تسعون ثانية، من جملة ثلاثة أرباع الساعة، وجدها أهل الحكم تمثل اللقطات الأضعف في محاكمة الرئيس محمد مرسي، فقام التلفزيون المصري ببثها، فإذا بها تساهم في عملية تدشين الرجل زعيماً.
تقديم الرئيس المصري للمحاكمة، كان خطأ استراتيجياً وقع فيه الانقلابيون، الذين فشلت خطتهم فصاروا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فقد كان السيناريو الذي رسمه لهم محمد حسنين هيكل يتمثل في أن نجاح الانقلاب لا يحتاج إلا لـ (48) ساعة، بعدها يأتي الإخوان إلى قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي محلقين ومقصرين، ليطالبوا ” بتحسين شروط الاعتقال”، فات هيكل أنه لم يعد قادراً على استيعاب روح العصر، ولا بأس، فهو ” دقة قديمة”، وهذه أزمة من يعش أكثر مما ينبغي!
المصريون، وليس الإخوان وحدهم، تغيروا، والمصري بعد الثورة لم يعد يقبل بالدنية في أمره وعندما أستمع إلى صمود أهالي شهداء مذابح: رابعة، والنهضة، والحرس الجمهوري، والنصب التذكاري، ورمسيس، ويوم السادس من أكتوبر، فان واحداً مثلي تستولي عليه الدهشة لهذا الثبات، والجميع لا ينسون في مداخلاتهم من ان يؤكدوا أنهم مستمرون في معركة كسر الانقلاب، على الرغم من فقدهم للعزيز لديهم!
وهذا التغيير لم يستوعبه مخطط الانقلاب محمد حسنين هيكل، لحظة التخطيط، وعندما استوعبه، ترك القوم يتخبطون، وفي مواجهة الاتهام بخطف الرئيس المنتخب كان قرارهم بتقديمه للتحقيق القانوني، حتى يكون ردهم على العالم، أن الرئيس محبوس بقرارات من جهات التحقيق، وأن الأمر كله بيد القضاء.. والقضاء في مصر كما تعلمون، مستقل وشامخ.
بحسب الفقه الجنائي لا توجد جريمة مكتملة، والمعنى انه لا بد للمجرم ان يترك دليل إدانته خلفه وان كان محترفاً، فم بالنا بالهواة الذين سرقوا حكم مصر؟! وجريمة إدخال الغش والتدليس على المجتمع الدولي بأن الأمر بيد القضاء الشامخ والمستقل، لم تنطل على احد لاسيما بعد أن تبين أن الرئيس كان مسجوناً في القاعدة البحرية في الإسكندرية، وفي غير الأماكن التي حددها القانون للحبس والسجن، وإلا صار السجن فيها اختطافاً، ومعلوم أن المحققين، كانوا ينتقلون إلى مكان احتجاز الرئيس المنتخب بالطائرة معصوبي العينين، ولا أعرف لماذا قبلوا هذا الوضع المهين، وهم لم يكونوا يعلمون أين يسجن الرئيس؟!
لا بأس، فإضافة الى ما سبق، فان المحاكمة كان المستهدف منها إصدار حكم سريع بإدانة الرئيس مرسي، يمثل عتبة قانونية مانعة لترشحه في أي انتخابات رئاسية مقبلة، فضلاً عن أنهم استهدفوا اهانته، فهل أهانوه؟!
محاكمة الانقلابيين
أي صريخ ابن يومين كان يعلم أن الرئيس مرسي سيستغل ظهوره ويحاكم الانقلابيين، ولن يسمح لهم بمحاكمته، في قضية تبدت عوراتها للناظرين. وقد قلت هذا الكلام مبكراً في أكثر من مقابلة تلفزيونية، فقد مكنوا الرئيس من أن يلاعبهم على أرضه، ولم تكن الرئاسة أرضه، لكنه صاحب سوابق، كسجين سابق، ومناضل، فهل كان هذا بعيداً عن تفكير جماعة الانقلاب؟!
في ظني أن الانقلابيين كانوا يقفون على صمود الرجل، وقد اختبروه عندما سعوا لحمله على الاستقالة، ثم كان ثباته هذا ما دفعهم لمنعه من الاتصال بالعالم الخارجي، وكان قرار عدم نقل المحاكمة على الهواء، أو نقلها مسجلة بعد ذلك، هو لمعرفتهم بأن محمد مرسي المقاوم، ليس هو محمد مرسي رئيس الجمهورية، وبعد تفكير عميق جاءت التسعين ثانية، التي نقلها التلفزيون المصري، ونقلتها عنه كثير من الفضائيات!
