بعد مرور ما يقرب من ستة أشهر على الانتفاضة الشعبية، لا بل الانقلاب، الذي أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي لا تزال الانشقاقات الأساسية في الصراع السياسي الداخلي في مصر ليست عالقة فحسب، بل غير قابلة للحل. فالضباط الذين أطاحوا بمرسي منهمكون حالياً في صراعٍ وجودي مع «الإخوان المسلمين» إذ يعتقدون أنّ عليهم سحق «الإخوان»، على سبيل المثال، من خلال تصنيف الحركة كمنظّمة إرهابية، وإلاّ عادت «الجماعة» إلى زمام السلطة وسحقتهم. وفي الوقت نفسه، استفادت منظمات جهادية في سيناء من عزل مرسي واستخدمته كذريعة لتصعيد أعمال العنف التي تقوم بها وزيادة اعتداءاتها على أهداف غرب قناة السويس. وحتى ألدّ معارضي «الإخوان» يتخبّطون في صراعات فيما بينهم: فالإئتلاف المؤلف من أجهزة الدولة المترسّخة والأحزاب السياسية اليسارية التي تمرّدت ضدّ مرسي آخذة في التدهور الآن، كما أنّ الناشطين الشباب الذين دعموا عزل مرسي في تموز/يوليو يتظاهرون اليوم ضدّ الحكومة المدعومة عسكرياً التي استجابت بدورها عبر اعتقال قادة هؤلاء الناشطين.
وهكذا، فعلى الرغم من أنّ العملية الانتقالية في مصر ما بعد عزل مرسي آخذة في التقدم، من الناحية الفنية، ونظراً إلى توقّع إصدار مسودة دستور جديدة عبر استفتاء شعبي في منتصف كانون الثاني/يناير يليه إجراء انتخابات بعد وقت قصير، إلا أن مصر أمست كعلبة كبريت قد تشتعل مع أيّ شرارة. وسيؤدي ذلك إلى إخراج العملية السياسية كلياً عن مسارها وتحوّل الاضطرابات العرضية التي تشهدها مصر إلى حالة متفاقمة من عدم الاستقرار. ولكن ما الذي قد تكون تلك الشرارة؟ في ما يلي ثلاثة احتمالات:
1- اغتيال سياسي لشخصية ذات مكانة عالية. قد يتمتّع وزير الدفاع المصري (والحاكم الفعلي) عبد الفتاح السيسي بحماية شديدة كأي مسؤول كبير، إلا أنه في تمام مرمى «الإخوان المسلمين». فهو، في نهاية المطاف، واجهة الانقلاب الذي أطاح بمرسي؛ وقد دعا المصريين فيما بعد إلى النزول إلى الشوارع للحصول على “ترخيصهم” لشنّ حملة القمع اللاحقة التي قُتل فيها أكثر من ألف شخص من أنصار مرسي.
ولم يتردد «الإخوان المسلمون» في الدعوة إلى مقتل السيسي. وغالباً ما ترتفع صورٌ للسيسي في مظاهرات «الإخوان» يظهر فيها حبلٌ يلتفّ حول عنقه دلالةً على “الخيانة”، كما أن “التحالف المناهض للانقلاب” الذي يدعمه «الإخوان» أصدر مؤخراً تغريدة على موقع “تويتر” تقول إنّ “الشعب يريد إعدام السفاح”، في اشارة واضحة إلى السيسي. وبالإضافة إلى ذلك، في كانون الأول/ديسمبر نشر موقع إلكتروني مناصر لـ «الإخوان»، وبحماسة خبراً (استخدم فيه الكاتب علامات التعجب بوفرة وسخاء في النصّ)، مفاده وقوع محاولة اغتيال ضدّ السيسي. وأضاف الخبر أنّه تمّ نقل السيسي بسرعة إلى المملكة العربية السعودية لتلقّي العلاج وأنّه رفض أن تُبتر رجله كي لا يضطرّ إلى التقاعد من الجيش. (وكان هذا الخبر خاطئاً بالطبع). وفي حين أنّ «الإخوان المسلمين» قد تورطوا سابقاً في اغتيالات سياسية، مثل مقتل رئيس الوزراء محمود النقراشي في عام 1948، إلا أنهم ليسوا المنظّمة الوحيدة التي تريد موت السيسي ولا أفضلها تجهيزاً: ويشرف الفريق السيسي حالياً على حملة عسكرية ضدّ الجهاديين في سيناء، الذين حاولوا اغتيال وزير الداخلية المصري في القاهرة في أوائل أيلول/سبتمبر وهاجموا مراراً المرافق الأمنيّة، كان آخرها في مدينة المنصورة في دلتا النيل، وفي محافظة الشرقية.
أمّا في حال اغتيال السيسي، فقد يكون لذلك تأثيران. الأول هو احتمال ردّ الجيش على عملية الاغتيال عبر شن حملة ضد «الإخوان المسلمين» تكون أكثر صرامة من تلك الجارية حالياً بالفعل. وهذا تماماً ما حصل بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في عام 1954 والتي اتُهم «الإخوان» بتنفيذها: فقد تمّ توقيف وتعذيب وإعدام الآلاف من أعضاء «الإخوان» على مدى العقدين التاليين. أمّا التأثير الثاني، ونظراً للتوقعات الحالية بترشّح السيسي للانتخابات الرئاسية أو تمتّعه بالقرار الحسام حول انتخاب الرئيس، فقد يؤدي اغتيال السيسي إلى تحفيز منافسة حادّة بين مختلف المسؤولين الأمنيين الذين سيتنافسون – مباشرةً أو من خلال وسطاء يدعمونهم – على منصب الرئاسة. ومن شأن ذلك أن يزيد من إضعاف الدولة المفككة بالفعل، الأمر الذي يثير احتمال تصاعد أعمال العنف بصورة أكبر.
