خلال العام الماضي، استغلت إسرائيل ومصر تفاهماً جائزاً من الناحية القانونية لكنه غير معروف على نطاق واسع – وهو “آلية الأنشطة المتفق عليها” – لتجاوز القيود على عدد ونوعية القوات المصرية المسموح بتواجدها في كثير من أنحاء سيناء. وبقيامهما بذلك فقد أدخلا كلا البلدين تعديلات فعلية على معاهدة السلام الموقعة بينهما عام 1979 دون اللجوء إلى “مراجعة” المعاهدة نفسها وهو إجراء محفوف بالكثير من المخاطر الدبلوماسية. ونتيجة لذلك، تنتشر أعداد غفيرة من قوات الجيش المصري بصفة دائمة في وسط وشرق سيناء (المنطقتان “ب” و “ج” من شبه الجزيرة على التوالي)، بطريقة ونطاق لم تتصورهما الفرق التي تفاوضت على المعاهدة قبل أكثر من ثلاثة عقود. وفي المرحلة القادمة، لا يرجح عكس تلك الحقيقة الجديدة على الأرض وسوف يكون لها حتماً تداعيات عميقة على التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل وحملة مكافحة الإرهاب المستمرة التي تشنها القاهرة، ومصير «حماس» في قطاع غزة المجاور.
المعاهدة مقابل الواقع على الأرض
يفرض “الملحق العسكري” لمعاهدة 1979 قيوداً صارمة على عدد الجنود ونوعية الأسلحة التي تستطيع مصر نشرها في شبه الجزيرة، إلى جانب الأماكن التي يمكن نشرها بها. وعلى وجه التحديد، فإنها حظرت على القاهرة تمركز أي قوات عسكرية في المنطقتين “ب” و “ج” بخلاف القوات خفيفة التسليح أو حرس الحدود. بيد أنه منذ السنة الماضية، غالباً ما وصل التواجد العسكري المصري في هاتين المنطقتين إلى الحد المتعارف عليه في المعارك إذ اقترب من حجم فرقة آلية خفيفة – وبمعنى آخر، بما يعادل تقريباً قوات يبلغ عددها 22,000 جندي مسموح بتواجدها على طول الخط “أ” في غرب سيناء، وهي منطقة لا تخضع لنفس القيود الصارمة التي فرضها “الملحق”.
إن التغير الفعلي في طريقة مراعاة المعاهدة وتنفيذها جاء بفعل سلسلة من التفاهمات الثنائية الهادئة التي تم التفاوض عليها بشكل سلس برعاية “قوات المراقبة متعددة الجنسيات” التي يقودها حالياً الدبلوماسي الأمريكي المخضرم ديفيد ساترفيلد. فعن طريق “آلية الأنشطة المتفق عليها”، فإن تفاهماً قائماً منذ فترة طويلة تم التوصل إليه برعاية “قوات المراقبة متعددة الجنسيات” ولم يتم الإعلان عنه على نطاق واسع مطلقاً، وافقت إسرائيل على السماح بإدخال قوات مصرية إلى مناطق “محظورة” في وسط وشرق سيناء، والسماح لاحقاً أن يكون هناك توسع مستمر في حجم ونوعية المعدات العسكرية. واليوم، تقوم القاهرة بانتظام بنشر طائرات الأباتشي الهجومية والحاملات المدرعة وكتائب قوات الصاعقة من النخبة في هاتين المنطقتين، إلى جانب قيامها بين الحين والآخر بحملات استطلاعية بطائرات إف 16، وإدخال سرية أو سريتين من الدبابات وربما أكثر من ذلك. وقد قام الجيش الثاني، تحت قيادة اللواء أركان حرب أحمد وصفي، بالتمركز في العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء، لبعض الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، تم منح الإذن بنشر وحدات أصغر من الجيش الثالث من خلال “آلية الأنشطة المتفق عليها” في أجزاء جنوبية من سيناء.
وقد تم تفسير الهدف من نشر القوات المصرية إسمياً كـ “تمارين”، إلا أن ذلك الهدف لم يكن مطلقاً مهمة لتدريب الوحدات المعنية. وعلاوة على ذلك، فمن خلال تجديد الترتيبات شهرياً، خلقت القاهرة وإسرائيل وضعاً يُسمح فيه لفرقة كبيرة من الجيش المصري بالتواجد بصفة دائمة على أرض سيناء. إن إنهاء هذا التغير غير الرسمي في “الملحق العسكري” لم يعد يبدو منطقياً – بل إن الوضع يقترب بشكل حتمي من مراجعة غير معلنة للمعاهدة، ولا تستلزم بالضرورة إعادة التفاوض على أي من بنود تلك الوثيقة. ومن خلال تجاوز الدعوات في مصر لإجراء مراجعة رسمية على “الملحق العسكري”، فقد تحاشيا الطرفان مخاطر التورط في فتح المعاهدة لعملية مراجعة يمكن أن تدفع الكثير من السياسيين إلى وضع نهاية لها.
