قلت لك مرة : أن من يرفض أن يقتنع في شرق المتوسط بفكرة روجتها الأنظمة فإن هناك من يقنعه . هل تذكرين: الإعلام والمخابرات .
نعم يا صغيرتي .. هنا الأفكار تساق بشكل مركز عن طريق إعلام الأنظمة فهو السيد الذي لا تعصى له فكرة وهو المزود الرئيس للثقافة والمعرفة بعد أن أصبح الكتاب وأصبح المثقف عملة نادرة مهددة بالانقراض .
حتى أولئك الذين يسعون لتطوير مداركهم يا ابنتي عن طريق الدراسة وطلب العلم يخبرهم إعلام النظام بعد أن يفرغوا من علمهم أن عليهم أن يصدقوه وأن يتخرجوا أولاً من “جامعاته ” لأنهم أخيراً إن لم يفعلوا فهناك جامعة لـ ” المخابرات ” جاهزة لتعليمهم أن ينسوا كل ما تعلموه على أصول ٍ استخباراتية.
الأنظمة في شرقنا المتوسط يا ابنتي تخشى من الأظافر الطويلة وتخشى من المعرفة ومن الثقافة ومن الإطلاع ومن الفلسفة ومن المنطق ببساطة هي تخشى من الحقيقة وعليه فإن لديها في ذلك حلال وحرام ومحظور ومباح . وليس في المعرفةِ مباحٌ ومحظور يا ابنتي من يريد أن يتعلم عليه أن يقرأ في كل شيء لكن الأنظمة لا تريد منا أن نتعلم كل شيء وأن نفهم كل شيء وأن نقرأ كل شيء وأن نحلل كل شيء لأنها تعلم أن الثقافة تصنع إنساناً كاملاً متزنا مفكراً مستعداً دقيقاً.
هي تعلم أن مثل ذلك الإنسان قوة وخطر يهدد عرشها لذا فأن الجهل بالنسبة لها ضرورة كي تستقيم في مكانها ولا شيء أفضل لديها من ترويجه عن طريق تعدد الفضائيات والإذاعات والقنوات المختلفة وزيادة عدد ساعات البث الفضائي والإذاعي كي يزيد معدل الغباء والكسل والتخاذل والتخلف كي تكون في مأمن من شر ارتفاع مستويات الإدراك والفهم .
ستحتجين ربما يا صغيرتي وتقولين : الإعلام الغربي يفعل ذلك والأنظمة الغربية أيضاً تفعل ذلك ؟
حسنا يا صغيرتي ..قد تفعل ذلك .
نعم قد تكون أوربا ديفيد فروست وأميركا جون ستيوارت ولكن علينا أن نعترف بالـ فرق الكبير بين إعلامنا وإعلامهم فالإعلام الغربي يخاطب مجتمعات واعية متعلمة مثقفة مطلعة مدركة وعلى مستويات عالية من الذكاء والحنكة وعليه فإن معدل كذبه وشعوذته ودجله منخفض جداً حتى حين يكذب فإن المجتمع الغربي يعلم أن نظامه يكذب لأنه أعني المجتمع تعلم أن يقرأ ما بين السطور ، أما الإعلام العربي فيخاطب مجتمعات متخلفة مهلهلة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا ولا تفهم إلا ما يفهمه إعلام النظام ولا تصدق إلا ما يصدقه ولا تكذّب إلا ما يكذّبه هي لا تجيد قراءة “الممحي” على رأي أخوتنا في العراق .
الـمجتمعات هنا لا يعد لها الإعلام برامج مدروسة ومخططة سوى تلك المدروسة والمخططة والمفصّلة على أفكار النظام وإن أعد فذلك من باب ” إبراء الذمة” لا أكثر أو من باب “التفاخر والتباهي” أنه فعل .
في الغرب جميع البرامج موجهة ومدروسة وحتى الهزلية منها تهدف في الأخير لزيادة معدل وعي الأفراد بالإضافة إلى الترويح عنهم كما يراعي الإعلام الغربي أوقات مناسبة لعرض برامجه دون إسقاط مزاج الجمهور والمتلقي ومستواه العلمي والثقافي أما لدينا أعني لدى الإعلام العربي فملعون أبو الجمهور على مزاجه على أوقات البث على زيادة معدل الوعي والمعرفة فما يهم الإعلام العربي في المقام الأول هو مزاج ووعي ووقت الأنظمة .