بدأت اللقطات بوجود مرسي في سيارة “ميكروباص”، وكانت هذه رسالة لا تخطئ العين دلالتها، لكن المشاهد لم يقف أمامها، فقد انصب اهتمامه على لحظة نزوله من الحافلة، وحرصه على إغلاق “زرار الجاكت” الذي لم يطاوعه بسهولة، وبدا للمشاهد في حالة من الشموخ لم يكن عليها وهو رئيس للدولة، وكأنه قدم لتفقد مكان انعقاد المحكمة، وربما لافتتاح بعض القاعات فيها، بصفته السيد رئيس الجمهورية!
مذيع التلفزيون المصري، من هول الارتباك، قال ان مرسي ثابت، ثم استدرك لخطورة ما قال، وذكر أنه يحاول ان يبدو ثابتاً، والمعنى الذي وصل للمشاهد ان المذيع يريد أن يقول انه يحاول تصنع الثبات، لكن سلطة الانقلاب المرتجفة لم تكن تريد لكلمة “الثبات” ان يكون لها مكان في تغطية المحاكمة، فأحيل القائل للتحقيق!
لا أعرف ما هو الاتهام الذي يمكن أن يوجهه له المحقق، لكن للعلم فان القانون الحاكم في مصر في “الراس″ وليس في ” الكراس″ ، والرأس تقدر كل حالة على حدة، دون أن تهتم بالقوانين المدونة في الكتب، ولنا أن نعلم ان المذيعة أماني كمال ألقي القبض عليها بتهمة حمل إشارات رابعة، التي تحولت إلى أيقونة الثورة المصرية، وترمز الى هذا الميدان الذي رابط فيه الثوار، الى أن جرى تصفيته باستخدام الرصاص الحي، وقتلوا الآلاف فيه، مع سبق الإصرار والترصد، ومن عجب أن يحاكم مرسي و14 من أنصاره بتهمة قتل اثنين أمام الاتحادية، في حين إن من أحالهم هو من ارتكب المجازر التي هي كفيلة بأن تدخلهم التاريخ بظهورهم.
في البداية سخروا من أعداد المتظاهرين هناك، وقالوا انهم مئات، وقال باسم يوسف متهكماً أن رابعة ليست أكثر من إشارة مرور، وبعد ذلك وعندما قاموا بتصفية رابعة برروا بأنها تعطل ناموس الحياة!
خطاب البلتاجي
قبل لحظات من كتابة هذه السطور، شاهدت على “الجزيرة” مشهدا من مشاهد يوم الفض لميدان رابعة، كان هناك متحدث عبر مكبر للصوت، يقول ان عملية الفض تتم وفق قرار من النيابة العامة.. كثيراً ما تذيع “الجزيرة” هذا المشهد، فلا انتبه فيه، إلا لخطاب الدكتور محمد البلتاجي، عندما ظهر وعيناه ممتلئتان بالدموع، وهو يؤكد أن البنايات المجاورة لرابعة قد اعتلاها القناصة لقتل المعتصمين!
كنت قد شاهدت المشهد في حينه، وكان بعد ان ارتفعت كريمته أسماء، التي لم يتجاوز عمرها سبعة عشر عاماً، شهيدة، وكان بيني وبين الرجل ود مفقود، لكن جرى نزع ما في الصدور من غل في هذه اللحظة، فقد محا الموت أسباب العداوة بيننا.
لفت انتباهي الحديث عبر مكبر الصوت عن قرار الفض الصادر من جهة قضائية هي النيابة العامة، وكان كلاماً قيل قبل هذا عن أن النيابة ستشهد عملية الفض، فهل شهدتها؟ ولماذا لم تعاين الموقع، وتقف على ما أنتجه الفض، لتقف على هل تم وفق القرار الممنوح للجيش والشرطة، أم أنه تجاوز حدود القرار؟!
على ذكر رابعة، فلأول مرة لا يذيع تلفزيون الريادة الإعلامية فيلم “رابعة العدوية” في يوم الهجرة النبوية هذا العام، فالإنقلابيون يحسبون كل صيحة عليهم، ولهذا فهم يتعاملون على أن شعار رابعة، مجرد الشعار، يقوض أركان حكمهم الذي أقاموه على جرف هار، ولهذا لا تزال المذيعة أماني كمال في الحبس إلى الآن لأنهم عثروا معها على إشارات لرابعة، وكلما انتهت مدة حبسها قاموا بالتجديد لها خمسة عشر يوماً أخرى!
