في صباح ما.. منذ أربعين عاما وأكثر.. كانت المرأة والأم الجميلة السيدة “بي” تأخد أطفالها الستة اليافعين إلى مسبح “وود بريدج” شمال فرجينيا..
اليوم جميل والشمس تملأ كبد السماء والأم توزع ابتسامتها في كل إتجاه وفي وجوه كل الحضور إلى المكان. غافلها الولد وسار إلى زاوية بعيدة عن نظرها في لحظة واحدة تكدرت السماء بلون أسود داكن وملأ المكان الصياح والعويل في كل زواياه.. إنه أصغر أبناء السيدة “بي” يسقط في المسبح ولأنه لا يحسن السباحة فقد مات في لحظات غرقا في المكان قبل أن تصل إليه أيدي المنقدين من قدره المحتوم.
إنغرس السكين في قلب الأم المفجوعة والأطفال الذين كانوا ستة تقلص عددهم وأصبحوا خمسة فقط.
في البيت، المكان كله هو ذاكرة الطفل الراحل ولم يعد في العمر متسع لطفل آخر في حياة السيدة “بي”.
كابدت الحزن في صمت عميق وأقفلت نوافد بيتها في وجه كل ريح عاصفة تعبر منطقة شمال فرجينيا قبل أن تقرر مواجهة الحياة بوجهها العاري وتعود إلى المسبح المكان الذي قبرت فيه إبتسامة طفلها الخجولة. هناك كان يبتسم للمرة الأخيرة وينادي بإسمها قبل أن يأخده الغياب إلى آخر العمر.
عادت “بي” وهي إمرأة غير التي كانت.. وفي قمة أوجاعها، قررت أن تخط مسار حياة غير الذي كان في حياتها لكل الذي إنقضى من العمر.
اختارت المرأة الحزينة التي خبرت وجع الفقدان في حوض سباحة أن يكون تعلم السباحة وتعليمها لأطفال شمال فرجينيا قضية حياتها. احتاج الأمر منها كثيرا من الصبر والجهد وقد نجحت في أن تكون وفي هذا العمر واحدة من بطلات السباحة بين الأميركيين وعلى المستويين المحلي والفيدرالي.
وهي تكبر منجزا وشخصا بين الناس، لم يكن في العمق من قلبها سوى تلك الغاية النبيلة التي اختارت أن تكون حياتها مسرحا لها أن تعود إلى بيتها وجيرانها وتحمي الأطفال من خطر الموت غرقا.
أطلقت السيدة “بي” وهي تحاول الإستراحة من أتعاب أسفارها في أميركا والعالم نداءها في أذن كل أم تقابلها في مناسبة اجتماعية أو في عيادة الطبيب أو حتى في المراكز التجارية.
“هل يحسن أطفالك السباحة؟” ومتى كانت الإجابة بالنفي من قبل أي أم ومن أي عرق أو لون أو ديانة، بأن أبناءها لايعرفون السباحة ستكون هناك جولة أخرى من الحديث بين السيدة الموجوعة القلب والأم التي لا تدرك معنى أن تعلم أبناءها السباحة، ولن تغادر “بي” المكان إلا وهي مطمئنة لإدراك الأم لحجم المخاطر التي تتهدد أطفالها.
تعطي “بي” رقم هاتفها لكل أم تقابلها وتحدد مواعيدها على جدول الأم الثانية وتلتزم بتدريب الأطفال في بيتها ومن وقتها، فحياتها هي للآخرين ولسلامة كل أطفال منطقة شمال فرجينيا.
من الصعوبة بمكان تصور مسار حياة كاملة قائمة على هذه القناعة.
عندما فتحت خط هاتفها لترد على اتصالي، كان العمر قد بلغ بها الثمانين عاما. لاتزال في قوة يقينها وتملأ المكان بسلطة حضورها وتعطي للأطفال من روحها كل الذي يحتاجون إليه من يقين وجرأة لتجاوز عقبة الخوف من الماء وامتلاك جرأة الاقتحام وتعلم السباحة في أيام قبل أن تكون المسألة ممكنة التنفيد في أسابيع وشهور.
