هل تتعجب حين يصدق من حولك قصة هبلة أو شائعة مغرضة أو نظرية مؤامرة لا يمكن أن يصدقها واحد لديه أدنى مستوى من التعليم؟ الموضوع مش صعب.
تعالوا نشوف.
يناير ١٩٩٧. يعنى من ١٦ سنة. لاحظت هرجا ومرجا وناس بتشاور وبتتكلم. ايه ده معقول؟ إنه المذيع اللامع مفيد فوزى يمشى داخل النادى. كان المذيع اللامع مصحوبا بكاميرا فيديو وكان هو ممسكا بميكروفونه ويقوم بإجراء حواراته مع مرتادى النادى.
معقول؟ هل يمكن أن تكون هذه هى فرصتى لأظهر على شاشة التليفزيون؟ هل يمكن أن يقوم المذيع اللامع مفيد فوزى بسؤالى أمام الكاميرا فأظهر على أكثر البرامج شعبية فى هذا الوقت؟
«حديث المدينة» كان هذا هو اسم البرنامج ولم أكن أعرف أحدا إلا وكان يشاهده.
الآن كل ما يجب عمله أن أكون هادئا وأفكر فى طريقة ما لأظهر فى البرنامج بدون أن أكون لحوحا فينفر منى المذيع اللامع.
ها هو قادم، سيمر بجانبى فى خلال لحظات. (قول أى حاجة، قول أى حاجة)
استجمعت شجاعتى وقلت الجملة التى ربما كانت وقتها فعلا حديث المدينة
«انتو بتعملوا موضوع عن عبدة الشيطان ولّا إيه؟»
توقف المذيع اللامع، التفت ناحيتى.
«تحب تتكلم على الموضوع»
«ياريت»
(الله !!!!معقول؟ شكلى حطلع علـى التليفزيون الليلة).
دارت الكاميرا وسألنى المذيع اللامع سؤالا واحدا: «عبدة الشيطان، ماذا تقول؟»
تظاهرت بالهدوء والثبات واحتفظت بابتسامتى عشان اطلع حلو «ومكسر الدنيا» وجاوبت هكذا:
«أنا شايف أن موضوع عبادة الشيطان ده مبالغ فيه. يعنى لو هم شباب مدرسة أو جامعة بيشربوا مخدرات مثلا، ده غلط، دى خطيئة. بس عبادة الشيطان دى خطيئة تانية خالص، وما ينفعش نقبض على ناس ونشهر بيهم عشان مجرد لابسين أسود».
انتهت إجابتى وانتظرت السؤال التالى ولكن لم يكن هناك سؤال تال. هز المذيع اللامع رأسه وشكرنى وانصرف.
مش مشكلة، ايه يعنى سؤال واحد. المهم سأكون على التليفزيون الليلة.
رجعت البيت وأخبرت أهلى واتصلت بأقاربى وأصدقائى. أمى استلمت التليفون وكلمت العيلة فى المحلة والمنصورة واسكندرية. «باسم حيظهر النهاردة فى حديث المدينة»؟.
جاء ميعاد البرنامج. السندوتشات والحاجة الساقعة جاهزة وأسرتى كلها مجتمعة أمام التليفزيون.
يبدأ المذيع اللامع مقدمته الملتهبة عمن انتهكوا حرمة الدين بعبادتهم للشيطان ويتساءل كيف سيواجه المجتمع هذا الخطر الاسود وكيف سنحمى اولادنا منه.
حوارات كثيرة عديدة مع أهل المنطقة التى يسكن فيها أحد المقبوض عليهم.
«لاحظت عليه حاجة؟»
«آه والله يا بيه كان بيلبس اسود كده وبيشترى مزيكا غربى وشكله مش طبيعى».
كان هذا كافيا لأهل المنطقة لتصنيفه بأنه من عبدة الشيطان.
