علاقة الحاكم العربي بكرسي الرئاسة علاقة وثيقة وحميمة لا يفرق بينهما سوى الإنقلاب العسكري أو الثورة أو الموت، بغض النظر عن النهج السياسي ونوع نظام الحكم. الحاكم العربي حتى لو جاء عبر صناديق الإقتراع وما أدراك ما صناديق الإقتراع؟ هي أشبه بصندوق العجائب لما تحتويه من مغامرات ومفاجئات. الحاكم العربي يرفض أن يتنازل عن الكرسي بنفس الطريقة التي جاء بها أي عبر الإقتراع، فالطريق الذي فُتح لمروره يُغلق بوجه الآخرين. والنسبة التي يحققها الحاكم العربي غالبا ما تكون 99% من مجموع الأصوات المشاركة! وهي نسبة يحسدها عليها حكام الأنظمة الديمقراطية في العالم الذين لا يعرفون كيف يمكن للحكام العرب أن يحققوا هذه النسب العالية التي يعجزون أنفسهم عن الوصول إليها مهما قدموا لشعوبهم، مع إن الحاكم العربي يحققها حتى لو لم يقدم شيئا لشعبه! أو قدم له الفقر والتخلف والجوع والجهل والظلم والفساد. الأمر سيان للحاكم والمحكوم!
والمثير في الأمر، انه كلما كان الحاكم أكثر دكتاتورية كلما إرتفعت نسبه الأصوات التي يحصل في الإقتراع! وهذا يعد واحد من الألغاز الغامضة للأنظمة العربية الحاكمة، والبعض يرجعها إلى العناية الإلهية، لأن الحاكم كما هو معروف ظل الله في الأرض، وهذا الظل يحمل كل الصفات الخيرة التي تميزت بها الذات الإلهية المقدسة من عدل وإحسان وإيمان وتقوى وبرٌ. ولله في خلقه شؤون!
الميزة الأخرى للحاكم العربي إنه لا يتنازل عن الحكم حتى لو فقد الحواس الخمسة لأنه يستعين بحواس شعبه كبدائل عن حواسه المنتهية الصلاحية. صحيح إن النصوص الدستورية تحرم الرئيس من مزاوله عمله الرئاسي في حال عجزه النصفي أو الكلي، لكن الحاكم العربي يتعامل مع الدستور كالطين المطاوع سيما إن القضاء العربي صنيعة الحاكم، أوجده الحاكم ليلبي طلباته سواء بالحق أو الباطل وليس طلبات الشعب. والقضاء العربي كالراقصة رهن الإشارة، سريعة التلبية لمن يدفع لها. كما أن الألغاز والطلاسم التي يكتبها رجال القانون في الدستور إنما هي مقصودة وغير عفوية البته، إنها أشبه ما تكون بالمسامات والمتنفسات للخروج بأحكام تتناغم مع أهواء الحاكم ورغباته، وليست ثغرات قانونية، كما يحسبها البعض نتيجة الخطأ والسهو والغفلة. فرجال القانون أذكى من ان يغفلوا تلك الثغرات، لكنهم وضعوها بأنفسهم لغاية في قلب يعقوب.
