كما أن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها صلاة ولا صيام، وإنما يكفرها أن تشاهد لميس الحديدي، باعتبار أن هذا يدخل فقهاً في باب ‘الصبر على المكاره’، فان المرء لا يشاهد قناة ‘العربية’ إلا من ذنب أصابه!
ولأني أتجنب كبائر الإثم وأقبل على اللمم، فقد تعجبت مؤخراً، لان يقودني حظي العاثر لان أشاهد قناة ‘ العربية’ ليوم كامل، حيث كنت أقوم بجولة لعلي أجد على النار هدي، وتوقفت عند ‘العربية’، ثم اختفى ‘الريموت كنترول’ في ظروف غامضة، ولأني مصاب بالزهايمر فكثيرا ما ابحث عن شيء ويكون في يدي، لكن قد يكون الخير كامناً في الشر!
فمشاهدتي لـ’العربية’ مضطراً، أكدت لي ثبات الموقف السعودي الداعم للانقلاب في مصر، حتى بعد أن تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وثبت لهم باليقين أنهم قضوا على المثلث السني، ومصر أحد أضلاعه، لأنهم نظروا تحت أقدامهم، ورأوا أن انتصار الإخوان المسلمين في مصر من شأنه أن يسحب الريادة من المملكة، وهم يريدون لمصر رئيساً تابعاً كحسني مبارك، فضلاً عن أنهم رأوا أن في نجاح الثورة المصرية ما يدفع الأشقاء في المملكة للشعور بالغيرة، فمشوا بين المصريين بالنميمة، وخططوا للانقلاب.
‘العربية’ تتبنى التوجه السعودي، وإذا أردت ان تعرف موقف المملكة من قضية ما، فلا عليك إلا أن تغادر إلى ‘العربية’، على ان تعلق ‘الريموت’ في رقبتك، حتى لا تنسي مكانه فتأخذ علقتك بالجلوس إليها اليوم كله وأنت تنعي حظك العاثر!
والمفاجأة هنا في ثبات الموقف السعودي، بالرغم من الصعود الإيراني، وهناك حالة من الغزل العفيف بين طهران وواشنطن، قد تتجاوزها إلى مرحلة الغزل الخادش للحياء العام، ويأتي هذا في وقت جرى فيه الاعتراف بشرعية بشار الأسد دولياً بعد ان تم اختزل الأزمة في استخدامه السلاح الكيماوي، وها هو يوافق على تسليمه فيبات مغفوراً له.
الموقف السعودي الثابت إلى الآن يذكرنا بموقف الرئيس بوش الابن، الذي اختلط في ذهنه العام بالخاص ممثلاً في دوافع الكيد الشخصي لمن اسقط هيبة والده بوش الأب، فلم يعلم وهو يدمر العراق أنه سلمه ‘بيضة مقشرة’ لخصومه في طهران، وكأنه كان يقوم بحرب بالوكالة ضد صدام حسين خصم إيران الاستراتيجي!
ما علينا، فالسعودية الراعي الإقليمي للانقلاب، لا تزال على موقفها على الرغم مما جرى وقد تأكدت من ذلك بمشاهدة قناة ‘العربية’ ليوم كامل، وقد شاهدتها مرة اخرى يوم الخميس الماضي مع سبق الإصرار والترصد فوجدتها تروج لجبهة الإنقاذ في تونس، ومعلوم أنه في الخضراء تأسست حركة تمرد والجبهة تأسياً بالحالة المصرية، وقد قلدنا تونس في الثورة، وتسعى لتقليدنا في الانقلاب، كما لو كان انقلابنا قد نجح، وقد فاتهم ان الانقلاب في مصر يلفظ أنفاسه الأخيرة، ليبقى الموقف الصحيح أن من يريد أن يسقط خصمه، فعليه بالانتخابات.