ولكن ماذا نتوقع من الناس وهم يقرأون على الصفحة الأولى للأهرام والأخبار تفاصيل القبض على هؤلاء وتنشر الصحف العريقة صورا للأدلة المحرزة فى القضية؟ فنكتشف أن الأدلة الدامغة هى «تى شيرتات» سوداء اللون عليها صورة مايكل جاكسون، وكاب بيسبول أسود لأحد الفرق الرياضية الأمريكية وشرايط كاسيت لفرق ميتاليكا ونيرفانا وبلاك ساباث.
وسائل الإعلام كلها لم يكن لها سيرة إلا هؤلاء الشباب الذين كانوا يقومون بعبادة الشيطان وكانوا يقومون بتقديم الضحايا والقرابين وللتأكيد على ذلك شرئط فيديو لحفلات الروك التى كانوا يقومون بها بهز رأسهم بعنف (head banging).
كانت هذه هى الأدلة، وكان هذا هو المزاج العام. الشعب مصدق أن فيه عبادة شيطان فى مصر؟ لماذا؟ لأن التليفزيون والصحف تقول له هذا.
عيال صغيرة ومنهم من ينتمون إلى طبقة مستريحة (نقطة مهمة تستخدم لتأليب الرأى العام) يستمعون إلى أغان غربية (أنت قلت غربية؟ يبقى التهمة أكيد لابساهم) وجدوا أنفسهم فى وسط قضية أقل ما يقال عنها إنها قضية هبلة وغبية ولكنها كانت كافية لتقضى على مستقبلهم وربما تحطم حياة عائلاتهم.
أتذكر كم الساعات التى وفرها التليفزيون بقناتيه الأولى والثانية لمناقشة القضية. أتذكر كم الصفحات التى كتبت عن هذا الموضوع والمانشيتات الساخنة من عينة «الجنس والمخدرات فى أوكار عبادة الشيطان» الأهرام والأخبار وطبعا المجلة الرائدة روزاليوسف التى قادت الهجوم الشرس على هؤلاء الشباب. لذلك لا تتعجب إن وجدت نفس الأسماء الذين قادوا هذا الهجوم هم نفس الأسماء الذين يملأون أذنيك اليوم بنظريات المؤامرة.
فى وسط هذا الجو المشحون عملت أنا فيها «سبع رجالة فى بعض» وقررت أن أقول رأيا مختلفا على شاشة التليفزيون المصرى.
زاد تحمسى وأنا أشاهد الحلقة. فالحلقة من أولها لآخرها شتيمة وتقريع ونصيحة لهذا الشباب البائس. الكل ينتقدهم ويدين ما حدث.
«هذا ضد قيمنا وديننا»
ماحدش يقدر يعترض لكن هل هذا حدث فعلا لتشوه هؤلاء وتقضى عليهم؟
مرت نصف ساعة ثم ساعة، وكام فاصل إعلانى.
خالى وخالتى يتصلان من المحلة
«إيه يا عم انت فين؟ مش حتطلع والا ايه. انت شكلك بتضحك علينا يا عم؟»
كنت مكسوف وفى «نص هدومى»
«والله انا طلعت معاه. اصبروا شوية»
مرت اللقاءات فى الشارع، فى الجامعة الامريكية ولم أظهر. واستمر البرنامج ولم أظهر.
كان شكلى وحش أمام عائلتى الذين تسمروا أمام شاشات التليفزيون فى كل مكان.
ها هى مشاهد وحوارات النادى الذى أجرى فيه الحوار معى. يبدو أننى سأظهر قريبا.
لم يحدث.
ولكننى لم أشغل نفسى بذلك (يعنى مش قوى، بصراحة كنت منفسن حبتين). وخصوصا حين قابلت بعض الأصدقاء من النادى وممن أعرفهم فى الجامعة الأمريكية. وجدت أننى لم أكن أنا الوحيد الذى رفض هذه الاتهامات «العبيطة». ووجدت ايضا أننى لست الوحيد الذى أزيل بعملية مونتاج دقيقة من الحلقة.