لذا فالقول بأن بعض الدساتير ملغمة يمثل الحقيقة، لكن هناك من زرع تلك الألغام وهو يعرف مسالكها جيدا وكيفية تجاوزها بسلامة، أو توريط الغير للوقوع فيها. وربما هذا يفسر لجوء بعض الأنظمة للخبرة القانونية الأجنبية بالرغم من وجود كفاءات عريبة نادرة في المجالين الفقهي والمدني! وطالما ان القرآن الكريم هو المصدر الوحيد أو الرئيس للدساتير العربية، فتبدو الحاجة للخبراء الأجانب من غير المسلمين محيرة فعلا. لجهلهم بأحكام القرآن الكريم وفقه اللغة العربية. والحقيقة إن من العجب إعتماد القرآن الكريم كمصدر للتشريع الدستوري، رغم معرفتنا التامة بموقف الحكام وبطانتهم من شعوبهم ومستوى الفساد السياسي والمالي، والإفلاس الأخلاقي للأنظمة العربية مما يتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
لو إطلعنا على الإحصائيات الدولية التي تصدرها الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية عن مستويات الفساد السياسي والمالي والأخلاقي، علاوة على تفشي الجهل والفقر والبطالة والمرض والتخلف وإنتشار الأمية، سنجد الأنظمة العربية في المقدمة دائما. وهذه الميزة النادرة يرفض الحكام العرب التنازل عنها لغيرهم من الأنظمة على العكس من كراسيهم. وفي الجهة المقابلة تجد الحكام العرب هم الأغنى ثروة في العالم، ورواتبهم ومخصصاتهم تجعل الرئيس الأمريكي وملوك الدول الأسكندنافية يتحسرون عليها ويحمرون خجلا أزاء حالهم. ومع هذه الفوارق الشاسعة بين الحاكم ورعيته، فأنهم يفوزون بأعلى النسب في صناديق الإقتراع. أما كيف؟ ولماذا؟ فهذا النوع من الطلاسم يدخل في خانة الميتافيزيقيا.
أما مناسبة هذا الكلام فهو ماجاء في الأخبار فيما يخص الرئيس العراقي جلال الطالباني والرئيس الجزائري بوتفليقة. فبالنسبة للأخير تشير الأخبار بأن حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم في الجزائر رشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية لولاية رابعة. وذكر عمار سعداني، الأمين العام للحزب، في كلمة أمام أعضاء الحزب في “أعلنها رسمياً نحن في جبهة التحرير الوطني سنرشح رئيس الحزب ورئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة لعهدة رابعة خلال الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها في نيسان المقبل من العام القادم”. لحد الآن الخبر عادي وطبيعي، لأنه كما أسلفنا الحاكم العربي صناعة إلهية فريدة من نوعها، نموذج واحد لا يتكرر! الشعب الذي قدم مليون شهيد غير قادرة على تقديم نموذج للرئيس بوتفليقة! والحزب الحاكم عاجز عن إيجاد قيادي بمستوى الرئيس وإن كان عاجزا. يا للهول!
لكن لنطلع على قدرة الرئيس المرشح للولاية الرابعة والخامسة …إلخ، وهو في عمر(76). ونسأل الله تعالى أن يطيل عمره ويعافية من مرضه ويعطيه الحكمة للإقرار بعجزه عن إدارة البلاد وفسح المجال لمن هو أقدر منه. منذ خمسة أشهر يخضع الرئيس الجزائري لعلاج عسير في فرنسا القريبة من إلمانيا حيث يتواجد الرئيس العراقي الميت الحي. الرئيس بوتفليقة يعاني من جلطة دماغية، ويستخدم كرسي متحرك لعدم قدرته على المشي، وبالتأكيد هذا المرض يعني صعوبة الكلام وتشتت التفكير. ولا نريد الخوض في حالته الصحية شفاه الله تبارك، لكن المؤكد إنه وفق هذه التقديرات يصعب عليه إن يدير البلاد، سيما إن أوضاع المنطقة تغلي كالبركان بمناسبة الخريف العربي، كما إن الرئيس الذي خدم البلاد لثلاث دورات متعاقبة هو الآن بأمس الحاجة إلى الراحة والتفرغ. لقد قدم بوتفليقه ما بوسعه لشعبه وأمته، فلماذا لا يرأف الحزب بحاله ويرشحه لدورة رابعة؟ ولو ـ لا سامح الله ـ إن الجلطة تركت آثارا سيئة على تصرفاته القادمة! فهل هو المريض أم الحزب الذي رشحه سيتحمل المسؤولية؟ ولو فرضنا إن المنصب الرئاسي برتوكولي فقط. فهذا لا يعفي الرئيس من المراسيم المفروضة عليه كإستقبال وتوديع الرؤساء، وحضور مراسيم تقديم أوراق الإعتماد وغيرها من المسؤوليات المرهقة التي تجعل وضعه الصحي يتفاقم سوءا. إرأفوا بالرئيس بوتفليقة في الدنيا يرأف بكم الله في الآخرة!