الإعلام الغربي يهدف إلى التطوير يا صغيرتي والإعلام العربي يهدف إلى التخدير ، الإعلام الغربي يهدف إلى خلق وصنع المعرفة والإعلام العربي يهدف إلى صنع الخرافة والشعوذة والكذب، الإعلام الغربي يهدف إلى خلق مساحات أخرى للتفكير والإبداع والإعلام العربي يهدف إلى صنع مساحات لا نهائية من اللهو والعبث لخنق الإبداع لمنع أي فنان وأي مثقف وأي مبدع من إطلاق وعيه كي لا يصبح أدبُه وفنه وإبداعه صادقا يستحق للحياة.
لماذا يا صغيرتي ؟ لأننا في هذا الشرق الميت لا زلنا أداة في قبضة الأنظمة والأنظمة لا تريد إلا أن تكون الأداة محكمة القبضة ، حتى لا تهرب وتستغني عن المشغّل وتفكر بنفسها وتتخذ قراراتها عن اقتناعٍ وفهم وإدراك .
هنا الإعلام أقوى أداة للسيطرة على الجمهور وعلى عقله لضمان عدم هروبه وتطرفه وانقلابه على أفكار السلطة ، هنا الأنظمة تدفع المليارات من أجل زيادة دعم إعلامها بجميع وسائله وأشكاله .
أن الأمية تزداد في عالمنا العربي يا صغيرتي كلما ازدادت قنوات “العبث” والصحف الصفراء والبرامج الإذاعية الهابطة .
ستقولين : أين دور المثقف ؟
يؤسفني أن أصرح بهذا لكنها الحقيقة : الإعلام يقبض على الجماهير أكثر مما يقبض عليهم المثقف أو يقبض عليهم كتاب ولا ثقافة يا عزيزتي بدون كتاب ناهيك أن كل الكمية المعطاة من الحرية عن طريق أنظمة شرق المتوسط تالله أنها لا تكفي مثقفا وحراً واحدا .
صدقيني يا صغيرتي من تستعبد الأنظمة عن طريق إعلامها روحه وعقله وقلبه لن يستطيع أن يكون حراً حتى في اختيار ملابسه وعاداته وتقاليده .
لماذا يا صغيرتي : لأن ثقافة المرء هي التي تحدد سلوكه. انظري حولك وشاهدي من أين يستقون الثقافة ومن أين يأخذون السلوك؟ ليس العقل في شرقنا المتوسط من يقود حياتنا ويحدد سلوكنا وثقافتنا بل العادة يا صغيرتي “العادة” التي صنعتها الأوهام.
يقولون : الإنسان حيوان عاقل ، أصدقك القول يا ابنتي رأيت الحيوان لكني لم أر الإنسان بعد ولم أر العقل إلا فيما ندر . أيضا ليس كافيا -كما يقول ديكارت- أن تمتلك عقلا جيدا، المهم أن تعرف كيف تستخدمه جيدا.
حسنا ..الأسئلة كثيرة يا ابنتي بإمكانك أن تسألي مثلاً: هل هناك ميزانيات رصدتها الأنظمة العربية لرفع المستوى العلمي والثقافي ودعم المبدعين وتبني أفكارهم ؟ وإن كانت. هل الأموال التي تنفق على تطوير الفرد وزيادة وعيه ووعي المجتمع كما الأموال التي تنفق على قنوات النظام ومهرجاناته وحفلاته وندواته ومؤتمراته وسهراته وبهرجاته التي لا تنتهي ؟
لن أقول شيئا فقد قام المثقف بدوره على قدر الممكن لكنه لم يتجاوز “ممكن ” الأنظمة العربية بعد ليستطيع أن يتجاوز مستحيلها .
إن أردت أن أختصر عليك المشهد كاملا يا ابنتي وأجيبك لماذا لا يعيش المثقف الحقيقي الصادق والنزيه والشريف طويلا في عالمنا الشرق أوسطي فـ اسألي جهاز ” المخابرات” .
خالد العلوي
كاتب عماني