في زمن المصريين القدماء، كان هناك مثل شائع، وهو ‘اطعم الفحم تستحي العين’، وقد جرى عليه تحديث بمرور الوقت، فلم يعد إطعام الآخرين يعني استدعاء الحياء، ليكون ملاصقاً للعيون، إذ جاء النص الانتهازي البليغ الذي يليق بهذا الزمن: ‘كل أكل صديقك لكي تسره، وأكل عدوك لكي تضره’.. حيث أننا في زمن الفهلوة!
ومن المعروف أن قادة الانقلاب في مصر، ومن التحق بهم من غير أولي الإربة هم قوم ماتوا وشبعوا موتاً، وهم في مرحلة عذاب القبر الآن، فهم ينتمون للزمن الجميل، عندما كان إطعام الفم كفيل بأن يدفع العين لأن تستحي، وتعلمون بطبيعة الحال أن المصريين القدماء قد تفوقوا في علم التحنيط، وهو الذي حفظ لنا حازم الببلاوي ورفاقه إلى الآن من التحلل، ولهذا عندما وقع الانقلاب كانوا جاهزين لخدمته، وهو الذي أخذ على الرئيس محمد مرسي أنه لم ينصف الشباب، الذين كانوا قادة ثورة يناير، فجاء الانقلاب لينصفهم بالانحياز إلى شباب الحرب العالمية الأولي، ويكفي أن تشاهد الثلاثي: الببلاوي، وحسام عيسى، وأمين المهدي، لتقف على هذه الحقيقة المذهلة، التي تتمثل في انحياز انقلاب 30 يونيو/حزيران للشباب.
قبل سنوات شرحت هنا ‘قصة البو’، والتي هى كفيلة بأن نقف على أن علم التحنيط وصل إلينا من أجدادنا على عكس الشائع، من أن البشرية لم تقف على سر التحنيط إلى الآن، وكنت عندما يدرسون لنا في المدارس ذلك أقول كيف هذا؟… ونحن نعرف ‘ البو’.
من عاشوا في الريف المصري من أمثالي، لابد أن لهم دراية بفنون تربية الماشية، وعليه فإنهم يعلمون أن الجاموس، يمكن ترويضه يدوياً، فيدر لبناً لذة للشاربين بدون حضور مولوده على عكس الأبقار، التي لا تفعل هذا سوى للمولود السعيد، بعدها يتدخل العنصر البشري ليحصل منها على ‘المحصول اليومي’ من بين فرث ودم!
وقد يحدث أن ينزل جنين بقرة ميتاً، وقد يموت بعد مولده، وهنا يجري تحنيطه، بتفريغ أمعائه، ووضع تبن وملح فيها وصلب أقدامه بواسطة عُصي، فتظن ‘الوالدة’ انه على قيد الحياة، وما هو على قيد الحياة!
المصريون القدماء، الذين وسد الأمر إليهم في عهد الانقلاب، وتصدروا المشهد السياسي، ولأنهم ‘دقة قديمة’ فإنهم لا يزالون يؤمنون بالحكمة الغالية: ‘اطعم الفم تستحي العين’، وقد أطعمهم المجلس العسكري من جوع وآمنهم من خوف، فأقدموا على جريمة كبرى تضاف إلى سجل الجرائم الحافل، الذي بدأ باغتصاب إرادة الشعب والسطو على حكم البلاد بقوة السلاح، على النحو الذي اعترف به الدكتور محمد أبو الغار، في مقابلة على قناة ‘التحرير’ لم أنتبه لها إلا عندما احتفى بها برنامج ‘جو تيوب’، ذائع الصيت هذه الأيام.
حديث الناس
لا أدعي أنني تابعت كل حلقات هذا البرنامج الذي هو حديث الناس، وكان يبث عبر ‘اليوتيوب’، قبل أن تفوز ببثه قناة ‘الجزيرة’ و ‘الجزيرة مباشر مصر’، وهو برنامج فكاهي، ربما استلهم بدايته من بداية برنامج ‘البرنامج’، عندما كان يعمل في المطلق، وقبل أن يحصر نفسه وفق أجندة صاحب المحطة التي يعمل بها، ويصبح ضمن الإعلام الموجه الذي قاد الانقلاب على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي.
