المكان كابول والزمن لحظتها كان في أواخر ساعات العالم 2002.. كنت أقطع حينها الطريق سريعا في قلب العاصمة الأفغانية إلى الفندق الوحيد المتربع على أعلى هضبة في الضاحية الشمالية من المدينة.
في هكذا مساء كانت المدينة تنام باكرا كعادتها وهي تحتاط لاحتمالات التعرض لسلسلة تفجيرات ينفدها المتشددون عادة في نهاية كل عام في محاولة منهم كما هي العادة دوما لمحاربة كافة أشكال الحياة في المدينة..
خطواتي كانت مسرعة جدا والريح ترفع عاليا الشال الأحمر الذي يلف رقبتي في كل زيارة أصل فيها هذه المدينة.. يداي ترقصان طربا من شدة البرد الذي يلف السماء والأرض عند هذا المرتفع العالي من المدينة.
في زحمة خوفي و هواجسي الأمنية، كنت كغيري من كل الناس في كل العالم أحمل لنفسي ولمن أحب مجموعة أمنيات للعام الجديد القادم بعد حين.
أمنياتي الشخصية فيها كثير جدا من “البورجوازية” المعلنة التفاصيل.. تقول واحدة منها أن يكون لي متسع ووفرة أكبر في الحياة وفي الرزق.. وهكذا هو الحال مع كثيرين غيري حول العالم.
وأنا أستعرض أمنيات العام الجديد وأقطع الطريق إلى باب الفندق تصطدم عيناي و أنا أستعجل الخطو لموعد عشاء مع مجموعة من زملاء وزميلات المهنة في هذا الإغتراب الذي حوّلنا إلى شركاء في الخوف وفي السؤال عن القصة الصحفية، وشركاء أيضا في الأمنيات الجديدة “البورجوازية” النزعة بمناسبة العام الجديد. جميعنا في هكذا وضع أقرباء نتقاسم الحياة هنا إلى حين موعد طائرة سيأتي حينها سيذهب كل في طريقه إلى يومياته وإلى قصصه الصحفية، التي تبدأ دوما في مكان ما من العالم وتعود بنا إلى بيوتنا وأطفالنا محملين بكثير من انكسارات الآخرين وخيباتهم. نحن في العادة شهداء على كل حالة يأس إنساني في مكان ما من العالم بمشهد الطفل العاري القدمين.
يزدحم تفكيري بالأمنيات التي سنقولها لبعض هذا المساء وبتلك الأمنيات الكثيرات التي ستصل بريدي الإلكتروني وقتها لم يكن هناك “فيسبوك” ولا “تويتر” ولاحتى “يوتيوب”. في اللحظة إياها قطع علي حبل أفكاري صوت طفولي هادئ وعميق ومكثف النبرة الحزينة في تفاصيله.
التفتّ إلى الوراء.. كانت خيوط الشمس تنسحب من سماء كابول خجلا.. يتكرر الصوت.. تجد عيناي الطريق إلى مكان ومصدر الصوت.. لم تكن المسافة بعيدة.. بل كانت أقرب إلي وبكثير مما توقعت..
تقدمت خطوة وأخرى إلى مصدر ومكان الصوت.. استعدت تلك النصائح التي يقدمها لي المسؤولون الأمنيون في كابول عند كل زيارة.. إياك والاستجابة للأصوات التي تخاطبك من الوراء ليلا حتى لو كانت الأصوات لأطفال، وعندما تسمع الصوت لا تلتفت إلى الوراء أبدا وعليك أن تنطلق جاريا إلى أقرب مكان يمكن أن يوفر لك الحماية..
تذكرت تلك النصيحة، لكن الحزن والطفولة التي تطبع الصوت جعلني بدلا من ذلك أفعل العكس تماما.. حيث قررت أن أعود بخطوي إلى الوراء وأعانق صاحب الصوت.
كان طفلا في سن طفلي في ذلك الزمن حافي القدمين وعاري البدن يحمل في يديه علبتي سجائر ويريد أن يبيعها في ليلة رأس السنة للأغراب أمثالي، لأنه يدرك بذكائه الفطري أن القادمين من وراء الجبال إلى كابول يفضلون تدخين “المارلبورو” السيجارة الأكثر انتشارا في العالم، كما يقول إشهار التلفزيوني.
تنفست قليلا وأنا أرمي ورائي بتلك التحذيرات الأمنية.. أفعل ذلك وأنا أدرك أن مقتل الإنسان في قلبه دوما وليس بحسابات عقله.. أقترب من الطفل وأعرض عليه صفقة كاملة.. أن يبيعني كل السجائر شريطة أن يصحبني إلى الفندق لتناول العشاء معا.
كان العرض بالنسبة للطفل العابر لزمني.. قادما من كوكب آخر تماما.. وكان بالنسبة لي هو انخراط في ذاكرة طفولتي، التي لمن تكن ممزوجة ببعض العسل في تفاصيلها.. كلانا يتحذر من تلك الأحلام الصغيرة، التي تقيم في قلوبنا ويريد أن يجد الطريق إلى الوسيلة، التي تجعل من أيامه صورة جميلة.