فيبدو أنه إن كان لديك رأى تحاول أن تظهر فيه بعض العقلانية بعيدا عن هيستريا الإعلام فنصيبك سيكون سؤالا واحدا فقط وهزة دماغ.
حين أفكر فى هذا الموضوع الآن لا أظن أن إذاعة حوارى أو إذاعة حوار من اتفق معى كان سيحدث أى فرق. فالحكم كان قد صدر ونجحت أجهزة الدولة عن طريق الإعلام فى توجيه الرأى العام واقناعه ان هناك فعلا من يعبد الشيطان فى مصر.
فقد جاء هذا الموضوع ليضيف نكهة النصر على عيد الشرطة الذى تصادف أن يأتى قبل رمضان، فيقوم المذيع اللامع باستغلال هذه الفرصة الذهبية لإجراء حوار رائع مع حسن الألفى وزير الداخلية وقتها. وبعد انتصاره المدوى على شوية مراهقين شهدنا سقوط الوزير المدوى بعدها بشهور فى مذبحة الدير البحرى.
لا يهم أن مجموعة من هؤلاء الشباب قد تركوا مصر إلى غير رجعة ولا يحملون الا الغل والغضب لما كانوا يعتبرونه وطنا. لا يهم تحطيم حياة وسمعة هؤلاء الشباب وعائلاتهم. المهم ان تقتات وسائل الاعلام على لحومهم عن طريق إذاعة التقارير المضروبة التى تمليها الجهات السيادية ثم إطعام المشاهدين بهراء ليس له أى علاقة بالحقيقة.
لا يهم خروج المحققين والقضاة الذين تولوا هذه القضية بعدها بشهور ليقولوا إنه لم تكن هناك قضية. لا يهم إن صرح المستشارون والمحامون والقضاة بالفم المليان إنه ليس هناك شىء اسمه عبادة شيطان فى مصر وإنها قضية مضروبة. لم نجد هذا فى الإعلام لأن المذيع اللامع ومجلة روزاليوسف والأهرام والأخبار لم يبالوا ببذل عشر الجهد الذى بذلوه لإظهار هذه الحقيقة لأنهم تعبوا جدا فى تصدير حقيقة اخرى للناس.
حدث ذلك كله والدولة لا تسيطر الا على قناتين (بدون حساب القنوات الاقليمية) وبحفنة من الصحف الحكومية. تخيل الآن ماذا تستطيع الجهات السيادية تحقيقه وهناك الفضائيات التى لا تقول «لا» ومعها صحفها «المستقلة» المستعدة لتصدير أى «حقيقة» تريدها الدولة.
موضوع عبادة الشيطان يبدو موضوعا قديما ولكنه موضوع متجدد وموجود ودليل على ان غسيل الدماغ فى وطننا العربى اسهل بكثير مما تظن.
الدولة التى استطاعت ان تقنع شعبا بالكامل بقضية تافهة وغير حقيقية مثل قضية عبدة الشيطان مازالت تواصل نجاحاتها فى اقناعنا بالمؤامرات الماسونية والتخطيطات العالمية وتستطيع ان تقنعك أن عوالم المجرة كلها تتآمر عليك.
ليس من الصعب على الإطلاق أن أقنعك بأن شخصا ما عميل أو جاسوس أو يخطط لتدمير وتقسيم مصر.
الوجوه هى نفس الوجوه، والصحفيون والخبراء لم يتغيروا. والمدرسة واحدة، وعبيد المأمور على أهبة الاستعداد لأن المأمور لم يتغير.
ربما تلبس انت شخصيا قضية تعتبرها مضحكة من فرط هبلها ولكن لا تقلق، مع الجرعة المضبوطة من البرامج والمقالات ربما تصدق انت شخصيا أنك مذنب.
كلها مسألة وقت.