أحد الزملاء نبهني إلى حلقة ‘جو تيوب’ عن الدستور، فاستدعيتها واستمتعت بمشاهدتها، وإذا بي أقف أمام اعترافات الدكتور أبو الغار، وهو عضو لجنة الخمسين، ورئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي.. الخ… الخ!
فجر أبو الغار على قناة ‘التحرير’ قنبلة لم يتم التعامل معها بجدية، عندما قال أنهم بعد انتهاء مناقشتهم في لجنة الخمسين على مشروع الدستور، دعاهم المجلس العسكري الحاكم على العشاء، وبعد أن أكلوا، وغسلوا أيديهم، ومروا بحالة الاسترخاء الذهني المعروفة، وزعوا عليهم ‘المقرر الدراسي’، الذي يتمثل في نسخة ‘ شيك’ من الدستور، غير النسخة التي في حوزتهم من حيث الشكل، وقالوا لهم أن هذه النسخة التي ستقومون بتسليمها للرئيس!
في ‘فقه الأفراح’ فإن أصحاب السوابق في هذا المجال، لا يقدمون الطعام للحاضرين، إلا قرب النهاية، وقبل ‘الوصلة الأخيرة’، ذلك بأن الحضور الكريم يكون في أعلى درجات النشاط، قبل الأكل، وبحضور سيد الطعام والانتهاء من التعامل معه ينزل ‘سهم الله’، على ‘المعازيم’ فلا يتجاوبون مع اعتى الأغاني استدعاء لجينات الطرب ولو كانت أغنية ‘العنب’، ولو أغنية ‘أركب الحنطور’، لخالدة الذكر ‘أمينة’، التي تزوجت ورأت أنه من غير المناسب، أن تظل مغنية و’راقصة بلدي’، فظنت أنها يمكن أن تكون على مقاس مطربات الأوبرا… ففشلت بالطبع.
الخمول اللارادي
عندما تم توزيع ‘المقرر الدراسي’ على لجنة الخمسين، كان أعضاء اللجنة في مرحلة ‘الخمول اللإرادي’، ولا أعرف متى ذهبت السكرة وحلت الفكرة، ووقف القوم على أن هذا المشروع من حيث الموضوع غير المشروع الذي ظلوا أياماً وليالي يناقشونه في جلسات سرية ممتدة، ثم صوتوا عليه، قبل أن يتسلموا نسخة مغايرة، ويقال لهم وهم تحت سيف الحياء بعد ‘طفح السم الهاري’، هذه هي النسخة التي ستقومون بتقديمها لسيادة الرئيس، وكلنا شاهدنا اللحظة التاريخية الحاسمة في تاريخ المنطقة، عندما انتصب عمرو موسى، وسلم الرئيس ‘المعين’ نسخة من مشروع الدستور، وبهذه المناسبة العطرة انتصب الرئيس خطيباً، وتحدث ضيوف برامج ‘التوك شو’ على فضائيات الثورة المضادة على أنغام أغنية ‘الليلة عيد’.
أعترف بأن المقطع الذي يحمل كلام الدكتور أبو الغار كان موجوداً على مواقع التواصل الاجتماعي، لكني لم اصدق أنه يمكن أن يقول هذا الكلام المكتوب على لسانه، ولي خبرة عريضة مع هذه المقاطع، جعلتني لا أسلم بالكلام المكتوب، باعتباره تعبيراً عما ورد فعلاً على لسان المتحدث في المقطع!
ومنذ أكثر من عام، دفع لي أحدهم بمقطع للشيخ راشد الغنوشي، هو جزء من مقابلة له على احدى الفضائيات التونسية، استمعت إليها فركبني العصبي، ووضعتها على صفحتي على ‘الفيس بوك’ مع التعليق المناسب، وفي ثوان كان حجم الهجوم عليه كبيراً.
في المقطع تحدث الغنوشي مستنكراً الذين يطالبون بتعويضات لشهداء الثورة ومصابيها، وقال من قال لهم أن يخرجوا للثورة؟ من قال لهم يموتون فيها؟… وحدث أن تلقيت رسالة من صديق تونسي، يخبرني فيها أن يدا عابثة اقتربت من النص الأصلي فحذفت منه جملة تفيد أن هذا كلام الفلول وخصوم الثورة، وأن الغنوشي يهاجمهم، ودفع لي بالفيديو الاصلي قبل أن تقترب منه اليد سالفة الذكر.
