لا تحتاج الى تنظيرات. يكفي أن تقرأ الواقع. يكفي أن ترى ما حولك، لتعرف أن العراق قد مات.
ولا تحتاج الى بكاء أو عزاء.
وفّر دموعك.
فالدماء أكثر غزارة من حولك. والعذابات أكثر.
يكفي أن تتابع خيط الشقاء الواصل بين ملايين الضحايا، وملايين الأيتام، وملايين الأرامل، وملايين المهجرين، لتعرف أن شعب العراق قد مات أيضا. وأن الباكين لا يبكون عليه، وإنما على أنفسهم،… أو على حصتهم من سقط المتاع.
لا يوجد عراق. كما لم يعد هناك شعب يجدر أن يحمل تلك التسمية.
فهذا بلدٌ لا ماء فيه ولا كهرباء.
لا حياة فيه. لا اقتصاد. لا تعليم. لا صناعة. لا زراعة. لا تجارة. لا مؤسسات. لا خدمات.
وشعبه جثة هامدة، تدوسها أقدام الغزاة، كما تركلها أقدام الرعاع ممن حملوا اليه أحقادا وثارات ونفوسا دنيّة.
وهناك فساد يكفي العالم بأسره؛ فساد يجعل تلك الهلامة الجغرافية التي كان إسمها (عراق) مجرد حفرة ألقيت عليها قنبلة نووية، فنما فوقها عفن التاريخ كله، وتجمعت حولها جيف السياسة كلها. وتفشت منها رائحة الموت كما لم تتفش في أي بقعة في الكون، منذ الخليقة.
هذا هو العراق. استثنائي في كل شيء. حتى في موته! حتى في العفن الخارج منه! حتى في الضباع والجرابيع والذئاب التي تنهش فيه، وتنهش بعضها من حوله.
هذا هو العراق. إنه، لا أحد سواه. استثنائي في بعث الحياة، وفي قتلها.
استثنائي في المعرفة، واستثنائي في الجهل.
استثنائي في الشرف والوطنية، واستثنائي في النذالة والعمالة.
وهذا بلدٌ لا شعب فيه.
لم يمت شعبٌ في التاريخ مثلما مات شعبُ العراق.
كل ما لدينا اليوم من بقاياه، طوائفَ تتسمى باسمائها: سنة، شيعة، أكراد، وهي محاولةٌ لاعادةِ صياغة كلمة: خرا، بطريقة تجعلها أكثر قبولا لوكالات الأنباء.
هل كانوا مجرد خدعة؟
هل كانوا يضحكون على شعوب الأرض قاطبة؟
أم هل فقدوا الحياء؟ حتى أنهم صاروا يذهبون الى “بيت الخلاء”، لكي يسمونه “برلمان”.
اترك التنظيرات. يكفي أن ترى، لترى أن ما كان (شعب العراق) لم يبق منه إلا ذئاب وكلاب وطوائف تتصارع فيما بينها على الحصص.
لم يبق عراق. ولا بقي شعبٌ فيه. لقد مات. ومات كل مَنْ فيه يوم مات صدام حسين.
آخر رجل في العراق!
اعتلى منصة المشنقة، كما يليق بالرجال. ومات!
لم يفعل ذلك بطولة وبسالة فقط. بل من أجل أن يسجل للتاريخ شهادة وفاة شعب وبلاد.
لم يجسد رجلٌ واحدٌ طبيعةَ شعبه، بطيبتها وقسوتها، مثلما جسّدها صدام.
ولم يُوجز رجلٌ واحدٌ بلدا، بعبقريته وخطاياه، مثلما أوجزها صدام.
وعندما مات، فقد أخذ معه كل شيء.
ومات بموته العراق. كما مات بموته شعب العراق.
رأهم يموتون، واحدا واحدا. رأى شعبه يهلك. وفي غضون الوقت، بين الاختفاء والسجن والإعدام، كان شعب العراق بدأ مسيرته المظفرة نحو الموت المؤزر لا بالقنابل والتفجيرات، بل بالتفاهات والترهات والإمّعات!
هلك العراق. تحطم كل شيء فيه، واصبح نهبا للمليشيات والعصابات واللصوص والداعرين بامهاتهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم. أولئك الذين باعوا كل شيء، ليتشرفوا باللواط مع إيران تارة، ومع الاميركان تارة أخرى.
قوم لوط؟ ربما
ولكنهم يلوطون (كل حسب حصته) أكثر بكثير من كل الذين لاطوا من قبلهم. لعل طاعونا أو طوفانا يأتي ليجرفهم.
وهذا بلد، لا مقاومة فيه! إلا من رَحَمَ ربي مما بقي من الذكريات لشيء كان يدعى “عراق”.
لسنوات طويلة، ظلت تلك المقاومة تُلهم المتأملين بخلاص!
لسنوات!
بقينا نبحُّ الصوتَ وننحب، لسنوات!!
قبل أن نكتشف، أنها، وإن فعلت كل البطولات، إلا أنها تركت النفط يجري لكي يغذي الاحتلال!
فجّرت في كل مكان.
وقتلت في كل مكان.
وقدّمت تضحيات في كل مكان، إلا أنها تركت شريان الحياة يغذي اللصوص، ويغذي موتها هي بالذات.
قتل المقاومون خمسة آلاف جندي اميركي، وأصابوا بالعاهات خمسين ألفا، إلا أنهم تركوا النفط يمد آلة قهرهم بوسائل البقاء، وبكل ما رزق الله من أحزاب وخراب.
أفهل خُدعنا؟ أم أن المقاومة كانت مزيجا آخر من عبقرية العراق وبؤسه؟
كل أبطالنا عباقرةٌ وبؤساء. ولكل واحدٍ منهم حصته في قتل نفسه وقتل العراق.
جلجامش فعل كلّ شيء من أجل الخلود.
تصارع مع شتى الوحوش، إلا أنه خسر المعركة لثعبان إلتهم منه عشبة الخلود.
وكأن الأسطورة تقول لمن جاءوا بعده: ذلك هو قدركم الأبدي. تبنون، وتتقدمون، وتحققون انتصارات، ثم تفقدون كل شيء.
وها نحن هنا، نجددُ الموتَ الذي جددناه مراتٍ ومرات.
إعتلى صدام مشنقته لا ليعلن موته هو، بل ليعلن موت العراق.
وكم كان يليق بالوطنيين والشرفاء أن ينتحروا، ليمنحوا التراجيديا كافور النقاء الأخير.
ولم يبق لنا من البسالة إلا المأساة.
كما لم يبق لنا من المأساة إلا البسالة.
وفي الحالتين، فما من بطولة، إلا وكانت دماً نهرقه ودمعاً نذرفه، وبؤساً يعم، بانتظار بطولة أخرى.
فقل، سلامٌ عليكَ يومَ ولدت، ويومَ تموتُ، ويوم تُبعث حيّا.
ولكن، يا رب، ألم يكفك من الدوران فينا، كل هذا البكاء؟
علي الصراف
كاتب من العراق