السماء غائمة والثلج لا يتوقف عن التساقط، وعجلات الطائرة تلامس الأرض في مطار ديربورن.
في أحاديث المدينة أسئلة عدة تدور بين جدران الكنائس والمساجد والمعابد والمحكمة. حديث عن مشروعية أو عدم مشروعية ما ينوي القس تيري جونز تنفيذه في الساعات المقبلة بحرق المصحف الكريم أمام المركز الإسلامي للمدينة، وهو الأكبر من نوعه في أميركا.
يقول جونز عن أسباب خطوته إن المدينة التي تقيم بها أكبر جالية من العرب والمسلمين الأميركيين تحكم وفقا للشريعة الإسلامية، وفي ذلك تهديد لقيم الدولة الديموقراطية في أميركا.
يتحدث جونز عن مدينة هو ليس من قاطنيها، لكن ما يقوم به من وجهة نظره الشخصية ممارسة لحرية التعبير، وهي واحدة من الحقوق الفردية المقدسة والمحمية بنصوص الدستور الأميركي.
ضاق بي الزمن وأنا أقطع الطريق من مطار المدينة الدولي إلى وسطها قبل أن أنخرط في سلسلة اتصالات مع كافة الأطراف المعنية بهذه القصة الصحفية، وهي قصة حدث بالنسبة لكافة مسلمي أميركا ولكافة أنصار ودعاة حوار الأديان والمؤمنين بقيم التعايش والتسامح بين أعراق أميركا.
في كل محاولة اتصال تبدو الخطوط جميعها محالة إلى صندوق الرسائل الصوتية، ومن الخبرات السابقة أدركت أن الحركة هي أفضل الحلول في هكذا نوع من المواقف.
على خط الطريق الرابط بين وسط “ديربورن” والمركز الإسلامي في الجزء الجنوبي من المدينة كان رفيقي المصور ابن المدينة يحدثني عن أخبار الحدث وردود الفعل هنا بين سكانها بكثير من الاستياء المعلن في بحات صوته ومفرداته الحذرة، وهو الأميركي الأبيض الذي سافر إلى تركيا سائحا وأحب واحدة من نسائها وتزوجها وهما يعيشان سوية في سلام في ديربورن منذ ربع قرن.
في واحدة من المفاجآت الجميلة ونحن نقطع طريقا مزدحما بزخات الثلج والعواصف الباردة، وهي الحالة الجوية الغالبة في العادة في الوسط الغربي من الولايات المتحدة، يرد على هاتفي رئيس بلدية “يربورن وبأدب عميق يعتذر لانشغاله وعدم قدرته على الرد على طلب المقابلة في حينه. نتواعد سريعا على اللقاء في المركز الإسلامي حيث يجتمع رموز المدينة من ساستها وقادتها الروحيين وكثير من أبنائها.
تغرورق عيون ديربورن بمزيد من المطر الباكي، وجزء من سكان المدينة يتعرض لاستفزاز معلن في عمق مشاعره الدينية.
تتحرك مكونات المدينة الاجتماعية جميعها في اتجاه واحد.. يلتقي رموزها من مسيحيين ويهود ومسلمين ويتناوب الجميع على منصة خطابة واحدة. يتحدث المسلم العربي القادم من شمال إفريقيا والآخر القادم من الشرق الأوسط، وبين الإثنين فارق مذهبي وعرقي، ويتوحدان في اللحظة والرؤية والمفردات وإن اختلفت جذورهم.. ويتحدث الأميركي من أصوله المختلفة أبيض وأسود وآسيوي وإفريقي وأوروبي الجذور… ويقول الجميع إن الاعتداء الذي يستهدف المركز الإسلامي ومشاعر أتباع الإسلام من المواطنين الأميركيين هو اعتداء على مشاعر الأميركيين كافة على اختلاف دياناتهم وجذورهم وألوانهم.
الاعتداء على حرية فرد واحد من الأميركيين هو اعتداء على كامل الأمة الأميركية.. يرتفع هذا الصوت المتحد لكل أطياف المدينة وتنتقل الصورة عبر كاميرات التلفزيون إلى كل أميركا ومن ورائها إلى كافة جهات العالم.
تقول مقتطفات من خطابات المنصة التي احتفت بالعلم الأميركي خلفية لها وامتزجت الأيدي جميعا في عناق واحد.. نحن هنا لنحمي المسلمين من كل اعتداء محتمل على مشاعرهم الدينية وكل مساس بواحد من مقدسات جزء من مكونات الأمة الأميركية هو في جوهره مساس بوحدة الكيان المتحد للقيم الأميركية.
يقول صوت يقف على الحياد من كل الألوان ويختار في كلماته أن يدافع عن حقوق الإنسان بإطلاق المعنى في الإنسان.. إن الذي يقوم به القس تيري جونز هو مناف للطبيعة والقيم والمبادئ التي اختارها الأميركيون الأجداد للحياة ولإقامة هذه الديموقراطية.
سيقف هذا المساء الجميع هنا في ديربورن في مكان واحد ليقول الجميع وبصوت واحد إن الحريات الجماعية محمية بقوة الدستور وسلطة القانون وأكثر من ذ لك بإرادة الإنسان.
عندما تحمي ديربورن مشاعر المسلمين هذا المساء من المساس بها فإنها بذلك تجعل من مشاعر مسيحييها ويهودها وكافة أتباع الديانات فيها في مأمن من المساس بها في المستقبل لأن التطرف لن يؤدي في نهاية المطاف سوى إلى إنتاج المزيد من التطرف المضاد وكم يحتاج الجميع إلى صوت من السلام ليعم السلام كل المدينة ومن ورائها أميركا على أمل أن يحدث ذلك في كل العالم.