الرئيس بوتفليقة رئيس وطني وقريب من شعبه وشعبه قريب منه، لذا يعرف الشعب كل تفاصيل مرض الرئيس ويواكب حالته الصحية عن كثب وهم يتعاطفون معه. وهذه من الأمور الطبيعية لأنها تعني العلاقة الصحيحة والطبيعية بين الحاكم والمحكوم. عندما يخفي الرئيس أو حزبه أخباره الصحية عن شعبه فهذا مؤشر خطير، لأنه من الناحية التشريعية يعتبر خرقا دستوريا وفق المادة(88) من الدستور الجزائري التي تعفي الرئيس من منصبه في حال عجزه عن إداء مهمامه، وكذلك الأمر في الدستور العراقي. كما إن هذه المعلومات ليست فيها صفة سرية حتى لو إستغلت لتلك الأغراض. المرض والعجز والوفاة حالات طبيعية ليس فيها عيب أو حرج كي تكتم عن الشعوب. ولا يجوز أن تخضع للمساومات السياسية الرخيصة. كما إن الحزب والرئيس الذي يخفي عجزه عن شعبه يعني بالنتيجة لا يحترم هذا الشعب، وبالتالي فإنه لا يستحق إحترام شعبه له.
المصيبة في الجزائر لا تقارن بكارثة العراق، فالشعب العراقي لا يعرف أية أخبار عن الرئيس العراقي جلال الطلباني، هل هو حي أو ميت؟ ـ مع ملاحظة ان المقارنة بين الرئيسين في مجال الوضع الصحي فقط لا غير، لأن الرئيس العراقي غير وطني ولم يأتِ من خلال الإقتراع، فهو عميل لإيران وامريكا ومجرم سابق وزعيم ميليشيا ـ العجيب إنه لا رئيس مجلس النواب ولا رئيس الوزراء يعرفون حقيقة وضعه الصحي. كأنه يحكم شعب المريخ وليس شعب على الأرض يعاني من إزمات قاتلة لا حصر لها، ولا نهاية لها كما يبدو. لا المانيا الدولة الديمقراطية للعظم تعلن حقيقة وضعه الصحي، ولا المستشفى تقبل بزيارة أحد حتى لو كان رئيس مجلس النواب! ولا دولة القانون، ولا حزبه يعلن وضعه الصحي! أسرار في أسرار محصورة بين زوجة الرئيس وطبيبه الخاص عبد اللطيف رشيد، وطز في الشعب والحكومة والبرلمان.
أنظروا لهذه المهازل على مستوى الحكومة والبرلمان وحزب الطالباني وبقية الكتل السياسية. بعد حوالي عشرة شهور من سفر الرئيس الطلباني للعلاج في ألمانيا، صحا نوري المالكي من غفوته الأمنية ليسأل عن صحة الرئيس في الفردوس المفقود ” أعلنت رئاسة الجمهورية أن رئيس الوزراء نوري المالكي استفسر رسميا عن صحة طالباني من مستشاره الأقدم عبد اللطيف جمال رشيد، وأكد المستشار الأقدم أن صحة الرئيس في تحسن مطرد، وأن الشعب العراقي سيطلع على نتائج هذا التحسن”. ضع خطا تحت استفسار رسمي! أما رئيس البرلمان أسامة النجيفي فهو الآخر صحا من نومه بعد المالكي بساعات قليلة فتذكر إن للعراق رئيس مجهول المصير، فقال “من الخطأ التستر على الوضع الحقيقي لصحة رئيس الجمهورية، وإن البرلمان أمام تطبيق الدستور الذي حدد حالتين لتبديل الرئيس، هما الوفاة أو العجز، ولم نعلم بأي منهما”. ضع خطا تحت لم نعلم أي منهما!