حملة سيناء
على مدى الأشهر القليلة الماضية، ساعد التشكيل الجديد للجيش المصري في شبه الجزيرة على حصوله على اليد العليا في المعركة ضد الميليشيات الإرهابية التي وجدت لها ملاذات آمنة هناك. وبعد عزل المناطق الشمالية الشرقية من سيناء المأهولة بالسكان وإخلائها إلى حد كبير – وأحياناً باستخدام أساليب سياسة الأرض المحروقة الوحشية ضد قرى البدو ومعسكراتهم ومناطقهم – وضع الجيش العديد من الفصائل الإرهابية في موقف دفاعي، وأبرزها جماعة “أنصار بيت المقدس”. وقد قُتل حتى الآن نحو عشرين من كبار قادة الإرهابيين، رغم أن زعيم “أنصار بيت المقدس” عبد الله الأشقر قد فر من الاعتقال.
ومن المتوقع أن تكون الخطوة التالية شن هجوم خاطف ضد معقل الإرهابيين الرئيسي في جبل الحلال، المعروف كذلك باسم “تورا بورا سيناء”، حيث يحتمي الآن نحو ألف من رجال الميليشيات المسلحين. وسوف يكون الهدف الثانوي هو منطقة جبل عامر القريبة من الحدود الإسرائيلية. وفي كلتا الحالتين، يرجح أن تلجأ القوات المصرية إلى القصف الجوي والقصف بالمدفعية بدلاً من اجتياح المنطقة بقوات المشاة. وبالفعل غادر بعض الإرهابيين سيناء خوفاً من الهجوم الوشيك.
لدى إسرائيل مصلحة واضحة في نجاح الحملة المصرية، حيث هاجم الإرهابيون في سيناء العديد من الأهداف الإسرائيلية على طول الحدود من خلال التفجيرات الانتحارية والصواريخ والكمائن. وفي الواقع أن إسرائيل حثت القاهرة منذ فترة طويلة على تبني موقف أكثر فاعلية واستباقاً في ملاحقة هؤلاء الإرهابيين.
ومن جانبهم، يرى المسؤولون المصريون أن مقاتلي سيناء يمثلون تهديداً مباشراً على أمن الداخل المصري. وفي الواقع أن الشكوك حول عمل جماعة “أنصار بيت المقدس” وغيرها من الفصائل عبر قناة السويس لها ما يدعمها. فقد أعلنت تلك الجماعات بالفعل مسؤوليتها عن هجمات مثل التفجير بسيارة مفخخة أمام مقر الأمن المركزي في مدينة المنصورة بالدلتا في 24 كانون الأول/ديسمبر، ذلك التفجير الذي أودى بحياة ستة عشر فرداً من قوات الأمن. كما حاول الإرهابيون إعاقة حركة الملاحة في قناة السويس مستخدمين قذائف صاروخية، الأمر الذي دفع القاهرة إلى اتخاذ تدابير أمنية خاصة حول القناة، من بينها تثبيت نظام استطلاع جديد بمشورة الأمريكيين.
وهذه المخاوف المصرية – إلى جانب تخوف إسرائيل من قيام الإرهابيين نفسهم بمهاجمة مسار الشحن الخاص بها في خليج العقبة، وكذلك مطار إيلات والمراكز السكانية المختلفة على طول الحدود الممتدة مسافة 250 كيلو متراً – أوجدت قاعدة صلبة لهذا التعاون الثنائي العميق الذي نشهده الآن في سيناء. وقد وصل مستوى التعاون وتبادل المعلومات إلى أعلى مستوياته، كما يتواصل حالياً كبار القادة العسكريين من كلا البلدين بشكل شبه يومي تقريباً.
ومن جانبها، أثبتت “قوات المراقبة متعددة الجنسيات” أنها أداة موثوقة ومتميزة وفعالة لتسهيل التبادلات بين المصريين والإسرائيليين بعيداً عن التدقيق العام. وهي تلعب دوراً لا يُقدَّر بثمن في ضمان التزام كلا الطرفين بالتفاهمات التي توصلا إليها، مع توفير وسيلة يمكن من خلالها حل المشاكل والحيلولة دون وقوع الأزمات بسرعة. ولهذا فإن “قوات المراقبة متعددة الجنسيات” تُعد بمثابة نقطة اتصال لا غنى عنها في ظل الوضع العسكري المتغير في سيناء.
