خاص (وطن) – محمد احمد عبد السلام- كـان الـجو بارداً ودرجـات الـحرارة تـحـت الـصفر بحوالى ستة أو سبعة درجات تقريباً إن لـم تـكن أكـثر بـرودة من ذلك، إقـتربت مـنها تدريجياً وهى جالـسة أمـام خـيمة بلستيكية ضعيفة أمام الـبيت الأبيض فى واشـنطن الـعاصمة، كـان رجـال الـشرطة فى كل مكان بينما وقـف حوالى 10 أو 15 شـخص أمام بـوابة البيت الأبيـض يهتفـون مـطالبين أوباما بالإفـراج عـن سـبعة رهائن مـحتجزين.
جـذب إنتباهى اللافتات التى تـضعها أمام وداخل الخيمة، والـتى تندد بممارسات الكيان الـصهيونى وبإنحياز الولايات المتحدة الدائم لإسـرائيل، ورغـم الـبرد القارص جلـست الـسيدة العجوز مرتدية مـعطف ثـقيل وتـغطى رأسـها بـما يشبه الـقبعة لـتخفف من حدة برودة الـجو.
إقـتربت مـنها وسألتها عم إذا كانت فلسطيينة، أجـابت بالنفى، سـألتها عما إذا كانت يـهودية من مـؤيدى الـسلام، أجـابت فى دهـشة “لا لـست يهودية ولا أتمنى ذلك إننى ضـدهم وضد ممارساتهم، ويجب علينا جـميعاً أن تنخذ كل مايلزم لمنع الدعم عـنهم، ولـنزع سلاحهم الـنووى”. إنـدهشت كثيراً من ردها ومن صلابتها فى هذا الـجو البارد، سـألتها مـرة أخرى عن راشيل كـورى، ناشطة السلام الأمريكية التى إنحازت للقضية الفلسطينية وقتلتها الجرافات الأسرائيلية عام 2003، قالت لى أنـها تـعرفها، لكن لا يوجد أى صلة صداقة أو قرابة بينهما، لكـن الـيهود دائماً يقتلون وهذا لـيس بـجديد عليهم.
الـسيدة كونسيبشن بيتشيوتو، زادت دهـشتى أكـثر وأكـثر حيـنما سـألتها عن الوقت الذى أمـضته منذ إعـتصامها أمام الـبيت الأبيض، قـالت لى أنها هـنا منذ 32 عـاماً، تـحديداً مـنذ عام 1982! وهى موجودة هنا لـتطالب الإدارات الأمريكية المـتعاقبة بتـغيير سياساتهم تـجاه الـكيان الـصهيونى، وإجبارهم على التوقف عن الـقتل وإيقاف مساعدتهم عـسكرياً. الإصـرار فى عينى الـسيدة العجوز كـان واضـحاً رغم تـقدمها فى الـعمر، سـألتنى من أين انت؟ قـلت لها أنا مـن مـصر، الدولة المجاورة لإسـرائيل مـباشرة ونحن على مدار عقود ورغم توقيع إتفاقية سـلام بين البلدين لم نسلم من إعتدائتهم، وقـتلهم للـجنود المـصريين من فـترة لأخـرى. قـالت لى على الـعرب أن يـحاولوا حـصار إسرائيل وأن يمنعوها عن إمتلاك السلاح النووى بشتى الـطرق، خاصة الـطرق السلمية.
لـلأسف الأوضـاع فى مـصر ليست على مايرام، لقد قام المصريون بثـورة والجيش قمعها وإنقلب على سـلطة أول رئيـس منتخب فى تاريخ مـصر،وكنا نأمل بعد إختيار رئيس من نفس فـكر غالبية المصريين أن يغير هذا الـواقع. لـم تجبنى هذة الـمرة، لكن ثباتها كان واضح جداً وكأنها واثقة من عدالة مطالبها وصحة قـضيتها.
إصـرار بيتشيوتو كان واضحاً وهى تدافع عن قـضية فى المقام الأول عربية، لـكن بيتشيوتو لم تكن من أى أصـول عربية، وقد لا تعرف شئ عن تـهاون كثير من العرب فى قضيتهم، أو التخلى عنها عند مقابلة بعض الصعوبات، ذكـرنى موقف كونسيبشن بحديث الـرسول (ص) الذى طبقت هى مـعناه حرفياً، حينما جاءه أحد الصحابة يقول “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟” فقـال (ص): “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” رواه البخارى فى صحيحه.