2- تظاهرات و/أو أعمال عنف عند مراكز الاقتراع. من المتوقّع أن يوافق المصريون بصورة كبيرة على الاستفتاء الشعبي المتعلق بالدستور الجديد الذي سيُجرى في كانون الثاني/يناير- علماً أن تاريخ مصر لم يشهد قطّ أيّ استفتاء كانت نتيجته “سلبيّة”. غير أنّ «الإخوان المسلمين» وحلفائهم يرفضون العملية السياسية ما بعد مرسي وقد ورد في التقارير أنّهم يخططون تعطيل الاستفتاء عبر التظاهر عند مراكز الاقتراع ومنع الناخبين من دخول أكشاكها. وبالرغم من أنّ الأخبار المنشورة في الإعلام المصري حول «الإخوان المسلمين» غالباً ما تكون مبهّرة غاية التبهير، تشير البيانات التي أصدرتها «الجماعة» في الأسابيع الأخيرة والتي تقارن المشاركة في الاستفتاء بـ “المشاركة في سفك الدماء” إلى احتمال إطلاق عمل عدواني. ولا يطمئن أبداً واقع استعداد القوات الأمنية المصرية الرد على هذا الاحتمال: إذ من المرجّح أن تتعامل الشرطة المصرية، المعروفة بشراستها، بعنف مع المعرقلين وقد تتمكن المناطق التي يتمتّع فيها الإسلاميون بقوّة كبيرة أن تصمد أمام القوات الحكومية لفترة محددة كما حدث في بلدة كرداسة في الجيزة في أيلول/سبتمبر.
ولا يؤدّي هذا النوع من الحوادث إلى تأجيل الاقتراع فحسب، بل يكشف أيضاً عن ضعف الحكومة الانتقالية. وهذا من شأنه أن يشجع «الإخوان المسلمين» على تصعيد احتجاجاتهم، كما قد يشجّع الجهاديين في سيناء على تصعيد هجماتهم. وبالتالي، تتوجه مصر في هذه الحال إلى وضع النزاع الأهلي المستمرّ عوضاً عن سيرها قدماً وبسرعة نحو جولة الانتخابات المقبلة.
3- حادث إرهابي كبير في قناة السويس. في شهر آب/أغسطس، أطلق جهاديون في سيناء صواريخ على سفينة شحن تحمل علم بنما كانت تمرّ في قناة السويس. وبينما ردّ الجيش المصري على ذلك الاعتداء بعد وقت قليل عبر شنّه هجوماً برّياً كبيراً على الجهاديين ومضاعفة الأمن على طول القناة، إلا أن قادة الجيش المصري يعترفون أنّ الحملة في سيناء قد أثبتت أنها كانت أصعب بكثير مما توقّعوا. وعلاوة على ذلك، تشير الهجمات الإرهابية اللاحقة على أهداف عسكرية ومدنية على حدّ سواء إلى عزم الجهاديين البالغ، وحتى في بعض الأحيان، إلى حسن تسلّحهم: فقد صوّر إرهابيون أنفسهم وهم يطلقون قذيفة دفع صاروخية (آر پي جي) في القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر، كما أودى انفجار وقع خارج معسكر لقوات الامن في الاسماعيلية في كانون الأول/ديسمبر إلى جرح 30 شخصاً.
وقد يكون لأيّ هجوم كبير على قناة السويس نتائج مدمّرة للغاية. فبالإضافة إلى إحراجه الحكومة المدعومة عسكرياً في الساحة الدولية، فإنه سيلحق الضرر بالمصدر الوحيد لعائدات الدولة المُنتجَة محلياً، والذي ظل مستقلاً نسبياً بالرغم من الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ولا تستطيع الحكومة الحالية تكبّد خسارة القناة: فبالرغم من تعهّد الدول الخليجية بتقديم مبلغ 12 مليار دولار أمريكي إلى مصر مباشرةً في أعقاب الاطاحة بمرسي، فقد انخفضت احتياطيات مصر النقدية في الأشهر الأخيرة من 18.6 مليار دولار أمريكي في تشرين الأول/أكتوبر إلى 17.8 مليار دولار أمريكي في تشرين الثاني/نوفمبر. وفي الوقت نفسه، أعلنت الحكومة عن خطط لرفع المستوى الأدنى لأجور الموظفين الحكوميين والحفاظ على برنامج الدعم الغذائي المكلف. لذا، قد يؤثّر أيّ تدهور حاد في عائدات قناة السويس على قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها، كما أن انخفاض الاحتياطي النقدي المستمر قد يؤدّي إلى عودة الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي والطوابير الطويلة من الناس التي تسعى إلى شراء الغاز، علماً أنّ هاتين المشكلتين كانتا متفشيتين في البلاد في الأشهر الأخيرة من حكم مرسي. ومن المرجّح أن يتبع ذلك انتشار غضب شعبي وظهور شارات بداية انتفاضة محتملة.
وبطبيعة الحال، هناك احتمال ضئيل بحدوث أيّ من هذه السيناريوهات الثلاثة المحددة. إلاّ أنّ الوضع السياسي غير المستقرّ في مصر وتضخم العنف في البلاد تجعل الجوّ مناسباً لاشتعال اضطرابات إضافية. وستنطلق شرارةٌ ما على الأرجح.
إريك تراجر هو زميل واغنر في معهد واشنطن.