلاء الذين تتحدث عنهم، إما أن يكونوا حميرا من طراز نادر، وإما أنهم مثل الغريق في دوامة، يخبطون بالماء، خبط عشواء، إلا أنهم يقفدون القدرة على التحكم بالدائرة التي يغرقون فيها، فتُغرقهم التفاصيل، ويعجزون بالتالي عن العثور على الطريق الصحيح.
قلت، هات بالله عليك. فكيف يا حماري العزيز، وجدت كل هؤلاء الناس أكثر حمرنة منك.
قال، أنظر بأحوال النظام. وسترى أنه كان يستطيع أن يجري تغييرات بسيطة، وأن يتخلى عن القليل، وأن يقدم القليل من التنازلات لدى اندلاع الأزمة، ويضمن أن يعيش خمسين عاما أخرى. بل وحتى لو أن النظام جلب 20 شخصا من كبار المثقفين المعارضين الوطنيين الذين يمكن الوثوق بحكمتهم ونزاهتهم، وقال لهم، خذوا كل شيء، بل شكلوا أنتم الحكومة ولكن بما يكفي لحماية الأمن الوطني والسلام الاجتماعي والمصالح العامة، فان الأزمة كانت قد انتهت من وقتها، ولكان القائمون عليها الآن قد تحولوا من مجرمين تلاحقهم محكمة الجنايات الدولية، الى أبطال يخلدهم التاريخ، ويغفر لهم كل ما ارتبكوه من أعمال، ولانفتحت لهم صفحة جديدة يمكنهم التباهي بها، بدلا من صفحة العار التي يدورون الآن فيها.
قلت، ولكنهم يقولون إن الأمر يتعلق بمؤامرة، وإنهم مهما فعلوا فأن المؤامرة كانت ستظل تؤجج عليهم الأزمة؟
فقال، بالله عليك، كفّ عن هذا “العلاك المصدّي”. ولكن، هب جدلا أنه كانت هناك مؤامرة فعلا، وأنك عبقري الى درجة أنك تعرف أنها مؤامرة، أفلا يحسن بك، يا فهيم، أن تواجهها بكسب شعبك الى جانبك، بدلا من أن تواجهها بتهجير نصف شعبك؟ ثم، ألم يكن من المعقول، يا فهيم، أن تطلق مشروعا وطنيا للبناء والتعمير يمتص البطالة، ويوفر سبل العيش الكريم، بدلا من أن تطلق الدبابات والمدافع للتخريب والتدمير؟
قلت، طيب. سيبك من هؤلاء، فلعلهم كانوا يتصرفون بدافع من الخوف حتى عميت بصيرتهم قبل أبصارهم، ولكن ماذا بشأن المعارضة، وماذا بشأن الكثير من المثقفين فيها؟
فقال، أي معارضة؟ وأي مثقفين؟ أنا حمار ولكني والله لم أر معارضة “أخرا” من هذه المعارضة، كما لم أر مثقفين أكثر غباء وسخافة من هؤلاء المثقفين؟
قلت، لا تقس على الناس. ففي النهاية، فأنت لست سوى حمار، وليس من المنطقي أن تتهم أناسا نشروا من الكتب، وألفوا من المقالات ما يكفي ليفرش الكرة الأرضية كلها بالنور والتنوير.
فقال، لا يهم. فالحمار حمار بأفعاله، لا بأقواله. وهؤلاء “المثقفين” الذين تتحدث عنهم لا يصلحون حتى لحديقة الحيوانات، لأنهم سوف يثيرون النفور في أي مكان تضعهم فيه.
فقلت، طيب. أنت تدّعي، والبينةُ، يا سيدي، على من أدّعى. فهات من البينات ما يثبت أنهم أكثر حمرنة منك.
فقال، شوف يا عيني، هؤلاء الناس يتحدثون عن الديمقراطية، وعن التغيير، وعن حقوق الإنسان، وعن المساواة، وعن دولة القانون، وكل ما الى ذلك.
قلت، نعم. وما المشكلة في هذا؟
فقال، أنظر عن ماذا يتحدثون في مؤتمر جنيف 2 وستعرف من هو الحمار بيننا. لقد تحدثوا عن كل شيء إلا عن الديمقراطية، وإلا عن دولة القانون. تركوا الأهم ليشغلوا أنفسهم بما لا يمكن الحصول عليه. بل لقد تركوا فرصة تاريخية تمر أمام أنظار العالم ليركزوا على نقاطٍ حتى ولو تمكنوا من الحصول عليها، من قبيل تسلم السلطة، فانهم لن يكونوا قادرين، بسبب المنازعات بينهم، لا على إدارتها، ولا على إدارة حارة من حارات البلد، فما بالك بسوريا كلها.
فقلت، انها مفاوضات. أليست كذلك؟
فقال، هؤلاء الحمير، الذين يأنف الحمير من القبول بهم، ذهبوا الى جنيف 2 ليس لانهم يعرفون ما هو الحل، بل لأنهم يعتقدون أن كل واحد منهم هو الحل! هذا هو الوجه الأول للسخافة فيهم. أما الوجه الثاني، الأخطر، فهو أنهم بدلا من التركيز على قيم الإصلاح والتغيير، وعلى الأسس التي تجعل من هذه القيم أرضية لإعادة البناء، تجمع من حولها كل السوريين، فانهم ركزوا على قضايا جانبية وشخصية تكرس المخاوف وتعزز الأحقاد. والأحقاد لا يمكنها أن تبني وطنا، ولا أن تقيم ديمقراطية.
فقلت، لم أفهم.
فقال، طبعا. لأنك مثقف مثلهم.
فقلت، ماشي الحال، يا سيدي. أنا أقبل الإهانة منك. فأنت صديقي في نهاية المطاف، وأنا لم ألجأ لك، إلا اعترافا مني بحكمتك ورجاحة عقلك.
فقال، شوف يا أخي العزيز، هؤلاء الناس ذهبوا الى جنيف وفي رأسهم شيء واحد: الاطاحة برأس بشار الأسد، وليس الإطاحة بنظامه. كل التعابير التي ينطقون بها تقول انهم يعادون بشار الأسد شخصيا لأنهم يعادون أسرته. وهم يعادون أسرته، لأنهم (برغم كل الزيف والكلام المنافق) يعادون طائفته. وعندما يعادون طائفته، فانهم يثيرون مخاوف الطوائف الأخرى، وهم جهارا نهارا يتحدثون عن غلبة طائفية لهم. ولأنهم أحمر من الحمير فقد نسوا أن غلبة طائفة على طائفة تعني حربا أهلية تستمر الى الأبد. ونسوا أن الحروب الطائفية لا يمكنها أن تنتهي بغالب ومغلوب. نسوا أيضا أن الشعوب يمكنها أن تنتصر على الدكتاتوريات، إلا أنها لا تنتصر عندما تنقلب الحرب الى طوائف. ولكنهم اختاروا هذا الطريق بدافع من الأحقاد والضغائن (ضد “آل الأسد”)، وليس بدافع الوطنية. والضغينة ضد “آل الأسد” ليست سوى رمز للضغينة ضد العلويين ومن خلفهم الدروز والمسيحيين والإسماعليين والشيعة وغيرهم. ولو أن أولئك المعارضين كانوا وطنيين بالفعل، لركزوا على تغيير النظام؛ تغيير قواعده وأسسه القمعية، ولتمسكوا هم أنفسهم ببقاء بشار الأسد أو أي أحد من أفراد أسرته، كبيرا كان أم صغيرا، للإيحاء بأن هدفهم هو إعادة البناء وليس التخريب، وأن هدفهم هو الوحدة الوطنية وليس التمزيق الطائفي. وهب جدلا أن المفاوضات تركزت على المبادئ، من قبيل الديمقراطية، بدلا من رموز الكلام التي تنم عن الأحقاد الطائفية. ولو أنهم دعوا أنفسهم والفريق الآخر بالقول، نريد أن نبني نظاما ديمقراطيا، فهل كان من الممكن للفريق الآخر أن يرفض؟
قلت، بالطبع، لا.
فقال،.. والديمقراطية تتطلب ضمانات. صح؟
فقلت. نعم، صح.
فقال، وأنت تعرف أن كل فريق من الفريقين يقول أنه يحظى بتأييد الغالبية العظمى من الشعب؟ صح؟
قلت، صح.
فقال، فما الذي، إذن، كان يمنع هؤلاء المتفاوضين من البحث عن سبيل لتوفير ضمانات، تحت إشراف دولي، لجعل الديمقراطية تعمل، بحيث يمكن إجراء انتخابات حرة، تحت إشراف نزيه، لكي تقرر ما يريده الشعب؟ وما الذي كان يمنع هؤلاء المثقفين الحمير من أن يبحثوا عن سبيل، وهم تحت أنظار المجتمع الدولي كله، لإرساء الأسس لبناء دولة قانون؟ وإني لأسالك بالله أن تجيبني: هل كان سيبقى هذا النظام، بكل ما عُرف عنه من شراسة أمنية، لو أنه أقيمت دولة قانون؟ وهل كانت سوريا ستواجه كل ما واجهته من أعمال خراب وتدمير وتمزيق على أسس طائفية، لو أن مثقفيها كانوا يعرفون ما هو السبيل الإيجابي، للخروج من الأزمة، بدلا من التركيز على الجوانب السلبية التي تزيد أوار النزاع تصاعدا؟ هل المشكلة هي بشار الأسد وأسرته وطائفته، أم أن المشكلة تكمن في نظام أثبت على طول الخط انه متعدد الطوائف في ممارسة القمع؟
فقلت، طيب، وماذا بشأن الأخضر الإبراهيمي ورفقته من المجتمع الدولي؟ ألم يكن بوسعهم أن يدلوا الطرفين على الطريق القويم؟
فقال، شوف يا سيدي، هؤلاء الناس ينظرون الى الأمر على النحو التالي: إذا كان صاحبك حمارا ويريد أن يستمر في حمرنته، فلا نفع فيه، ولا نفع في أن تجعله آدميا، ولا في أن تدله على الطريق القويم. فالحمار لم يخلقه الله إلا ليظل حمارا. وهم ينطلقون في ذلك من فكرة ظل الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه يدافع عنها، وهي تقول: إذا رأيت أحدا يحاول الانتحار، وكان متمسكا بخياره الغبي، فلا تنصحه، بل إعطه دفعة لكي ينتحر.
وإذا نظرت الى المصالح الدولية، المشروعة وغير المشروعة، فما هي المشكلة في أن تتحول سوريا الى مستنقع للمليشيات وللحروب الطائفية التي تستمر الى الأبد؟ أليست هذه هي الصورة التي يتمناها ويراها المجتمع الدولي عن مجتمعات الحمير؟ لقد خلقنا الله على هذا النحو، وسنبقى كما نحن الى يوم يبعثون. وكلما احتجت الى دليل، فما عليك سوى أن تذهب الى سوريا لتبحث فيها عن مثقفين ألفوا ما يكفي لكي يفرش الأرض بالضجيج عن الديمقراطية، وعندما أتيحت لهم الفرصة، فرشوا الأرض بروث الحمير.
علي الصراف