يعكس مشروع الدستور الجديد في مصر التحالف بين الأحزاب السياسية اليسارية والأطراف الفاعلة في الدولة العميقة التي ساعدت في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي من الحكم في تموز/يوليو. إن قوة هذا التحالف – وقدرته على تحقيق تفويض مقنع في الاستفتاء الدستوري في كانون الثاني/يناير – على المدى القصير، ستحدد فيما إذا كان بإمكان التحول السياسي في البلاد أن يمضى قدماً أم لا. أما على المدى الطويل، فإن التوقعات لمستقبل مصر تظل قاتمة: فإما أن يتم تطبيق الإنفاق الحكومي الهائل المنصوص عليه في الدستور الجديد، الأمر الذي سيترتب عليه حدوث آثار اقتصادية سلبية، أو لا يتم تطبيق الدستور، وفي هذه الحالة ستظل مصر محكومة بنظام قانوني لا يمكن الوثوق به.
معلومات أساسية
في كانون الأول/ديسمبر 2012، وعقب موجة كبيرة من الاحتجاجات على الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي والذي حصن بموجبه قراراته ووضعها فوق السلطة القضائية، أمر الرئيس المصري السابق البرلمان الذي هيمن عليه التيار الإسلامي في ذلك الحين بإكمال مشروع الدستور الجديد خلال ثمان وأربعين ساعة ثم طرحه للاستفتاء بعد ذلك بأسبوعين. وعلى الرغم من إقرار ذلك الدستور بنسبة 64 في المائة من الأصوات، إلا أن نسبة المشاركة المنخفضة بواقع 33 في المائة قوضت من شرعيته الشعبية، كما أدت الطبيعة غير الشاملة لجميع الأطياف في عملية كتابة الدستور إلى تحفيز حركة معارضة جماهيرية بلغت ذروتها في النهاية بالإطاحة بمرسي في 3 تموز/يوليو.
ونتيجة لذلك، وضعت الحكومة المدعومة من الجيش التي حلت محل مرسي عملية إجراء تعديلات على الدستور على رأس أولوياتها. ففي 8 تموز/يوليو أصدرت إعلاناً قضى بتعليق العمل بالدستور ووضَع الخطوط العريضة لعملية جديدة تقوم بموجبها لجنة مكونة من عشرة أعضاء من الخبراء القانونيين بإجراء تلك التعديلات. وبعد ذلك قامت لجنة مكونة من خمسين عضواً “تمثل جميع فئات المجتمع والتنوع الديموغرافي” بمراجعة مواد الدستور وتعديلها وإقرارها. وفي حين مثلت اللجنة الأخيرة مختلف ألوان الطيف الاجتماعي، إلا أنها كانت متوافقة من الناحية الأيديولوجية مع التحالف الذي أطاح بمرسي: إذ لم يشارك فيها سوى اثنان من الإسلاميين، لم يكن أي منهم من جماعة «الإخوان المسلمين»، في حين شارك فيها عدد كبير من الأحزاب غير الإسلامية التي لم تكن تحصل من قبل سوى على عدد قليل جداً من الأصوات في الانتخابات التي خاضتها.
المتمردون يجنون الغنائم
يتوافق مشروع الدستور الحالي مع رغبات الائتلاف المناهض لمرسي في ثلاثة جوانب. الأول، تقليص مواد الشريعة الإسلامية بكثير عما كان عليه الحال مع الدستور السابق. ففي حين أنه يؤكد أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع” (المادة 2)، إلا أنه يلغي المادة 219، التي حددت مصادر الشريعة التي تصدر على أساسها التشريعات والأحكام. كما أنه يلغي المادة 44، التي تحظر “إهانة أو إساءة معاملة جميع الرسل والأنبياء”، كما يُعدَل المادة المتعلقة بالأزهر، المؤسسة الإسلامية للتعليم الأبرز في البلاد، حيث لم يعد يتوجب الرجوع إليها “في المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية”. وعلى الأخص، يحظر الدستور الجديد قيام الأحزاب الدينية (المادة 74).