تقول لي سيدة عربية من تونس تعيش هنا في أميركا منذ عمر كامل، إنها اهتدت إلى سيرة هذه المرأة من خلال جيرانها في مدينة “ليك بريدج” وأنها وجدت منها كل الترحيب بها وبأطفالها منذ الساعات الأولى وأنها الآن تقضي معها السنة السادسة على التوالي وأن أطفالها يحققون تقدما رائعا في تعلم فنون السباحة وأنهم بصدد تحقيق نتائج رائعة في المنافسات المدرسية من خلال ما يتلقونه من دروس وتعليمات من السيدة “بي”.
وعندما أسأل عن هذا الرصيد واليقين المقيم في العلاقة، تقول لي التونسية الأميركية السيدة “سلوى” إنها وأولادها تركوا الجدة في “تونس ” والله اكرمهم ب جدة ثانية هنا في أميركا.
المرأة وأنا أسألها عن طبيعة العلاقة التي تجمعها بهذا العدد الهائل من الأطفال، تقول لي إن الأطفال جميعهم بصرف النظر عن ألوانهم وأديانهم وثقافاتهم هم أحفادها وأنها حريصة في كل مناسبة تدريب على أن تخرج أفضل ما فيهم من عناصر الثقة في الذات والقوة في الإنجاز وأنها عندما تتعامل مع هؤلاء الأطفال فإنها لاترى فيهم لا اللون ولا الدين ولا الخلفيات العرقية والثقافية، فالأطفال جميعا حالة واحدة في عينيها تحتاج منها إلى إخراج أفضل ما لديها من قدرة على التعليم ومدهم باليقين الذي يحميهم من مخاطر الموت غرقا في أي مسبح أو في أي مكان من العالم .
في ذاكرة المرأة المئات من القصص لأطفال عبروا مدرستها وتعرضوا لمواقف قاسية في الحياة وكانت إجادتهم للسباحة منقدهم الوحيد من محنة الفقد لهم ولعائلاتهم.
في رصيد المرأة التي اختارت الحياة خارج ذاتها حتى الآن 10 آلاف طفل من 150 دولة من جهات العالم المختلفة.. كل هذا العدد الهائل تعلم على يدي هذه المرأة فنون السباحة بمختلف أشكالها وطقوسها وعشرات من أطفال أميركا وولاية فرجينيا هم خريجو وخريجات مدرستها في السباحة.
كل هذا والمرأة لا تزال تؤمن بدورها وتصر على ممارسة هبتها الروحية والقيمية لأهل المنطقة التي اختارت الحياة فيها..
تقول السيدة “بي” وهي تجهز كوبين من الشاي في مطبخها، إنها قبل 40 عاما عندما اختارت أن تعيش بمعية الراحل زوجها الموظف في وزارة الدفاع في هذا البيت كان شرطها الأساسي أن يبني لها الزوج مسبحا في حديقة البيت.. مسبح يستجيب لمواصفات تعليم السباحة فيه لكل من يرغب في ذلك من الصغار والبالغين على حد سواء.
لم تكن ميز انية العائلة حينذاك تسمح بتحقيق رغبة الزوجة الحبيبة إلى قلب زوجها مما اضطره إلى تقسيط دفعات تكاليف مشروع بناء المسبح.
مات زوج “بي” وإستمرت الحياة معها على نفس الإيقاع وعند نفس القناعات التي لا تحيد عنها.. لم يكن خيار جعل الحياة محطة كرم منها لتعليم كل إنسان فنون السباحة يكفيها كرمها الفطري، بل إنها فتحت بيتها أمام طفلين آخرين يتيمين من جهتين مختلفتين من العالم.
عندما كانت السيدة “بي” تبحث لي عن مساحة لقاء في جدول ارتباطاتها على الهاتف، كانت تقف عند الباب الخارجي لمستشفى “فيرفاكس” الذي يبعد عن بيتها بمسافة حوالي ساعة.. في اللحظة إياها أبلغها الأطباء بالموت السريري لأ كبر بناتها.. في قلبها تلك المساحة الهائلة من وجع الأمهات وهي تواجة مرة أخرى ألم الفقدان الأول لولدها و زوجها والآن يتواعد معها القدر مرة أخرى.