لا رئيس البرلمان ولا رئيس الحكومة يعرفان صحة الرئيس! ولأن الرئيس كما يبدو ليس من حصة الشعب العراقي، بل من حصة العائلة فقط، يذكر النجيفي ” إن عائلة رئيس الجمهورية قد اعتذرت ورفضت طلبا تقدمت به قبل خمسة أشهر تقريبا لزيارة طالباني والاطمئنان على صحته ومعرفة الأمور الدستورية والقانونية بالنسبة للمنصب، لكن العائلة اعتذرت، مبينة أن الرئيس يخضع للعلاج ولا يمكن مقابلته”. ضع خطا تحت منذ خمسة أشهر!عجبا كيف سيطبق النجيفي الدستور إن كان يجهل مدى عجز الرئيس أو موته؟ وهل العائلة هي التي تقرر زيارة أو عدم زيارة رئيس الدولة لمعرفة وضعه الصحي أم اللجنة الطبية الألمانية؟ لو كان الرئيس ليس عاجزا كما يدعي الطبيب الخاص، فلماذا لا يلتقي برئيس البرلمان أو أي وفد حكومي؟ ولماذا فبركت صور قديمة من قبل الطبيب الكردي المخادع وإدعى بأنها صور حديثة للرئيس تظهره بوضع صحي جيد؟ هل يمكن الإئتمان بعد هذه الخديعة إلى الطبيب الذي اقسم بقسم أبقراط وتنصل من قسمه؟
إستمعوا إلى هذا الفهيم فؤاد معصوم رئيس كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي والقيادي المؤسس في الاتحاد الوطني الكردستاني، في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط، يقول” ما دام الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد، وهو له صلة مصاهرة مع الرئيس جلال طالباني، هو من أكد أن صحته تتحسن، وأنه قام بزيارة إلى رئيس الوزراء الذي تولى عملية الاستفسار، فإنه لا بد أن يكون النبأ صحيحا”. بربكم هل هذه كلام يصدر عن إنسان عاقل، هل الطبيب المرواغ من الرسل ليكن كلامه لا يقبل الظن؟ هذا رئيس كتلة الطالباني يجهل أيضا حالة الرئيس لكنه يؤمن بالطيرة والتنجيم!
بالطبع ليس العتب على السياسيين، فهم جميعا من صنيعة الإحتلال القذر الذي سلط من هم أكثر قذارة منه على رقاب العراقيين، العتب على الشعب الذي ليس له رئيس منذ حوالي عشرة أشهر ولا يكلف نفسه لوضع حد لهذه المهزلة الرئاسية. إنها ميزة إضافية للعراق الجديد، الشعب الوحيد من شعوب العالم القديم والحالي الذي لا يعرف إن كان رئيسه حيا أو ميتا بحدود العشرة أشهر.
إن حياة الرئيس العراقي تخضع للمساومات الحزبية والحكومية والعائلية، فالحكومة مستفيدة من حالته حيث إن نائبه الملة خضير الخزاعي من الحزب الحاكم وهذا مما يسهل على الحكومة الكثير من الأمور منها توقيع أحكام الإعدام والأتفاقيات الدولية سيما مع إيران التي يواليها نائب الرئيس ولاءا مطلقا. كما إن جمع الرئاسة والحكومة في يد واحدة تزيد من قوتها وتحديها للبرلمان فتعطل قراراته التي تحتاج إلى مصادقة الرئيس.
وبالنسبة لحزب الطالباني فقد راهن على الحصان الخاسر بإخفاء حقيقة وضع الرئيس العراقي، كان يظن بأنه التستر على وضعه الصحي قد يخدم الحزب ويوحد صفوفه في الإنتخابات الماضية أمام الأحزاب المنافسة، لكن النتيجة كما هي متوقعة جاءت على العكس فقد إلحقت به هزيمة أقل ما توصف به، ماحقة ومخزية. ومن المتوقع أن يتشظى الحزب إلى حزبين أو ثلاثة.
أما على الصعيد العائلي فهناك مسألة المليارات التي يمتلكها الرئيس، فهو واحد من كبار أغنياء العالم رغم التستر على ثروته، وهناك صراع عائلي على توزيع التركة مع محاولة التكتم عن حجمها وتصفيتها بهدوء بعيدة عن عيون الحساد(الشعب الكردي).
علي الكاش
كاتب عراقي