(وطن) ـ كشف الكاتب الصحفي الفرنسي نيكولاس بو، في كتابه الجديد بعنوان “بابا أولاند في مالي، قصة فشل معلن” عن وثائق وشهادات جديدة تتعلق بالدور الفرنسي في القارة الأفريقية، وقدم مراجعة نقدية لسياسات فرنسا في القارة. وتضمن الكتاب فصلا بعنوان “ربيع وشناء أفريقي” تناول خفايا العلاقات الفرنسية الليبية وتقاطعات سياسة نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في أفريقيا مع توجهات باريس وصولا إلى قرار الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي “المفاجئ” بالانقلاب على القذافي ودعم حركة الاحتجاج المسلح التي اشتعلت في بنغازي لتمتد إلى المنطقة الشرقية من ليبيا وصولا إلى شن عدوان عسكري على ليبيا أطاح بحكم القذافي واغتياله في أوكتوبر 2012.
وقد اشتهر بو بعد نشره كتاب “صديقنا بن علي” ومشاركته في تأليف كتاب “حاكمة قرطاج” الذي تناول سيرة ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.
و ينقل المؤلف عن وثيقة للاستخبارات الفرنسية الخارجية تعود إلى خريف 2011 تلخيصها لسياسة القذافي الإفريقية كما يلي: “بغض النظر عن الانتهاكات التي يمارسها ضد شعبه، فقد تمكن القذافي من جعل الجزائريين والفرنسيين في حاجة إليه في حربهم الدقيقة ضد القاعدة في المغرب الإسلامي. فالزعيم الليبي يمول بسخاء قبائل الطوارق ويراقب سرا المجموعات المتشددة وفي النهاية يُعيل 800 ألف عامل إفريقي مهاجر، باتوا اليوم في بطالة، وكانت مداخليهم التي تضمنها طرابلس تسهم في التوازن الاقتصادي والاستقرار في مجمل المنطقة”.
ويقول الكاتب إن الولايات المتحدة حين بلغ بها الاستياء مبلغه من “الضربات القذرة” التي تلقتها من القذافي بين 1980 و1990 راودتها فكرة التخلص من حكمه نهائيا واستشارت الجزائريين في ذلك. وللرد على الأميركيين أعد الجنرال (مدين) الذي كان يومها ملحقا عسكريا للجزائر في طرابلس، تقريرا سريا عن احتمال انقلاب عسكري في ليبيا. وكانت الرسالة التي تلقتها واشنطن من الجزائر صارمة: “لا مجال لتصفية القذافي، فمثل هذا التغيير سيحدث كثيرا جدا من الخسائر الجانبية في المنطقة”.
ولم يكن هناك مناص من انتظار عام 2000 ليبارك الغرب رجوع القذافي إلى المشهد الدولي، حيث بدأت مساعدته في محاربة الهجرة غير الشرعية والإرهاب تمنحه احتراما جديدا. وهكذا أعادت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية في 2004 وأدى جاك شيراك في نفس العام زيارة رسمية لطرابلس.
“صفحة جديدة”
وينقل المؤلف عن مذكرة وجهها زياد تقي الدين -الوسيط بين القذافي وفرنسا الذي شارك في زيارة شيراك والمتهم اليوم في عدة قضايا- إلى وزير الداخلية يومها نيكولا ساركوزي قوله إن القذافي يرغب في “فتح صفحة جديدة” وإقامة “علاقات قائمة على الثقة والصداقة وأن يصبح حليفا خاصا لفرنسا، لاسيما في إفريقيا حيث يود أن يؤدي-بمساعدة فرنسا- دورا مهما”.
كما ينقل الكاتب عن ميشيل دوبونيكورس، مستشار جاك شيراك الذي كان يلتقي في باريس باستمرار بمدير المخابرات الليبية موسى كوسا، قوله “كنت راضيا لكون الليبيين يبلغونني بالموقف في اتشاد وبالتهديدات السودانية. ولم نكن ضد القذافي، بل العكس هو الصحيح”.
فضلا عن هذا أوكل القذافي، كما يقول الكاتب، سياسته الإفريقية إلى “أصدقاء فرنسا” مثل علي التريكي، الذي انتهى به المطاف سفيرا بفرنسا ولا زال يقضي فيها إقامة هادئة، وكذلك بشير صالح الذي يوصف بـ”عاشق فرنسا” والمتهم بالإسهام في تمويل حملة ساركوزي.
وكانت ميزانية القذافي المخصصة لإفريقيا تتراوح بين 5 و8 مليارات دولار.
وواجهت طموحات القذافي في إفريقيا صعوبة عندما حاول إقامة قنصلية كبيرة في مدينة غاو في شمال مالي وهو ما اعترضت عليه الجزائر بشدة ليضطر إلى التراجع عن الفكرة.
مفاجأة فرنسية
ويرى الكاتب أن الدورين الليبي والجزائري كانا يلعبان بمباركة فرنسية عامل استقرار في المنطقة وكان الطرفان “يشعران بالراحة في ظل النهب المنظم للثروات”، لكن هذا الوضع كان على موعد مع مفاجأة في بداية 2011 حين قررت فرنسا فجأة أن تسحب البساط من تحت أقدام “طاغية طرابلس”، وقررت تقديم إسناد قوي للمحتجين المسلحين في عاصمة الشرق بنغازي التي طالما عرضها القذافي للحرمان حسب وصف بو.
