جاء الإعلان في نهاية الأسبوع المنصرم عن تعيين رئيس وزراء جديد لرئاسة حكومة انتقالية في تونس ليمثل أهمية رمزية تتعدى حدود البلاد. إن اختيار مهدي جمعة غير المشهور، وشخصية مستقلة رسمياً، يمثل فرصة نادرة للغاية – ربما تكون المرة الأولى على الإطلاق، في أي مكان – يتنازل فيها حزب إسلامي طواعية عن السلطة السياسية دون حرب أهلية أو عنف جماهيري أو تدخل عسكري من أي نوع. إن هذا الحزب في هذه الحالة هو “النهضة”، الذي قاد التحالف الحاكم في تونس بعد فوزه بما يقرب من 40 بالمائة من الأصوات في الانتخابات التي أعقبت الثورة والتي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2011. بيد، منذ ذلك الحين تعرض الحزب لضغوط شعبية (وإن كانت غير عنيفة) للتنحي والسماح بإجراء انتخابات جديدة كان من المفترض إجراؤها منذ فترة طويلة في ظل حكومة “تكنوقراطية” غير حزبية.
وقد تم التوصل إلى اتفاق بشأن هذه الخطوة الأولى عن طريق “حوار وطني” فريد شمل جميع الأحزاب السياسية المنقسمة في تونس، إلى جانب أربع منظمات غير حكومية وطنية رائدة هي: “الاتحاد العام التونسي للشغل”، و “الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية” (وهو اتحاد لأصحاب الأعمال)، ومنظمة حقوق الإنسان الرئيسية، ونقابة المحامين. وبعد العديد من التأخيرات ومواجهة موعد نهائي “أخير” قبل اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية، تم اختيار جمعة بأغلبية بسيطة (أحد عشر من أصل واحد وعشرين صوتاً) من الأحزاب السياسية المشاركة في الحوار. وأمام جمعة الآن خمسة عشر يوماً لتشكيل حكومة جديدة من المستقلين الآخرين للإشراف على عدة خطوات رئيسية خلال الأشهر الستة المقبلة: وهي تحديداً، إقرار دستور جديد وسن قانون الانتخابات وإجراء انتخابات برلمانية.
وعلى الرغم من حيادية جمعة الواضحة، إلا أن اختياره يثير الجدل. فقد صرح حزب المعارضة الرائد، “نداء تونس”، أنه حتى وزير “غير سياسي” من الحكومة الحالية – التي شغل فيها جمعة حقيبة التجارة والصناعة في آب/أغسطس – لا ينبغي أن يترأس الحكومة الجديدة. ونتيجة لذلك “لم يقع عليه الاختيار بالإجماع”، وفقاً لمتحدث رفيع المستوى باسم المعارضة عصام الشابي. وهناك آخرون يزعمون بأن ضعف الخبرة السياسية لجمعة يجعله غير مؤهل لقيادة البلاد خلال هذه الأوقات المضطربة. وينظر إليه العديد من العلمانيين والليبراليين على أنه مقرب جداً من زملائه في الائتلاف الإسلامي، على الرغم من عدم انتمائه الحزبي الرسمي وحياته العملية في مجال الإدارة التقنية والهندسية في القطاع الخاص. وفي إطار شرح أحد الأكاديميين التونسيين البارزين لهذا الأمر في الغرف المغلقة قال إن “«حزب النهضة» فعل كل ما بوسعه لكي يدعم فقط رجلاً سوف يمثل بطريقة ما استمرارية للحكومة [التي ترأسها هذا الحزب]، حتى إن كان «النهضة» نفسه سيترك الحكومة الآن”. وسوف تجتمع قوى المعارضة هذا الأسبوع لتحديد موقفها من رئيس الوزراء القليل التجربة وحكومته في المرحلة القادمة.
ومما ينذر بمزيد من الشؤم أن “الاتحاد التونسي العام للشغل” يهدد مرة أخرى بتنظيم احتجاجات جماهيرية في الشوارع في نهاية هذا الأسبوع – بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة للثورة – للمطالبة بتحقيق أوضاع اقتصادية أفضل. ومن المخطط تنظيم مظاهرات كبيرة في سيدي بوزيد، المدينة الداخلية الفقيرة التي كانت بمثابة نقطة اندلاع “الربيع العربي” بأكمله عقب قيام بائع متجول هناك بالتضحية بنفسه. وفي الإعلان السابق له، ناصر جمعة خطوة رفع الدعم التي لا تحظى بشعبية كبيرة لكنها راشدة من الناحية الاقتصادية، الأمر الذي سيؤدي إلى رفع أسعار الوقود وغيرها من ضروريات الحياة اليومية.
ونتيجة لذلك، فإنه حتى ولو أدى انتخاب جمعة المفاجئ إلى حل الأزمة السياسية العاجلة في تونس، إلا أن هذا لا يضمن نجاحه في الخطوات الجوهرية المقبلة، سواء كانت انتخابية أو اقتصادية. إن تسكين مناصب مجلس الوزراء الشاغرة سيمثل معضلة منذ البداية؛ كما وأن المطالب الشعبية الملحة لن تنتظر دستوراً جديداً؛ فضلاً عن أنه من المحتم أن تشهد الانتخابات المقبلة الكثير من الاستقطاب وإثارة الجدل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن “حزب النهضة” قد فقد الكثير من الدعم، ومع ذلك، ربما لا يزال الحزب الوحيد الأكثر تنظيماً. وبشكل أوسع نطاقاً، لم تنجح أي من الثورة ضد ديكتاتورية زين العابدين بن علي أو الحكومة الإسلامية المنتخبة بطريقة ديمقراطية التي أعقبتها، في إيجاد نموذج للسلم المجتمعي والتقدم. وقد علقت صحيفة “لا بريس دو تونس” اليومية الرائدة في 16 كانون الأول/ديسمبر قائلة “ها نحن هنا في المرحلة الانتقالية الثالثة، بين عالمين: عالم ميت بالفعل، وآخر تتعسر ولادته”.
ومع ذلك، فإن موطن “الربيع العربي” يعلِّم المنطقة الآن درساً قيماً آخر: أنه من الممكن، على الأقل من حيث المبدأ، أن تتخلى حكومة إسلامية منتخبة شعبياً عن السلطة بصورة سلمية. ونظراً للطابع العلماني بشكل استثنائي الذي يتسم به المجتمع التونسي، وفقاً للمعايير الإقليمية، ربما يكون هذا نموذج بعيد المنال لدول الجوار. إن تلك السمة هي التي حرمت الإسلاميين من الحصول على أغلبية مطلقة في أول انتخابات حرة في البلاد قبل عامين، وهي التي ضغطت في النهاية على “حزب النهضة” لكي يستقيل في الأسبوع الماضي. بيد أنه على الرغم من كل خلافاتها، فإن المجتمعات العربية الأخرى – لا سيما تلك التي حذت حذو تونس بقيامها بثورة مماثلة – يمكنها البدء في التحرك نحو مستقبل أكثر إشراقاً إذا تعلمت الدروس من هذا النموذج التونسي الجديد أيضاً.
ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في معهد واشنطن ومدير منتدى فكرة.