وبعد ذلك حدثت مواقف كثيرة معي من هذا النوع، عندما يضع أحدهم فيديو ويكتب ما جاء فيه توفيراً للوقت والجهد، وبالاستماع إليه نكتشف أنه لا شيء فيه من المكتوب… وأحد المنتمين للثورة المضادة كانت متخصصاً في ذلك وهو يعتمد على أنني لن استمع الى المقطع!
ولهذا كله، فلم أصدق المنسوب للدكتور محمد أبو الغار، ولم اكترث بالفيديو الشائع الى ان استمعت إليه عبر ‘جو تيوب’، وهالني ما سمعت، وهالني أكثر أن استمع بعد ذلك لعضو احتياطي باللجنة، واستمعت لمن يخاطبها تلفزيونيا بالآنسة، مع أنها ‘مدام’، وقد تحدثت لحد الملل عن دور لجنة الخمسين التي تعبر عن الشعب المصري بكل أطيافه، وقد جاءت بدستور يعبر عن هذا الشعب!
أضحكني وهي تتحدث من ‘المقرر الدراسي’ وتتلو محفوظات من كتاب المطالعة، مقللة من مشاركة حزب ‘الحرية والعدالة’، حزب الأغلبية، فقالت أن الإسلام يعبر عنه الأزهر وليس جماعة ‘الإخوان المسلمين’، وكأن لجنة الخمسين هذه كانت اجتماعاً للطوائف الدينية، ولهذا فان مثلي يتساءل ولماذا لم يتم اختيار ممثل عن الدروز؟!
لا أعرف ما اذا كانت المتحدثة ضمن ‘وليمة’ المجلس العسكري، أم أن كونها تلعب في الاحتياطي حال دون حضورها، وأن الاجتماع كان للاعبين الأصليين فقط، لكن اللافت وأنها في مرحلة عمرية يعد فيها الالتباس بين مدام وآنسة طبيعياً، أنها ليست من جيل الأجداد حيث الشعار المعتمد: ‘أطعم الفم تستحي العين’، لكنها من جيل الأحفاد حيث ‘كل أكل حبيبك لكي تسره وأكل عدوك لكي تضره’.
ما علينا، فمن الواضح أنها كانت حاضرة ‘الوليمة’، بئس ‘الوليمة’، لكن العدوى للجيل الجديد قد انتقلت بالاحتكاك المباشر، فاعتمدت شعار المصريين القدماء، فمن عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم، وعلينا أن نؤكد أننا كنا نعتقد أننا في مرحلة ‘الطرطور’ الواحد، فإذا بنا نكتشف أننا في زمن الطراطير.
بالمناسبة أين اختفى محمد سعيد الصحاف، ليتحفنا بخطاب جديد عن العلوج والطراطير والمطايا.
أرض جو
نمت على ‘المشهد المصري’ على قناة ‘الجزيرة’ واستيقظت عليه في ‘الإعادة’ وقبيل كتابة هذه السطور، وفيه استمعت للأستاذة مها أبو بكر وهي تتحدث عن سعادة المستشار عدلي منصور، وكيف أنه جاء بالإرادة الثورية… أول مرة أعرف ان الإرادة الثورية كانت تعرف عدلي منصور.
مع خالص احترامي للجميع فإن رئاسة المحكمة الدستورية العليا لا ترتب وضعاً مستقلاً لمن يشغله لكي تعرفه الإرادة الثورية، فنحن نعلم، والجنين في بطن أمه يعلم، أن الرئيس المخلوع مبارك عبث في هذه المحكمة بتعيينات من خارجها بعد رئاسة المرحوم عوض المر.
في فيلم لساندرا نشأت خاص بالاستفتاء على الدستور جاء من يقول انه سيقرأ الدستور ليحدد موقفه منه بنعم أو باه، مع ان نعم هي آه، فكلنا نعلم أن ‘لا’ محرّمة مع دستور الانقلاب. سلامتك من الآه.
سليم عزوز
صحافي من مصر