ويكشف بو أن قرار التدخل العسكري في ليبيا قد اتخذه الرئيس الفرنسي مخالفا لرأي أكثر مساعديه إخلاصا. وينقل الكاتب عن برنارد اسكارسيني –الذي كان حينها يشغل منصب مدير جهاز مكافحة التجسس- قوله: “كنا نخاف من نزاع طويل وصعب تكون له تداعيات خطيرة على منطقة الساحل”.
كما ينقل عن الرجل الثالث في الإدارة العامة للأمن الخارجي (الاستخبارات الخارجية) آلان شوا قوله إن “أسبابا وجيهة” كانت تمنع فرنسا من التدخل فكل الأنظمة في العالم العربي والإسلامي كانت تصور معارضيها على أنهم من القاعدة لكي تتمكن من قمعهم دون التعرض لأي انتقاد، “والقذافي استخدم هذا الأسلوب بطريقة كاريكاتيرية في مارس 2011، ولعله لم يكن مخطئا تماما لأن نقاط انطلاق “الثورة” الليبية، من جبل نفوسه في الغرب إلى الجبل الأخضر في الشرق كانت هي منطلق الجماعة الإسلامية المقاتلة، لكن القذافي مارس الكذب على مدى أربعين عاما لدرجة أن أي أحد لم يعد يريد تصديقه”.
ويتساءل الكاتب عن سر التحول المفاجئ في موقف نيكولا ساركوزي؟ “هل يريد الرئيس السابق محو الماضي تماما ونسيان المرحلة المتهورة من العلاقات لاسيما حين استقبل العقيد القذافي في ديسمبر 2010 ونصب خيمته مقابل قصر الإليزيه؟ أم استماعا لنصائح صديقه أمير قطر الذي كان يريد التخلص من القذافي مهما كان الثمن؟
اجتماع قرار الحرب
ويصف الكاتب اجتماعا في قصر الإليزيه في 7 مارس 2011 بين ساركوزي ووزرائه الأساسيين، ناقش التدخل في ليبيا رغم أن جدول أعماله كان يتعلق بـ”موجات الهجرة في البحر المتوسط”. ويصف أحد المشاركين في الاجتماع -تحدث إلى المؤلف- ما دار قائلا “كان نيكولاس ساركوزي غاضبا بشدة، وكما نشعر أنه هو فعلا من يريد التدخل ضد القذافي، حتى بدون دعم دولي وحتى لو اضطر إلى مواجهة بعض وزرائه، بما في ذلك وزيره الأول فرانسوا فيون. في بداية الاجتماع لخص آلان جوبيه، وزير الخارجية حينها، رأي حلفاء فرنسا الرئيسيين قائلا إن الأمريكيين ليسوا متحمسين وإن البريطانيين ليسوا مستعجلين… أما فرانسوا فيون فزايد قائلا: سيكون من الجنون التدخل دون مشاركة أميركية، لكن ساركوزي قاطعه قائلا “من الوارد تماما تنفيذ ضربة عسكرية فرنسية-بريطانية دقيقة في ليبيا بشكل عاجل وبدعم من الجامعة العربية.” وشدد ساركوزي على أهمية تنظيم “مناطق إنسانية” في مصر وتونس لمواجهة تدفق محتمل للمهاجرين بسبب العملية. ولم يعبأ ساركوزي بتحفظات صديقه الوفي كلود غايان، وزير الداخلية في ذلك الوقت، حول إمكانية إنشاء معسكرات للاجئين حيث لم تكن خطته تتضمن أي اعتمادات لذلك، بل شدد على أن القذافي “يجب أن يرحل”.
وحاول رئيس الوزراء مرة أخرى ثني ساركوزي قائلا “بدون الأميركيين، سنسير إلى كارثة”، لكن ساركوزي رد عليه : “لا أرى سببا لذلك. لا يمكننا التخلي عن الشعب الليبي”.
وقد تدخل الجنرال بنوا بوغا، رئيس الأركان الخاص لساركوزي، لدعم رأي الرئيس قائلا “نظرا للحالة المتردية للطيران الليبي، المكون من 10 مروحيات وطائرتي ميراج و6 طائرات سوخوي، يمكننا بسهولة تحييد مدارج الإقلاع”. وقد بدا واضحا أنه لا شيء يستطيع الوقوف أمام حماس ساركوزي للحرب.
وينقل المؤلف أيضا عن وزير خارجية النيجر –التي كانت تتلقى دعما مهما من القذافي- جانبا من وقائع عشاء بين الرئيس النيجري وساركوزي بحضور معاونيهم في 7 يوليو 2011. ويقول وزير الخارجية النيجري محمد بازوم للمؤلف “دافعت أنا والرئيس محمدو إيسوفو عن فكرة التوصل إلى تسوية بين بعض المقربين من القذافي من المنفتحين وبين المجلس الوطني الانتقالي لوقف القتال. لكن ساركوزي لم يكن يريد ذلك تحت أي ظرف وكان متصلبا في مواقفه. وكان واضحا على وجوه وزرائه ومستشاريه الحاضرين أنهم لا يوافقونه، لكن أحدا لم يكن يجرؤ على معارضته”.
ملاحظة
التقرير كتبه عبده عبد القادر على صفحة “أجواء لبلاد” على الفيس بوك