الذين ماتوا
‘العربية’ كانت في هذا اليوم تحتفي بتصريحات للدكتور احمد كمال أبو المجد، بعد أن فشلت مبادرته، والتي أراد بطرحها أن يثبت لنا انه لا يزال على قيد الحياة، وقدرنا في عصر الانقلاب أن يتخطى الرقاب ويتمدد في المشهد السياسي، من كنا نظن أنهم ماتوا وشبعوا موتاً، وأنهم في مرحلة عذاب القبر، ومن حازم الببلاوي، إلى محمد حسنين هيكل، ومن احمد كمال أبو المجد إلى سعد الدين إبراهيم، وهم من يمثلون شباب ثورة 1919، بعد أن ردت ثورة يناير 2011 الاعتبار لشباب هذه الأيام.
خبر ‘العربية’ الذي مثل الخبر الأبرز في نشرات الأخبار في هذا اليوم، الذي كان يحاسب فيه صاحبكم على ذنب أصابه ولم يعرفه حساب الملكين، صيغ بطريقة ملتبسة، وبعقلية جمعت بين المهنية والتآمر، شأنه في ذلك شان البيانات التي كتبها هيكل وتلاها عليكم الفريق عبد الفتاح السيسي، وهي صياغة تعتقد فيها البراءة، لكن لا براءة هناك ولا يحزنون!
الخبر يقول: ‘الإخوان يسقطون مبادرة للحوار’، وبطبيعة الحال، فان من يتعامل مع ‘العربية’ بحسن نية وسلامة طوية، فسوف يزعجه أن يدعى الإخوان للحوار، وانهم يرفضون ذلك، فهل كانت هناك دعوة للحوار أساساً؟!
في مقابلة تلفزيونية قلت عندما يحضر الدكتور أبو المجد بمبادرة فأعلم ان النظام الحاكم في أزمة، وقد جاء ضمن لجنة الحكماء في بداية ثورة يناير بمبادرة كانت تنص على الإبقاء على مبارك حتى نهاية ولايته، لكن الثوار رفضوها، وها هو يأتي الان بمبادرة بعد غياب استمر أكثر من مائة يوم ومنذ وقوع الانقلاب!
الانقلابيون في أزمة، والفريق عبد الفتاح السيسي يستشعر الآن أن انقلابه في المصيدة، وإذا فشل فانه وحده الذي سيدفع الثمن، فسوء العاقبة يحيط به من كل جانب، وهو الذي رفض في عهد الرئيس محمد مرسي ان يتولى منصب رئيس الحكومة بجانب توليه حقيبة وزارة الدفاع، طمعاً في الكرسي الكبير، فاذا به يصبح معرضاً لأن يفقد كل شيء.. وقديماً ورد في الأمثال: ‘الطمع يقل ما جمع′.
تحصين السيسي
في التسجيلات المسربة للسيسي والتي أذاعتها شبكة ‘رصد’ وقناة الجزيرة نقلاً عنها استمعنا إلى الرجل وهو يطلب من محاوره ياسر رزق رئيس تحرير ‘المصري اليوم’ أن يقنع المثقفين بتبني فكرة تحصينه، حتى اذا سقط في الانتخابات الرئاسية فانه يحق له العودة لمنصب وزير الدفاع، على أن يكون بالنص على هذا في الدستور الجديد!
الانقلاب يترنح، والانقلابيون في ‘حيص بيص’، ولم تعترف به سوى عدد قليل من الدول، ولهذا تعاقدوا مع شركة للعلاقات العامة، لتبيض الوجوه، لكن ماذا تصنع الماشطة في الوجه العكر؟، وقددفعوا بوفود أطلقوا عليها الدبلوماسية الشعبية من اجل إقناع الغرب بأن ما حدث في مصر كان ثورة وليس انقلاباً.
وها هم يوافقون على عودة الساخر باسم يوسف من جديد، بعد أن تم طي صفحته، فقد كان كل دوره هو أن يتخذ الرئيس سخرياً، وان كنت دافعت عنه في هذه الزاوية، فقد عدت عندما تبين لي طبيعة دوره للتأكيد على انه سيفشل حتماً لأنه صاحب برنامج ‘الموضوع الواحد’.