على حياء وخجل وبكثير من التردد عرض علي الطفل الجزء الثاني من الصفقة.. أن يأخد المبلغ المالي أولا وحالا ثم علي أن أعطيه هاتفي حتى يبلغ من يبلغ والدته بالعرض ويسأل رأيها إن كان من العقل أن يقبل دعوة رجل غريب للعشاء في أفخم فنادق المدينة فكل غريب مصدر خوف إلى أن يثبت العكس.
فتشت في ملامحي وأنا أسمع حديث الطفل إلى أقاربه بلغة لا أفهم منها سوى القليل.. فتشت في ملامحي إن كانت تحمل أي من إشارت الخوف أو الهواجس للطفل، وقبل أن أنهي عملية التقليب في ملامحي جاءتني تلك الإبتسامة التي تقيم في ذاكرتي حتى الآن وهو يقول لي أمي وافقت على ألا أتاخر كثيرا.. أضفت إلى عرضي جزءا آخر أن يتكفل سائقي بإيصاله إلى البيت.
انطلقنا أنا وصديقي الطفل إلى مطعم الفندق وكان علي أن أستعين بمترجمي الأفغاني على طاولة العشاء.. أسأل الطفل كيف يعمل في هذا الجو البارد وكم هو محصوله اليومي فأعرف أن ما يجنيه في كل يوم لايكفي سوى لبعض الخبز الجاف وبعض الشاي وإن تعدى الأمر ذلك فلن يكون هناك متسع سوى لبعض الأرز، وهذه أدوات كافية للاستمرار على قيد الحياة وبفرح بالنسبة للطفل وعائلته.
في خجل أيضا يسألني الطفل إن كنت سآكل كل الموجود على الطاولة فأقول له بحياء نعم.. نحن نأكل كل هذا ولا نكتفي في العادة ونقول أيضا إن هذا الطعام لايروق لنا لأنه طبيخ الفنادق.. ويرد علي في براءة ظاهرة لكن هذا كثير جدا وأعرض عليه إن كانت لديه رغبة في أن يأخد بعض الطعام معه إلى البيت ويرفض في إصرار ورجولة.
قلت له هناك عام جديد سيبدأ الليلة وهنا في هذا الفندق كثيرون جدا من يحتفلون فرحا بقدوم السنة الجديدة، قال لي أعرف هذا ولذلك اخترت أن آتي إلى هنا هذا المساء وأنا أعرف أن الأجانب في كابول يفضلون هذا الفندق للإحتفال.
ضحكت في هدوء وقلت له في مجاملة لاطفت قلبه عميقا: “تاجر شاطر”، وأول شروط النجاح في التجارة الشطارة.
ودّعت صديقي الطفل وأنا أسأله “ما هي أمنياتك للعام الجديد”؟ فقال أن أتعلم يوما وأن أستطيع القراءة والكتابة يوما وأن أستطيع شراء كومبيوتر، في إشارة الى الجهاز الذي كنت أحمله في يدي.. أمنيات بسيطة مقارنة بأمنيات أطفالنا، أليس كذلك؟
عاد الطفل إلى بيته وعدت أنا للنوم في غرفتي.. خجلت أن أكتب تهاني العام الجديد وهناك طفل في عالمنا لايزال يعيش على طرف الرصيف يبيع غريبا مثلي سيجارة ينفث دخانها رجال ونساء عاليا في الهواء وهم لايدركون كم من حرمان يسكن وراء هذا الدخان وتلك السيجارة.
في الصباح الموالي، تقلصت أمنياتي إلى حدها الأدنى وأنا أقطع متأملا شوارع كابول التي لا يختلف عامها الجديد عن عامها السابق.
من وراء نافدة السيارة، يطل طفل آخر بنفس العلبة من السجائر و بأقدامه العارية لوجه الريح.. يسألني إن كنت بحاجة إلى سيجارة أو إلى مجموعة سجائر أو ربما إلى علبة كاملة فأنا أجنبي وميسور الحال ويجب أن أدخن السيجارة.. هكذا تراني عيناه الصغيرتان..
اشتريت كل السجائر والتفتَ إلي صديقي المصور البريطاني، سائلا: “ماذا ستفعل بكل هذه السجائر”؟ قال ذلك لأنه يعرف أني لم أدخن سيجارة يوما.
رميتها جميعا في أول سلة مهملات ونظرت إلى السماء عاليا وسألت الله الرحمة لأطفالي ولكل أطفال العالم..
رابح فيلالي
رابح فيلالي إعلامي وروائي خريج جامعات قسنطينة وعنابة بالجزائر، ومعهد سيرينيا للاعلام بفرنسا. تنقل فيلالي بين الصحافة المكتوبة والتلفزيون في مشوار مهني توزع بين تقديم الأخبار و البرامج الثقافية والحوارية السياسية. عمل فيلالي لصالح عدة محطات إخبارية عربية قبل أن يستقر بقناة “الحرة” حيث يعمل مراسلا متجولا لها في واشنطن. إلى جانب العمل الإعلامي، يكتب فيلالي الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى المقال السياسي.