الـسيدة العجوز قـضت أكثر من ربع قرن ولم تفقد الأمل فى الـتغيير، فى أن يـمتد الـربيع العربى إلى البيت الأبيض رغم كل الأحداث والـصعوبات التى واجهتها فهى مـستمرة على موقفها وثباتها، حتى وإن تأخرت الـعدالة أو لم تأتى فـيكفى كونسيبشن كـفاحها طوال هـذا الـوقت، مر عليها فيه أحداث جسام، يـكفى الحادى عشر من سبتمبر، ناهيك عن شـتاء عادة مايكون شـديد الـبرودة.
فى الـيوم التالى ذهـبت إلى شارع بنسلفانيا مـرة أخرى، بـحثت عن بيتشيوتو فلم أجدها، ووجـدت صـديقتها، فى الخيمة الـصغيرة، قـالت لى أنها أقنعت السيدة العجوز بأن تستريح قليلاً فى مكان دافئ وهى ستبقى فى مكانها، سألتها هل انتى ابنتها، أجابت بالنفى، وأضافت أن أغلب الناس يظنون ذلك، هى صديقتها وتساعد كونسيبشن منذ وقت طويل.
قالت لى صديقتها أنهن مستمرات فى الإعـتراض، ويمر عليهن كل يوم ناس كثيرين، لكن أحياناً الموضوع يكون بالنسبة للكثيرين مجرد مـوضوع جديد للـكتابة عنه فى الـصحف. لما عرفت أننى مـصرى، قالت لى أنها تتابع مايحدث فى مـصر، وتعرف عن الرئيس مـرسى، وحزنت لما حدث من كمية القتل والدماء، قـلت لها لقد كنا نأمل أن تتحسن الأمور تدريجياً، لكن للأسف جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، قالت لى يـجب أن تصمدوا لكى تستطيعوا امتلاك قراركم وتحديد مصيركم، أغلب دول العالم مرت بتلك المرحلة بـعدها قـضين على الفساد وإنطلقن إلى أفـاق التقدم والإزدهار، الـثورة الـفرنسية إستمرت تقريباً عـشرة أعـوام، وأثرت على أوروبا والدول المحيطة بـفرنسا، وكـان هـناك الكثير من الدماء، أمريكا أيضاً مرت بنفس المرحلة فى ثورتها ضد بريطانيا حتى تخلص الأمريكان من الإستعمار البريطانى وبدأوا فى العمل والإنتاج وإمتلاك زمام إرادتهم.
لم أندهش مما قالته أكثر مما إندهشت حينما طلبت أن نتصور مـعاً، بدون أن أقول لها شئ عن رابعة أو الإشـارة وجدتها ترفع العلامة، ورفعت أنا أيضاً يدى. بعدها بررت لى ذلك بأنها تعرف عما حدث فى مصر، والعالم كله يتابعه. لكنى لم أتخيل أن تكون تـعرف حتى عما حدث فى رابعة. قلت لها انتى تعرفين الكثير، أليس غـريباً أن أقابل أمريكية تعرف كل هذا عن بلاد أخرى، قالت المشكلة أن فى أمريكا الناس لايعرفون وليس لديهم وعى كافى بمن هو العدو الحقيقى، لـكننا نحاول بكل الطرق أن ننـشر هذا الوعى.
شـكرتها، وقلت لها أتمنى أن أستطيع المساعدة فى أى شئ، قالت لى شكراً بوجودك هنا انت ساعدتنا بالفعل. مشيت وأنا أفكر فى الكثير مما عرفت وفى ذلك الموقف ككل، لم أكن أتخيل أن يـستمر أحد فى كفاحه من أجل إثبات عدالة قضيته بهذا الشكل فى الولايات المتحدة، وشـعرت أننا لسنا وحدنا فى هذا العالم، أعطتنى صديقة بيتشيوتو مـوقع إلكترونى به الكثير من الإحصاءات التى توثق جرائم إسـرائيل من أجـل توعية الأمـريكان، فعلاً لسنا وحدنا فى نضالنا، سـواء فى مـصر أو فى سـوريا أو فى فلـسطين، وأن مايحدث يـقول أنه رغم كل شئ ينتظر هذة الأمـة والـشرفاء فى هذا الـعالم مـستقبل مـشرق.
محمد احمد عبد السلام