كان باسم يجري تقديمه على انه يمثل الشجاعة، وتذكرون كيف حول المشهد الى مسخرة عندما استدعي إلى النيابة للتحقيق معه فيما يقع تحت طائلة القانون، وقد وجد زفة معتبرة من الذين خرجوا يناصرونه نكاية في الإخوان!
لقد وقع الانقلاب، وتوقف برنامج باسم يوسف، بعد أن أدى المهمة الموكولة اليه، وشارك برامج أخرى في نفس الهدف، وكان معلوماً ان ما حدث ليس استناداً على شجاعة شخصية وإنما على سماحة رئاسية، فباسم يعلم انه لن يستطيع ان يقترب من رحاب عبد الفتاح السيسي ولو بشطر كلمة.. ضعف الطالب والمطلوب.
ومرسي أهان مقام الرئاسة بسماحته، وقد كان الوضع مهيناً عندما قامت نسوة في المدينة بالصعود أعلى سيارته، وهتفن ضده، ومرة أخرى لم يكن هذا كاشف عن شجاعة، لأنهن الآن لا يستطعن القيام بمثل هذا الدور ولو بالصعود أعلى سيارة محافظ القاهرة.
كان واضحاً ان باسم يوسف انتهى، وعليه أن يقوم بتعديل مسار حياته فيعود طبيباً، ومن عجب أن منظمة دولية كرمته وهو في هذه الحالة باعتباره عنواناً لحرية الصحافة، وهو الصامت في مواجهة التنكيل بالرأي الآخر في مصر، وكان الأحق بهذه الجائزة هو الرئيس مرسي، لكن الغرب يصنع نخبته!
عودة باسم يوسف
لأن باسم محظوظ، فهم يفكرون في إعادته مذيعاً مرة أخرى، ولأنه مذيع البرنامج الواحد فان الاستعانة به هذه المرة هي في التصدي لقناة الجزيرة، التي تزعج سلطة الانقلاب.
وفي الاتجاه الآخر دفع عبد الفتاح السيسي بمن يقدمون مبادرات، وكان من بينها مبادرة احمد كمال ابو المجد، والذي هو، ولأنه قديم، يظن ان كل طلبات الإخوان الان هي تحسين شروط الاعتقال، ولم ينتبه الرجل الى ان قيادات الجماعة وعلى قلب رجل واحد ورغم التنكيل بهم في السجون، يرفضون الدنية في أمرهم، فإما عودة للشرعية الكاملة، وإما ‘الثورة قايمة والكفاح دوار’.
ظن أبو المجد انه بمجرد ان يطرح مبادرته سيهرول إليه الإخوان محلقين ومقصرين، وربما وعد من استجاروا به بذلك، لكنه فوجئ بالرفض، ففقد اتزانه وأعلن ان مبادرته للحوار فشلت وان الإخوان من أفشلوها، ولم يكن وسيطاً نزيهاً فقد كان يتهم الإخوان بأنهم وراء الدماء التي سالت دون ان يتفوه بكلمة ضد القتلة والمجرمين الذين اغرقوا الشوارع بدماء الثوار.
استشعر أبو المجد فشله، فذهب الى وائل الأبرشي على قناة ‘دريم’ ليصب جام غضبه على الإخوان، وقبل هذا احتفت ‘العربية ‘ بهجومه فالإخوان يسقطون مبادرة للحوار، مع أنه كان يريده حواراً تحت تهديد السلاح.
اللافت أن العربية وأنا رهن الأسر أمامها، لم تعرض وجهة النظر الأخرى، ولا بأس فهي فضائية ‘ الرأي’ أما ‘الرأي الآخر’ فيمكن الوقوف عليه بمشاهدة قناة ‘الحوار’.
جميل أن يكفر المرء عن ذنوبه أولاً بأول.
سليم عزوز
صحافي من مصر
azouz1966@gmail.com