في ذلك اليوم ..كان شهر رمضان يعلن قدومه في قلب صيف واشنطن الساخن جدا، وكان مسلمو المدينة يركضون في سباق مع الزمن لترتيب أجنداتهم العائلية والمهنية بما يتناسب مع متطلبات الشهر الكريم.
هم أقلية في مدينة “بورك” الواقعة في الجزء الشمالي من ولاية فرجينيا على الساحل الشرقي للولايات المتحدة ..
أفتح باب بيتي في الصباح وأنا أتوجه إلى عملي ..أقابل جارتي” كاثرين” الأميركية البيضاء السبعينية العمر تدخن سيجارتها على جادة بيتها المجاور لبيتي.
كالعادة نتبادل تحيات الصباح ونستعيد معا ذكرياتها المشتركة مع والدتي الراحلة إلى جوار ربها منذ حين من الزمن. كانت بينهما شراكة في الإحساس والمعنى وإن عجز كلاهما على فهم لغة الآخر”الإنسان واحد وهذا هو المهم.”
تخبرني”كاثرين” في تلك العجالة أن إدارة كنيستها التي تصلي فيها كل يوم أحد من نهاية كل أسبوع قد تبرعت بقاعة الصلاة وأعطتها لمسلمي المدينة لأداء صلاة التراويح فيها طيلة شهر رمضان الفضيل.
“كاثرين” تقول لي القصة على أنها واحدة من أخبار الجيران وسكان المدينة كما يحدث الأمر بيننا عادة في الصباحات والمساءات، أما تفكيري فقد ذهب إالى مكان آخر تماما. كالعادة دوما مع الصحافيين.
في لحظة واحدة أدركت أنني أمام قصة صحفية جيدة توصل المعنى الأكبر لقيمة التسامح والتعايش بين الناس في هذا العالم. عالم يتقاتل فيه الناس وهم يعجزون عن الحوار و يفشلون في التواصل السلمي فيما بينهم.
عرضت الفكرة على مدير الأخبار في المحطة وكان سعيدا بها.
إنطلقت في الإتصالات اللازمة لبدء التصوير، وقبل موعد الإفطار بقليل كنت في الموعد والمكا..
كنسية تقع على ربوة هادئة تحيط بها مجموعة من البيوت الواسعة. أضواء الكنيسة منطلقة في ذلك المساء الصيفي تزين الفضاء، وحركة حثيثة تحدث من حول المكان بين قادمين إليه ومغادرين له، كل هذا المشهد يقع على بعد النظر من بحيرة “بورك “وهي قطعة من سحر الطبيعة التي تطبع المدينة.
كان المغادرون مسيحيون أميركيون مقيمون في هذه المدينة أبا عن جد، أنهوا لتوهم موعدا لتعليم أطفالهم العزف مع الفرقة الموسيقية للكنيسة وعند الفراغ من التدريب الموسيقي، انخرط الجميع كبارا وصغارا في سباق ضد الساعة لتنظيف المكان وتشطيبه وإعداده للمسلمين القادمين للصلاة فيه بعد حين.
أما القادمون فكانو ا مسلمين من جنسيات وأعراق مختلفة، وحّدتهم أميركا هنا تحت عنوان “المواطنة الأميركية”.
كانوا يسارعون الخطى في صورة جميلة وهو يصحبون صغارهم إلى المكان. يدخل المسلم إلى الكنيسة فيجدها نظيفة وجاهزة للبدء في صلاته، وكذلك عليه أن يفعل وهو يغادر المكان في وقت لاحق عندما يغادر الكنيسة ويفرغ من صلاته.
قال لي “أحمد سلام” المصري الأميركي وهو الذي يحضر للصلاة في المكان بشكل يومي “إن هذا هو المعنى الحقيقي للتسامح الذي يجب أن يصل إلى أهلنا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لأننا جميعا نعبد الله الوا حد ونسأله الرضا والغفران وإن إختلفت أساليبنا فغاياتنا واحدة ومقاصدنا جميعا في نهاية المطاف واحدة أيضا”.
أقابل مسؤول الكنيسة فيقول لي إ نه العام الثالث على التوالي الذي يتبرع بالمكان ويرحب بالمسلمين للصلاة عنده.
إنه المعنى المجسد للتسامح.. “نحن جميعا مواطنون أميركيون في هذه الأرض الطيبة نعبد الله الواحد ونحرص على أن نعيش معا في سلام وأمان دائمين”.
أنتقل في حديثي إلى الإمام الذي يؤم الناس في الصلاة فيؤكد لي أن سعادة المسلمين في مدينة “بورك” لاتوصف بهذه الخطوة العظيمة من جيرانهم المسيحيين.. وهذا هو المعنى العظيم لكافة الأديان ولقاء الناس تحت سماء واحدة وفوق أرض واحدة والتوجه بالعبادة لإله واحد.
بعد لحظات من هذا الحوار، ارتفع الأذان في الكنيسة وأقيمت صلاة العشاء، وبدأت صلاة التراويح ليعيد التأكيد لي القائمون على أمن الكنيسة خارج المبنى أن هذا المشهد يتكرر كل عام في كل شهر رمضان في انتظار أن يكمل المسلمون بناء مركزهم الإسلامي الذي إختاروا له إسم “السلام “بعد سنوات من الآن. وإلى أن يتم ذلك سيمضي المسلمون في إقامة صلواتهم في كل شهر رمضان في مبنى الكنيسة.
أضاف إلى سمعي المتحدثون من أبناء الجالية المسلمة الأميركية في منطقة “بورك” أنهم يستخدمون قاعة الكنيسة في مناسباتهم الاجتماعية عندما يعجزون عن دفع تكاليف القاعات التي تستأجر في هكذا نوع من المناسبات، فجيرانهم المسيحيين دوما على استعداد لتقديم المساعدة المطلوبة وعند الحاجة لها من قبل مسلمي “بورك”.
تأملت صلاة المسيحي في كنيسته وحرصه العميق على ترتيب المكان للمسلم الذي سيأتي من بعده للصلاة في المكان نفسه، وتأملت حرص المسلم على ترتيب المكان وتركه في أفضل حالاته لمن تكرم بإعطائه المكان للصلاة فيه، وتأملت حرص الناس على احترام أديان بعضها البعض على اختلافها، ووجدت أن الأصل في اختلاف الناس هو الرحمة وأن التنوع في الكون هو إثراء للوجود الإنساني..
خلصت وأنا أغادر المكان إلى أن الإنسان حالة هائلة من الجمال عندما يختار ويتصرف على أنه إنسان، ولا أجمل من صورة أن يقام إفطار للمسلمين وصلاة للتراويح في كنيسة جيرانهم المسيحيين في “بورك”.. تلك المدينة التي تقع على مسافة قرابة ساعة من الزمن عن واشنطن العاصمة.
ما أجمل الإنسان وهو إنسان، وفي كل مكان..
رابح فيلالي
رابح فيلالي إعلامي وروائي خريج جامعات قسنطينة وعنابة بالجزائر، ومعهد سيرينيا للاعلام بفرنسا. تنقل فيلالي بين الصحافة المكتوبة والتلفزيون في مشوار مهني توزع بين تقديم الأخبار و البرامج الثقافية والحوارية السياسية. عمل فيلالي لصالح عدة محطات إخبارية عربية قبل أن يستقر بقناة “الحرة” حيث يعمل مراسلا متجولا لها في واشنطن. إلى جانب العمل الإعلامي، يكتب فيلالي الرواية والقصة القصيرة إضافة إلى المقال السياسي.