الثاني، يمنح الدستور الجديد استقلالاً موسعاً للأجهزة الأمنية والعسكرية ومؤسسات الدولة الأخرى التي شاركت في الإطاحة بمرسي. على سبيل المثال، ينص الدستور المقترح على إنشاء “مجلس أعلى للشرطة” يتعيّن التشاور معه حول جميع القوانين المتعلقة بالشرطة (المادة 207). وبالإضافة إلى منحه “ميزانية مستقلة” لكل هيئة قضائية واستقلالية في “إدارة شؤونها بنفسها” (المادة 185)، فإنه يخول “الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا” تعيين رئيس المحكمة (المادة 193). كما يخول أيضاً “مجلس القضاء الأعلى” تعيين النائب العام للحكومة (المادة 189)، وهي السلطة التي كانت ممنوحة للرئيس بموجب الدستور السابق.
ويضمن المشروع الجديد وضعاً خاصاً للجيش، حيث تؤكد الديباجة أن الجيش كان ولا يزال “عماد” الدولة منذ عهد محمد علي في القرن التاسع عشر، وتثني على “جيشنا الوطني” الذي “حقق انتصاراً وفقاً لإرادة شعبية كاسحة تمثلت في الثورة المجيدة في الفترة 25 كانون الثاني/يناير – 30 حزيران/يونيو” كما أن مشروع الدستور الجديد، مثله مثل الدستور السابق، ينص على اختيار وزير الدفاع من بين ضباط الجيش (المادة 201)، ويحمي استقلالية الجيش بميزانياته من خلال تخويل “مجلس الدفاع الوطني” – الذي تهيمن عليه المؤسسات الأمنية – بمراجعة تلك الميزانية (المادة 203)، كما يسمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية (المادة 204). بيد أن مشروع الدستور الجديد يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يتطلب قيام رقابة تشريعية على المحاكمات العسكرية تكون أقل من سابقاتها، وينص على أنه لا يمكن تعيين وزير الدفاع إلا بعد موافقة “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” خلال الفترتين الرئاسيتين المقبلتين (المادة 234)، مع تمكين الدولة من محاربة “الإرهاب بكافة أنواعه وأشكاله” (المادة 237) – وهو ما يعد واقعياً تفويضاً مطلقاً للجيش في الحملة الجارية ضد القوى الموالية لـ «الإخوان».
الثالث، يعكس مشروع الدستور الجديد إصرار الأحزاب اليسارية على أن تلعب الحكومة دوراً أكبر في تقديم الخدمات الاجتماعية. فبالإضافة إلى العديد من المسؤوليات التي كانت الدولة تتحملها في الدستور السابق، فإن مشروع الدستور الجديد يلزم الحكومة الآن على “تحقيق العدالة الاجتماعية” (المادة 8)، وتوفير “الموارد الغذائية لجميع المواطنين” (المادة 79)، وضمان “تقديم معاشات تقاعد للمسنين تضمن لهم مستوى معيشي لائق” (المادة 83). كما ينص أيضاً على توفير مستوى مناسب من الإنفاق الحكومي المحدد: يجب أن يُنفق ما لا يقل عن 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية (المادة 18)، و4 في المائة على التعليم ( المادة 19)، و 2 في المائة على التعليم العالي (المادة 21)، و1 في المائة على البحث العلمي (المادة 23) – وجميعها يجب أن تنفذ بحلول السنة المالية 2016/2017 (المادة 238).
هل يمكن للتحول السياسي في مصر أن يمضى قدماً؟
إن حقيقة كون الدستور الجديد يعكس الائتلاف الحاكم الحالي في مصر ليست جديدة ولا مفاجئة. فالدستور السابق جسد التحالف الذي كان يحكم قبل أقل من عام، حيث منح مرسى والإسلاميين موطئ قدم في تأسيس أجندتهم الدينية، مع ضمان رضا الجيش من خلال منحه استقلالاً غير مسبوق (انظر المرصد السياسي 2001). ومع ذلك، فإن المستقبل القريب للتحول في مصر يتوقف على ما إذا كان التحالف الحالي أكثر قوة ومتانة من سابقه، الذي انهار بالكاد بعد ستة أشهر من الموافقة على الدستور في أعقاب إجراء استفتاء [ناجح] حوله.