سؤال الأطباء الذي كان عليها أن تجيب عليه في ذلك المساء، هو إن كانت تقبل بنزع أجهزة التنفس الصناعي عن ابنتها، لكنها بقلب الأم اختارت أن تبقي على خيط الأمل قائما حتى في اللحظة المستحيلة.
وسط هذه الموجة من الأحزان تفقد “بي” قريبا آخر إنها بنت العم وصديقة العمر “سوزن” تفارق الحياة بعد أن استهلكت متاعب الحياة صحتها..
في خضم كل ذلك، تقرر هذه المرأة الواقفة دوما عند خيار الإيمان بالحياة والإنسان و صناعة الخير، الإبقاء على برنامج تدريبها للأطفال في مواعيده دون تغيير وتضيف إلى برنامج التزاماتها المكثفة في ذلك المساء استقبالي بمعية فريق التصوير في بيتها.
إستندت على أريكتها وأخرجت من ثلاجتها مشروبها المفضل وعرضت علي الخيار بين مشروب ساخن أو بارد واستعرضت معي في اللحظة تلك تذكارات من جهات مختلفة من العالم لأطفال من أعمار مختلفة ولعائلات من جذور وثقافات مختلفة..
في جدران بيت “بي”، يجتمع العالم في جهاته الأربعة تماما كما هو العالم الخارجي في قلبها.
تستعرض معي أيضا محطات من حياتها من خلال ألبومات صورها وتعود بذاكرتها بعيدا لتقول لي إن الكرم الذي يطبع شخصها يعود في جذوره إلى تلك الصورة التي تملأ قلبها في سنوات الأزمة الإقتصادية التي عبرت أميركا في عشرينات القرن الماضي عندما اختارت عائلتها وآخرون من الجيران في ولاية نيويورك حينذاك أن يضعوا صورة لقط العائلة عند مدخل الباب الرئيسي للبيت في إشارة إلى ترحيبهم المطلق بكل جائع أو محتاج إلى مساعدة.
هذه الخلفية تفسر لي وجود ذلك العدد الهائل من القطط في بيت السيدة “بي” وهي تقدم لهم كل العناية والرعاية، بل إن كل قط ضيع الطريق أو تشرد لسبب أو لآخر في الطرقات يجد دوما ضالته في بيت هذه المرأة التي قررت أن تحيا خارج ذاتها وعلى مدار الساعة.
عند فراغنا من كؤوس الشاي، دعتني السيدة “بي” إلى زيارة حديقة بيتها الخلفية وهناك وقفت على قصة المسبح المخصص لتعليم السباجة لأبناء وبنات العائلات في منطقة شمال فرجينيا ليلفت انتباهي وجود غطاء كبير يملأ الفضاء، وهو مصنوع من قماش بلاستيكي وعندما سألت المرأة ما قصته وما خلفية تغطية المسبح؟
ردت علي في هدوء ويقين أن من بين السكان في هذه المنطقة عائلات مسلمة ومنهم من لايرغب في أن تمارس نساؤهم وبناتهم السباحة في العراء على مرأى من الغرباء، لذلك بادرت بتغطية المسبح احتراما لخصوصيتهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية والأخلاقية.
تأملت المشهد من حولي عميقا، ونظرت إلى السماء وشكرت الله على أن هذا العالم يحمل بيننا أرواحا من هذه الطينة العظيمة لتعلمنا أن الحياة ممكنة خارج الذات .بل إنها أكثر في حالتها، أكثر اتساعا مما هي عليه داخل الذات..
رابح فيلالي
رابح فيلالي إعلامي وروائي خريج جامعات قسنطينة وعنابة بالجزائر، ومعهد سيرينيا للاعلام بفرنسا. تنقل فيلالي بين الصحافة المكتوبة والتلفزيون في مشوار مهني توزع بين تقديم الأخبار و البرامج الثقافية والحوارية السياسية. عمل فيلالي لصالح عدة محطات إخبارية عربية قبل أن يستقر بقناة “الحرة” حيث يعمل مراسلا متجولا لها في واشنطن. إلى جانب العمل الإعلامي، يكتب فيلالي الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى المقال السياسي.