وعلى ذكر باسم يوسف صاحب الوصف الذي يمثل استهانة باعتصام رابعة فرابعة ليست أكثر من إشارة مرور، فقد تم منع برنامجه على قناة “سي بي سي” في يوم الجمعة الماضي، وقام صاحب القناة بدور الجاني وقال انه من اتخذ قرار وقف البرنامج لأنه يخالف سياسة القناة، دون أن يقول لنا ما هي سياسة القناة؟!
المدهش أن أحداً من الذين “رقعوا بالصوت الحياني” دفاعاً عن حرية الرأي التي نال منها إحالة المذكور للنيابة في عهد مرسي، لم ينبت ببنت شفة، ولم يقل أحد: “اف” في مواجهة قرار منع برنامج ” البرنامج”، وتذكرون كيف ذهب باسم إلى النيابة وسط “زفة” من المدافعات عن حرية باسم، في مواجهة ديكتاتورية حكم الإخوان، وجاء باسم يضع قبعة ضخمة على رأسه سخرية من الرئيس، الذي جرى تكريمه من احدى الجامعات في باكستان وظهر مرتدياً، القبعة والروب الخاص بالجامعة وهو أمر طبيعي، لكن كل تصرف او قول لمرسي كان يتحول الى مادة للسخرية من هؤلاء، استغلالاً لسماحته، التي جرأت عليه “المرجفون في المدينة”، فأهانوه وأهانوا موقع رئيس الدولة، وهي سماحة ليست في محلها فلا أحد يحكم بعد ثورة، لا يزال خصومها يتربصون بها، بالحكمة والموعظة الحسنة.
جهة جبر الخواطر
صاحب “سي بي سي” بتصرفه البدائي قلب علينا المواجع، فنظام مبارك لم يكن يتدخل لمنع كاتب من الكتابة، إنما كان يتم الاتفاق مع من بيده عقدة الأمر في كل جريدة لمنع الكاتب المستهدف من الكتابة، ليبدو القرار شأنا من الشؤون الداخلية للمؤسسة الصحافية، وظل القوم حولين كاملين يريدون أن يطبقوا معي طريقتهم، وفشلوا، وفي النهاية فوجئت بقوات أمن تسد عين الشمس تحول بيني وبين جريدتي، وقال لي قائدهم نحن جئنا الى هنا لتنفيذ قرار وزير الداخلية بمنعك من العمل والكتابة.. وأين قرار الوزير؟ إذ كنت أريده مكتوباً ومختوماً بختم النسر.. فقل لي إن وجودنا هنا هو القرار!
باسم نفسه لم يتجرأ ويعلق على قرار منع برنامجه، وسافر إلى الإمارات، الراعي الرسمي للمشهد الانقلابي في مصر، وباعتبارها جهة تقديم الشكاوى، وجبر الخواطر.
البرنامج كان يمهد لمرحلة الهجوم على خصوم الانقلاب والسخرية منهم، فكان حلقته الممنوعة لقطات من عملية فض رابعة، لكن سلطة الانقلاب لم تتحمله ولو كان تمهيداً، فلا تزال رابعة تمثل أزمتهم!
في التسعين دقيقة التي بثها تلفزيون الريادة الإعلامية كانت هناك لقطة للرئيس محمد مرسي وهو يدخل القفص، وإذا بالمتهمين الأربعة عشر، يستقبلونه بالتصفيق، وإذا به يلوح بإشارة رابعة، فيتم قطع المشهد!
وارتبك إعلام الانقلاب في مواجهة الصمود المتوقع للرئيس، وصدرت إحدى الصحف وهي تريد ان تهين الرئيس بتشبيهه بالرئيس العراقي، فكان ” المانشيت” الرئيس، أن مرسي اختار نهاية صدام حسين، كانت تريد أن تقول ان نهايته كنهاية المستبد والديكتاتور، فاتها أن أروع لحظة في حياة صدام حسين هي نهايته، وأن صدام كان يواجه بريمر وصحبه، فهل السيسي والذين معه كبريمر وصحبه؟!
لقد كانوا يعلمون أن مرسي سيحاكم الانقلاب، لهذا تراجعوا عن خطوة البث المباشر للمحاكمة، ومع هذا فان شعبيته زادت، والموجه العام للإعلام المصري الآن يعكف على وضع خطط لتشويه الرئيس.
لعل في هذا درس لان تمتنع سلطة الانقلاب عن أن تلاعب أحدا على أرضه، على الأقل بعد مباراة غانا.
سليم عزوز
*صحافي من مصر