منذ منتصف السبعينيات ولما يقارب عشرة أعوام، كنت أحتفظ بالصحف اليومية، وأجعلها في مجلد سنوي، وكنت أؤشر فيها عدد من الملاحظات من بينها زيارات صدام حسين رحمه الله إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف، والتبرعات التي كان يقدمها خلال الزيارات أو بينها لتعمير وتجديد وتأثيث العتبات المقدسة. المثير في الأمر إن صدام حسين لم يزور خلالها مرقدي أبو حنيفة والكيلاني على ما أذكر، ولم يتبرع بالمال لتعمير أضرحة أهل السنة، مع إنه بدأ تنفيذ توسيع وتعمير مرقد الكيلاني في السنوات الأخيرة دون أن يكتمل في عهده. وكانت إتصالات الرئيس صدام مستمرة مع المرجعية، المباشرة منها أو من خلال المحافظين أو الوفود الخاصة، ولم يمتنع يوما عن تتفيذ طلب أي من المراجع سواء كان لحاجة عامة أو خاصة، بل إنه حصر منح الإقامات للوافدين في الدراسات الحوزوية بيد المراجع أنفسهم، رغم إن هذا الأمر من صلاحيات الدولة ويتنافى أصلا مع القوانين النافذة.
من المعروف إن الواردات التي تعود للحوزة بحدود(36) مليار دينار سنويا! ولم تكن الحوزة بحاجة إلى دعم الدولة لتعمير العتبات المقدسة، فما لديها من مليارات يزيد عن حاجتها آلاف الأضعاف، علما بأن الحكومة العراقية لا علاقة لها بواردات الحوزوة ولم تفرض عليها أية قيود. وعندما بدأ الحصار يشتد على الحكومة ويترك آثارا مدمرة على الشعب العراقي لم تمد الحكومة يدها إلى أموال الحوزة. وعندما أهابت الحكومة بالشعب لدعم إحتياطي البنك المركزي من الذهب، لم يكن للحوزة والمراجع الأربعة أي دور فاعل في التبرع مع إمتلاكهم المليارات المكتنزة. في الوقت الذي ساهم عدد كبير من الشعب العراقي في الحملة الوطنية من بينهم الفقراء الذين تبرعوا بخواتم الزواج مع قيمتها الإعتبارية عندهم. لأن الوطن فوق كل الإعتبارات الشخصية والعائلية. عندما يكون الوطن بحاجة لدعم أبنائه القادرين على المساعدة، لا يجوز أن يبخل المواطن الصميمي بشيءعليه.
كان تعامل النظام مع الحوزة العلمية والمراجع إستثنائيا، سيما إذا علمنا إن المليارات التي تحصل عليها الحوزة لم توزع على الفقراء من أبناء الطائفة على أدنى تقدير، بل كانت توظف في مشاريع خارج العراق، ولم تقم الحوزة بأي مشروع لخدمة أنصارها في محافظات العراق سيما الفقيرة منها. في حين كانت حصة إيران من المشاريع الحوزوية حصة الأسد وتزيد عن 70% من مجمل مشاريعها! توزعت على شكل مدن سكنية ونوادي رياضية ومكتبات ومشاريع سياحية وغيرها. وبقية الموارد موزعة ما بين المراجع الأربعة، ومشاريع أخرى في سوريا ولبنان والهند وافغانستان وغيرها من الدول. وهذا ما مثبت في موقع السيستاني ويمكن الرجوع إليه. مضخة المرجعية موقعها داخل العراق ولكنها تضخ السيولة إلى خارج العراق بصمت من الحكومة الظالمة كما يدعون! والمراجع الأجانب يعيشون في العراق ويقتاتون من خيراته ويتمتعون بثرواته لكنهم يعمرون بلدانهم الأم إيران والباكستان وافغانستان، حارمين العراق وشعبه منها، ولم يحرك صدام حسين ساكنا أمام تلك الظاهرة الشاذة وفق كل المقاييس الوطنية طوال سنوات حكمه. فأي مظلومية أشد من هذه؟
لا توجد دولة في العالم لا تخضع المؤسسات الداخلية فيها لسلطان نظامها المالي والمصرفي لأنه جزء لا يتجزأ من سيادتها. ولا توجد دولة واحدة في العالم تسمح بخروج مليارات الدولارات من البلاد بدون إشرافها أو علمها على أقل تقدير. ولا توجد دولة تعيش أعنف حالات الحصار الإقتصادي التي لم يشهد مثيلها العالم المتحضر، وتتسلل من بين سياقانها مليارات الدولارات للخارج دون أت تضيق من فرجة قدميها أو تفرض ضريبة على تلك الأموال. ولكنها المظلومية! وما أدراك ما المظلومية؟ الحوزة العلمية دولة داخل الدولة لا يفرق وضعها عن وضع دولة الفاتيكان من ناحية الواردات والمصروفات فالحكومة الإيطالية لا تتدخل في الأمور المالية أيضا.