معضلة «حماس»
ينظر الجيش المصري إلى نظام «حماس» في غزة الآن على أنه عدو، حيث يلقي باللائمة عليه علانية ويتهمه بمساعدة الإرهابيين في سيناء. ويدّعي الجيش أنه حصل على معلومات موثوقة بأن الإرهابيين في شبه الجزيرة بل وفي الداخل المصري تم تهريبهم إلى غزة في مرحلة أو أخرى، حيث يتلقون تدريباً على استخدام المتفجرات وغيرها من الأنشطة الإرهابية في القواعد العسكرية التابعة لـ «حماس». كما اتهمت القاهرة شخصيتين بارزتين في “كتائب عز الدين القسام”، الجناح العسكري لـ «حماس» ، بالإشراف على هذا التدريب وهما: رائد العطار، قائد الكتيبة الشمالية للجماعة في رفح، وأيمن نوفل، القائد السابق للكتيبة المركزية الذي سُجن في مصر أثناء رئاسة حسني مبارك لكنه فر عائداً إلى غزة أثناء ثورة 2011. إن المخابرات المصرية على دراية بالاتفاق القائم بين «حماس» والجهاديين السلفيين في غزة: ويتمثل تحديداً في عدم قيام «حماس» بمنع الجهاديين السلفيين من التعاون مع زملائهم في سيناء، بينما يوافق السلفيون على تجنب أي إجراءات من شأنها أن تشعل المواجهات مع إسرائيل على طول حدود القطاع.
وفي غضون ذلك، حثت السلطات العسكرية المصرية وسائل الإعلام الوطنية على الالتزام بحملة دعائية قاسية معادية لـ «حماس». وخلال الأيام العشرة الماضية وحدها، دعا العديد من كبار الضباط الذين لم يتم الإفصاح عن أسمائهم إلى شن هجوم مباشر على القطاع أو القيام بحملة – بمساعدة السلطة الفلسطينية، وكذلك إسرائيل ضمنياً – لتأليب سكان القطاع ضد حكومتهم التي لا تحظى بشعبية.
وتماشياً مع وجهات النظر هذه، طلبت السلطات المصرية من إسرائيل مراراً وتكراراً أن تدرس أفكاراً جديدة مبتكرة لزيادة الضغط غير العسكري على «حماس». بيد أن الدولتين لم تتوصلا بعد إلى استراتيجية مشتركة حول تلك الجبهة. وفي حين يرى قادة الجيش المصري أن القضاء على القوة السياسية لـ جماعة «الإخوان المسلمين» في الداخل يتطلب التخلص من الحركة الفلسطينية الشقيقة لـ «الجماعة» في غزة، فإن السلطات الإسرائيلية مترددة في دفع «حماس» إلى حافة الانهيار خشية حدوث عواقب غير معلومة: وهذا يلخصه تحديداً السؤال التالي، من الذي سيحل محل «حماس» حال سقوط النظام عن طريق احتجاجات جماهيرية؟ ويتخوف الإسرائيليون من الفوضى التي ستضرب القطاع، أو ربما حدوث الأسوأ، وهو استيلاء فاعلين أكثر تطرفاً على القطاع مثل “حركة الجهاد الإسلامي” الفلسطينية المدعومة من إيران أو الجهاديين السلفيين.
ومن جانبها تتخذ «حماس» إجراءات لإحباط أي مظاهرات جماهيرية أو مساعي أخرى لتخريب حكمها. ويشمل ذلك توجيه تهديدات واضحة وموثوقة للسكان من أن أي أعمال شغب سوف تقابل بالذخيرة الحية منذ الوهلة الأولى.
الخاتمة
إن الانتشار الكبير للجيش المصري في مناطق كانت محظورة عليه في السابق في وسط وشرق سيناء – إلى جانب زيادة التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل وعزل قطاع غزة من خلال تقييد الحركة المرورية في معبر رفح وإغلاق أكثر من ألف نفق تهريب بين القطاع وسيناء – خلق وضعاً جيوسياسياً جديداً في شبه الجزيرة، وضعاً يستحق الدعم الأمريكي. إن إرساء الاستقرار وجلب الهدوء إلى سيناء سوف يقضي على خطر تنفيذ عمليات إرهابية تهدد كلاً من العلاقات المصرية الإسرائيلية وسلامة الشحن عبر قناة السويس والمسارات البحرية الرابطة بها. إن تلك النتيجة سوف تُضعف أيضاً قبضة «حماس» على غزة؛ بل في الواقع أن بعض قادة «حماس» قد أعربوا بالفعل عن رغبتهم في تقديم تنازلات للسلطة الفلسطينية والسعي إلى التوحيد الرسمي بين الضفة الغربية وغزة. وهذا ما هو إلا مؤشر واحد على أن الحقائق الجديدة في مثلث مصر وإسرائيل و «حماس» سيكون لها حتماً تأثير كبير على المشهد الفلسطيني.
*إهود يعاري هو زميل ليفر الدولي في معهد واشنطن ومعلق لشؤون الشرق الأوسط في القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي.