الحمار هو أقدم مقاوم في التاريخ.
ما من كائن صبر على كل الظروف، وتحداها بطول باله، مثل الحمار.
قبل أن يحمل الإنسان عصاه عليه، كان الحمار قادرا على مواجهة كل ظروف الطبيعية القاسية. وحتى بعد حاول الإنسان أن يجبره على حمل أعباء شاقة، أو على السير أسرع مما تسمح به طبيعته المتأنية، فقد ظل الحمار يُغالب قسوة الإنسان عليه.
وعلى الرغم من أنه يؤدي كل ما هو مطلوب منه، إلا أنه لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تجعله يفعل ما لا يريد. وإذا حرن، وقرر تجاهل المطالب الملحة، فإن كل الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن لن تستطيع زحزحته من مكانه.
وقد يتحداك بوقوفه بالعرض في منتصف الطريق. ساعتها، لن تكون قادرا على ضربه بسيارتك المسرعة، لأنك أنت من سيدفع الثمن، بجثمانه الذي سيهجم عليك من الزجاج الأمامي للسيارة.
الكثير يعتقدون أن الحمار “يعورض” في وسط الشارع، لأنه يتأمل بأحوال الدنيا.
في الواقع، إنه يعترض، ويعلن مقاومته لتلك الأحوال. وهو يقف معترضا لكي يبرهن على أنه يتمتع بكل المؤهلات التي تجعل منه انتحاريا من الطراز الأول. يقتل نفسه، ويقلب لك السيارة! وتروح فيها!
المشكلة في مقاومة الحمار لظروفه، هي انها مقاومة عشوائية.
الحمار فيلسوف عميق التفكير، وربما كان عبقريا، إلا انه لا يحدد أهدافه، ولا يدقق في أهميتها. ولهذا السبب، فقد بقي حمارا. يقاوم، ويتحدى، فقط من أجل أن يبقى حمارا. ولا عنَّ له على باله يوما أن يتطور ليكون حصانا. ولهذا السبب أيضا، فان نظرية داروين (النشوء والارتقاء) لا تنطبق عليه. وداروين مات وهو لا يعرف لماذا لم تُسفر تضحيات الحمار عن شيء جديد.
وللحمار فكرة ثابتة عن الكون، لا يغيرها أبدا. ومهما تغيرت الحقائق من حوله فانه يبقى متمسكا بها، ربما لانها ترضيه، أو ربما لأنها كافية تماما له لكي يعيش كحمار.
ولهذا السبب، لا يُحاكم الحمار أفعاله، ولا يوجّه لنفسه أسئلة.
فقط يؤدي دوره. وعندما يضجر، يقف ويرفض الحركة. وقد يبكي بكاء مُرا، لكي يجبرك على الكفِّ عنه.
يمكن القول بسهولة، إنه لا يحب البشر، لأنهم يظلموه، ولا يحترموا حقوقه، بل لا يعرفوا له حقوقا. ولكنه لم يسأل نفسه: لماذا لم تنجح مقاومته لهم في تغيير الظروف المحيطة به.
ولأنه مقتنعٌ تمام الاقتناع بأنه يقوم بأعمال بطولية بما يكفي، فقد ظل يتجنب أعباء السؤال: لماذا لم ننجح؟ ولماذا بقينا نقف في منتصف الطريق؟ ولماذا بقينا ننهق المظالم، من دون أن يتغير شيء؟ أو ما هو الشيء الذي كان يجب أن نؤديه لجعل مقاومتنا أكثر فاعلية؟ وإذا كان الإنسان قد أصبح عدونا الأول، فما هي المصالح الجوهرية التي ستجعله يحل عن ظهورنا، لو أننا هددناها له؟ وأيهما أهم، قتل واحد من الأعداء، أم تدمير مصالحهم أجمعين؟
الحمار لا يسأل. صحيحٌ أنه يفكر بعمق، إلا أن تفكيره خالٍ من الأسئلة.
يستخدمه الانسان، مثلا، في نقل براميل النفط. مثلا، مثلا. أو في جرف التربة لتمهيد الطريق لأنابيب جديدة. مثلا، مثلا. والحمار يعرف أن النفط قضية جوهرية بالنسبة لمصالح عدوه، مثلا، مثلا، إلا أنه لم يفكر بحرمانه من ذلك الشريان الحيوي. وبدلا من أن يكرس كل جهده لتدمير المنشآت والمصافي وقطع الأنابيب، فقد آثر أن “يعورض” في منتصف الطريق وكأنه عبوة ناسفة.