من المعروف إن الحوزة العلمية تفتقر إلى نظام محاسبي ومراقبة حسابية، فصرف الأموال محصور بيد المرجع الأعلى ولا توجد سجلات تعنون فيها قيود الصرف، لأغراض مقصودة أهمها ضمان الصرف دون مراقبة أومساءلة من أحد. وهذا الأمر ليس جديدا وانما منذ اكثر من قرن ونصف، فقد ورد في الوثيقة البريطانية “بائت بالفشل جميع المحاولات التي قام بها الوكلاء البريطانيون في بغداد لحث المجتهدين على تنظيم الحسابات في قوائم تتضمن كيفية التصرف بأموال خيرية أوذة أو تشكيل لجان لمراقبة الصرف”. الوثيقة البريطانية ( Lorimer Gazetteer 1.1B:160 1 8.1611- 12- )
توجد عادة ضوابط قانونية وأخلاقية عند الموفدين لبلدان أخرى بغض النظر عن سبب وجودهم فيه، فسلوكهم وتصرفهم في الدول التي تستضيفهم لا بد أن يتناغم مع العادات والتقاليد من جهة والقوانين والوضع السياسي من جهة أخرى. وإلا لم القدوم إلى بلد يتعارض الحكم فيه مع معتقداتهم الذاتية الدينية والدنيوية؟ ولاشك إن هذه القيم تكون أشد مراعاة عند رجال الدين عن غيرهم، على إعتبار إنهم أعرف من غيرهم بشرع الله وحقوق الآخرين.
وسنأخذ نموذجين من نماذج المظلومية في العراق وهما المرجعين الخوئي والخميني، ونطلع على بعض أرائهم، ونتعرف على حجم المظلومية التي تعرضوا لها على أيدي النظام البعثي الحاكم كما يدعون. مع الأخذ بنظر الإعتبار النظرة العامة لنظام الحكم على أنه سني وضد الشيعة كما يدعون.
ماذا يقول الخوئي وهو يعيش في ظل نظام الحكم السني المخالف لعقيدته؟
يذكر الخوئي” لا فرق بين المرتد والكافر الأصلي الحربي والذمي والخارجي والغالي والناصب” في كتابه (منهاج الصالحين1/116). ويذكر أيضا” بل لا شبهة في كفر المخالفين لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم، والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية، أنه لا أخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين”. (مصباح الفقاهة2/11). ويضيف في المصدر نفسه ” المراد من المؤمن هو من آمن بالله وبرسوله وبالمعاد وبالأئمة الاثنى عشر عليهم السلام: أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم الحجة المنتظر عجل الله فرجه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره. ومن أنكر واحدا منهم جازت غيبته لوجوه: الوجه الأول: أنه ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين ووجوب البراءة منهم وإكثار السب عليهم واتهامهم والوقيعة فيهم أي غيبتهم لأنهم من أهل البدع والريب. بل لا شبهة في كفرهم لان إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية وكفر المعتقد بالعقائد المذكورة، وما يشبهها من الضلالات. ويدل عليه أيضا قوله(ع) في الزيارة الجامعة: ومن جحدكم كافر”. (المصدر السابق).