كان المشهد احتفاليا بامتياز ويزداد بريق الصورة لمعانا عندما تنتهي كلمات المنصة ويخرج مئات الحضور في المركز الإسلامي إلى باحة المسجد بكل ألوانهم وأطيافهم وفي حركة واحدة تضع اليد في اليد ليتشكل جدار بشري بطول مساحة المسجد وساحته الأمامية ويقف الجميع هناك ساعة كاملة من الزمن تحت زخات الثلج وعصف الريح الباردة للإعلان بأن اليهود والمسيحيين في ديربورن هم من يتكفلون هذا المساء بحماية مسجد المسلمين من المساس به أو الاعتداء على مرتاديه أو حتى الإساءة الى مشاعرهم فيما هو مقدس لديهم.
في جزء جميل هو الآخر من المشهد ينتشر في المكان مجموعة من الشباب اليافعين من أبناء الجالية المسلمة ويوزعون على كافة أعضاء الجدار البشري ورودا بيضاء ويزداد المكان بهاء بألوانه المتداخلة وبمعانيه التي تشكل واحدة من أعظم لحظات الوعي الإنساني بالحاجة العميقة إلى العيش المشترك والحياة في سلام بين مختلف مكونات المجتمع الأميركي المتعدد الأعراق والثقافات بطبيعته وباختيار مؤسسي الأمة الأميركية.
في اللحظة تلك وفي جانب آخر من المدينة.. كانت السلطات الأمنية والمدنية ترافع أمام قاضي المحكمة بضرورة منع القس جونز من التوجه إلى قبالة المركز الإسلامي بل وترحيله من المدينة بحجة أنه يشكل خطرا على وحدة نسيجها البشري وأن في مخططه بحرق مصحف المسلمين إساءة الى مشاعر قطاع واسع من سكانها.
إنها ديربورن التي تصنع المساء في أجمل صور الإنسان الممكنة.
تطول مرافعة القضاء ويصر جونز على فعلته وتأخذ المدينة في مكان آخر أسلوبا آخر للتمسك بسماحتها بإعلان التظاهر والتنديد والرفض بأن تأخد الحريات الفردية منحى يتجاوز حدود الذات والإساءة إلى الآخرين.
يقول القاضي في ختام الجلسة: السيد جونز.. لن نسمح لك بمغادرة محيط المحكمة الليلة، على أن نعود صباحا إلى هنا لنقرر في أمر بقائك في ديربورن أو إبلاغك بضرورة مغادرة المدينة.
نامت ديربورن في تلك الليلة فخورة بمنجزها.. في تلك الإغفاءة من المدينة وقفت على شرفة فندق الحياة المطلة من هضبة غربية على كافة أطراف المدينة أتأمل ذلك المشهد المستقطع من جوهر الإنسان وهو في حالة سلام مع ذاته ومع الآخر، حيث يقف المركز الإسلامي إلى جوار الكنيسة، والكنيسة تقف إلى جوار المعبد في مساحة مربع مكاني واحد.. خيل إلي لحظتها أن الثلج الذي كانت السماء تدفع به تباعا ولطفا في تلك الساعات هو احتفالها بتمكن الإنسان من تحقيق معنى السماحة والتعايش… ذلك الجوهر التي تلتقي وتتقاطع عنده كافة الأديان وكل القيم وجميع الحضارات وتدعو إليه كل الثقافات بكل اختلافاتها.
طال وقوفي عند طرف الشرفة.. على هاتفي أكثر من صوت يختلف أصحابه في كل شيء لكنهم يتفقون في المبادئ التي اختاروا أن يقفوا إلى جانبها في هذا المساء.
“ديربورن قدرها أن تولد متنوعة ومتعددة وقدرها أن هذا التنوع والتعدد أن يكون مصدرا لقوتها ولن يكون سببا للتفرقة بين مكوناتها تماما كما هو قدر أميركا”، يقول في هاتفي عمدة المدينة وأنا أسمع على طرف الهاتف ضجيح احتفال أحفاده بعودته إلى بيته بعد يوم طويل وشاق في المدينة.
عند الرشفة الأولى من قهوة الصباح كان القاضي يقرر ترحيل القس تيري جونز ليس فقط من مدينة ديربورن ولكن من كامل ولاية ميشيغن ويغرمه بدفع دولار واحد ويدعوه لمغادرة المدينة فورا وأنه لن يسمح له بالاقتراب من أي معلم للمسلمين الأميركيين في الولاية.
قالت الأخبار العاجلة في كل المحطات التلفزيونية إن الذي انتصر في هذه المعركة هي قيم المدينة التي اختارت أن تقف في الجانب الصحيح من التاريخ وإن الخاسر الأكبر في هذا المساء هو ذلك الصوت الذي اختار أن يؤسس لثقافة الكراهية فيما هو يعلن إنه بصدد ممارسة حرية فردية.
وقلت أنا، من جانبي، في مراسلتي للمحطة التي أعمل لها:
هذا الذي حدث هنا في ديربورن في هذا المساء.
رابح فيلالي
رابح فيلالي إعلامي وروائي خريج جامعات قسنطينة وعنابة بالجزائر، ومعهد سيرينيا للاعلام بفرنسا. تنقل فيلالي بين الصحافة المكتوبة والتلفزيون في مشوار مهني توزع بين تقديم الأخبار و البرامج الثقافية والحوارية السياسية. عمل فيلالي لصالح عدة محطات إخبارية عربية قبل أن يستقر بقناة “الحرة” حيث يعمل مراسلا متجولا لها في واشنطن. إلى جانب العمل الإعلامي، يكتب فيلالي الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى المقال السياسي.