وتعتمد الإجابة على المدى القصير على الاستفتاء الجديد وإمكانية تمرير الدستور في 14-15 كانون الثاني/يناير. وعلى الرغم من أنه من المتوقع تمريره – حيث لم يسبق وأن كانت نتيجة التصويت على أي استفتاء في مصر بـ “لا” – إلا أن الموافقة بـ “نعم” بنسبة كبيرة وبإقبال كبير من قبل الناخبين وعدم قمع الناخبين هي أمور من شأنها أن تعزز التحالف الحالي وتضفي الشرعية على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستعقب ذلك. وفي المقابل، فإن التصويت على الدستور بـ “نعم” بنسبة قليلة من شأنها أن تقوض جدوى العملية الحالية بشكل كبير، وخاصة إذا كانت عملية التصويت مصحوبة بإقبال ضعيف و/أو عمليات قمع على نطاق واسع. فذلك سوف يشجع الرافضين للمرحلة الانتقالية [والتحول السياسي في البلاد] على تكثيف احتجاجاتهم، كما أن بعض قادة الأحزاب اليسارية قد ينشق من الائتلاف الحاكم. وكلا السيناريوهين ممكن في الوقت الراهن: إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن الجيش – المؤسسة الرئيسية التي تدعم مشروع الدستور الحالي – لا يزال يحظى بدعم قوي، ولكن الإحباط المصاحب للمرحلة الانتقالية قد تصاعد في الأشهر الأخيرة، واتسع نطاق المشاركين في المظاهرات المناهضة للحكومة المدعومة من الجيش من خارج جماعة «الإخوان»، وخاصة في الجامعات.
وحتى لو أن نجاح الاستفتاء على الدستور سيسمح للتحول السياسي في البلاد بالمضي قدماً، فإن الإنفاق الحكومي الهائل المنصوص عليه في الدستور الجديد غير قابل للاستمرار على المدى الطويل، الأمر الذي يدل على أنه ليس لدى الحكومة الحالية نية لتطبيق الدستور بالكامل. وعلى وجه الخصوص، لو أوفت الحكومة بالمتطلبات الدستورية لإنفاق 10 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي – وليس مجرد 10 في المائة من ميزانيتها -على خدمات اجتماعية محددة، فإن ذلك يمكن أن يحفز قيام أزمة نقدية حادة من شأنها أن تعرض دعم المواد الغذائية والوقود إلى الخطر، الأمر الذي سيثير غضب قطاعات كبيرة من السكان وربما يوسع نطاق الدعم للمظاهرات المناهضة للحكومة. وتشير أحدث البيانات الاقتصادية إلى وجود خطر كبير من هذا الإنفاق الحكومي الهائل: يشار إلى أن الاحتياطي النقدي في مصر تراجع من 18.6 مليار دولار إلى 17.8 مليار دولار بين تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، ولا تتوقع الحكومة استمرار سخاء دول الخليج العربي الغنية إلى ما لا نهاية – بعد أن تعهدت هذه بتقديم 2 مليار دولار إلى القاهرة في أعقاب عزل مرسي. بيد أنه لو حاولت الحكومة تجنب هذه النتائج من خلال عدم تطبيقها للدستور الجديد، فسوف تواصل مصر افتقارها إلى الأسس القانونية التي يحتاج إليها أي نظام سياسي مستقر.
ونظراً لأن مصلحة الولايات المتحدة تكمن في استقرار مصر واتجاهها نحو حكم مدني فعال، يجب أن يأتي رد واشنطن على الاستفتاء القادم مؤكداً لأهدافها على المدى القصير والطويل على حد سواء. ويعني ذلك تشجيع عملية تصويت حرة ونزيهة من خلال التعهد برفع تعليق المساعدات العسكرية لمصر الذي أقرته عقب الإطاحة بمرسي إذا تم إجراء الاستفتاء بشكل صحيح. ولكن حتى لو أن استفتاء ناجح سيؤدي إلى إرهاق مصر بدستور يغرق اقتصادها أو لا يتم تطبيقه إلى حد كبير، فينبغي على واشنطن وحلفائها في المنطقة أن يبدؤوا بدراسة استراتيجيات تهدف إلى تشجيع القاهرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية هي في أمس الحاجة إليها.
إريك تراجر هو زميل واغنر في معهد واشنطن.