يفرح الحمار عندما يموت ويموت معه عدوه. إلا أنه لا يفكر بأن موت جندي اميركي، مثلا، مثلا، لا يغير في المعادلة شيئا. لأن مليون مكسيكي، أو مهاجر جائع، أو باحث عن اللجوء، سيحل محله.
الحمار لا يسأل. يفكر، نعم، ولكنه لا يقارن نتائج أفعاله بما كان يمكن أن تكون، لو أنه جلس على البرميل، بدلا من السماح بنقله، وبدلا من أن يتجشم عناء تحويل جثمانه الى عبوة ناسفة، تذهب بمكسيكي، ليجد نفسه في مواجهة آخر.
صحيح أن الحمار لا يستطيع استخدام قذائف المورتر (الهاون) أو الصواريخ، أو العبوات الناسفة التي تقطع على العدو خطوط الامداد، وخطوط المال الذي يستخدمه في شراء العصي لضربه، إلا أنه ظل يفضل أن يقتل نفسه أولا، فقط لأنه حمار، وقرر، منذ البداية، أنه لا يريد من دنياه، إلا شيئا واحدا هو أن يظل حمارا الى أبد الآبدين.
هل عرفت الآن، لماذا فضّلت مقاومة الحمير أن تقتل خمسة آلاف مكسيكي، على أن تقطع خطوط الإمداد التي أمدت الاحتلال وعصاباته بمقومات البقاء كل هذه المدة من الزمن؟
هل عرفت حجم البطولات التاريخية التي قامت بها من دون أن تسأل: لماذا بقي الحال على ما هو عليه، حتى بعد مرور عشر سنوات من المقاومة؟
هل عرفت لماذا لم يسأل المقاوم المغوار نفسه: من أجل ماذا جاء الغزاة؟ وبأي أموال مولوا عصاباتهم وكلابهم؟ وما السبيل لتجفيف الينابيع عنهم؟
هل عرفت لماذا لم يسأل المقاوم الجسور، إن كان يمكن للكيان الخرائي الذي أقامه الغزاة، أن يبقى ساعة واحدة لو أن مصافي النفط تعطلت، ولو أن قذائف المورتر ظلت تنزل على منشآت الحقول، ولو أن أوصال الأنابيب تقطعت؟
ولم يسأل: هل كان يمكن للفساد، أو آلة القتل، والتفتيت الطائفي أن تجد تمويلا لو أن عائدات النفط تجففت؟
لم يسأل. لأنه حمار.
والحمار عندما يقاوم، فإنه يقاوم فحسب. هكذا “خبط، لزق”، أو كيفما اتفق، ولا يوجّه لمقاومته أسئلة.
ولذلك، لا تستغرب، لماذا لم تحقق مقاومة الحمير شيئا حتى بعد مرور عشر سنوات من الخراب والتضحيات والعبوات الناسفة.
ببساطة، لأنها كانت تنسف المكسيكي، وتُبقي ما يُموّل غيره!
والخصم قد يكون تيسا، إلا أن تلك المقاومة لم تدرك حتى الآن، أن القصة ليست قصة كم تقتل، بل كم تؤثر، وأين تؤثر، وما هو العصب الذي إذا أمسكت به، أجبرت خمصك على التخلي عن تياسته.
***
ومثل بغل عنيد، ظل كاتب هذه السطور يدافع عن حق أبناء جلدته في مقاومة الغزاة وعملائهم.
ربما لأن فكرته عن الكون ظلت ثابتة. وربما لأنه هو أيضا، لا يسأل ولا يحاكم أفعاله، وإذا ضاق الذرع به، ينتحر.
فذهب ليمسك بتلابيب (رسن) حماره، وصرخ في وجهه: هل تجرؤ لتقول لي، بعد كل هذا البلاء، والله عندك حق، يا بغل؟ (أقصد: يا علي)
***
بعد هذا السؤال الموجوع من جانب أخيه البغل، وقف الحمار في عرض الشارع ليتأمل في أحوال مقاومته، وصَفَن صفنة عميقة، كأنه يدخن سيجارا كوبيّا، وسأل نفسه باللهجة العراقية: “صُدُك، بالله، لماذا تركتُ النفط يجري؟”.
علي الصراف