مرجع ديني أجنبي يعيش في العراق، يقتات من خيراته ويشرب من مائه، ويجمع مئات الملايين من الدولارات ويخرجها من البلاد ويؤسس مؤسسة مالية كبيرة في بريطانيا مازال أبنائه يشرفون عليها، وبكل صلافة يعتبر الرئيس العراقي والمسؤولين ونصف الشعب العراقي كفرة ويجيز لعنهم وإكثار السب عليهم وإتهامهم الوقيعة، ولا أخوة معهم أي يصنفهم كأعداء! لم يحاسب صدام حسين الخوئي أو يوجه له أية تهمة أو يطرده من البلاد أو يعاتبه على أقواله. إنها المظلومية! في حين مختار العصر المالكي يقول من يشتم الشيعة بيننا وبينه بحار من الدماء.
بعض من شيعة العراق يحسبون نظام البعث على أهل السنة، وذلك لأن الرئيس صدام حسين من أهل السنة، مع إن صدام لم يذكر يوما إنه سني، وإن نصف المسؤولين في نظامه وأكثر من نصف البعثيين هم من الشيعة. لكنهم لا يقبلون أن يحسب المالكي على الشيعة رغم إنهم إنتخبوه لدورتين وذكر بنفسه أنه يفتخر بكونه شيعي قيل إن يكون مسلما وعراقيا، وهذه ازدواجية واضحة في الحكم على الناس. ومع هذا لنستمر مع حلقات مسلسل المظلومية.
طلب الرئيس الراحل احمد حسن البكر في لقاء له مع السيد الخوئي توحيد العيد الإسلامي للشعب العراقي، وهي خطوة طيبة تتبعها خطوات أخرى. فليس من المعقول أن يطالب حزب البعث بتوحيد الأمة العربية والإسلامية، في الوقت الذي يعجز فيه عن توحيد الشعب العراقي في أكبر مناسبة إسلامية! وناشده بأن تعلن الحكومة والمرجع سوية العيد في نفس اليوم. فرفض المرجع الخوئي إقتراح رئيس الجمهورية في تحد سافر! لاحظ إن الرئيس العراقي ناشد المرجع وطلب منه وليس أمره! وكان بوسعه أن يفرض عليه إعلان العيد حتف أنفه، لكنه إحترم رغبة المرجع ولم يتحدث لا هو ولا صدام حسين في هذا الموضوع بتاتا! إنها المظلومية أليس كذلك؟
عاش الخميني عدة سنوات في العراق وكان موضع إحترام ورعاية الحكومة العراقية، وعندما طُلب منه مغادرة العراق حسب شروط الشاه وإصراره، أرسلت القيادة في طلبه وشُرح له الموقف وتفهمه ووافق عليه، وطلب مهلة لحين الإستعداد للخروج، وخرج من العراق بكل وقار وإحترام. وخلال إقامته في العراق إنكب على التأليف وإلقاء المحاضرات، فكتب المكاسب المحرمة باللغة العربية في أربعة مجلدات، طبع الجزئين الأخيرين في النجف أي بموافقة الحكومة العراقية حسب قانون المطبوعات. وطبع كتاب البيع في الفقه الإستدلالي من خمس مجلدات عام 1976 في النجف أيضا. كما طبع كتاب الخلل في الصلاة الذي يتضمن أفكاره الاجتهادية والاستدلالية حول الصلاة باللغة العربية في آخر أيامه في النجف وكان يلقي ما فيه على شكل محاضرات. وكتب في العراق كتابه الشهير الحكومة الإسلامية باللغتين العربية والفارسية مؤكدا فيه عدم إمكانية عزل الدين عن السياسة(ولاية الفقيه) وطرح أفكاره من خلال المحاضرات التي كان يلقيها في النجف عام 1969، وقد طبعت المحاضرات بالرونيو في النجف خلال السبعينيات وكانت توزع علنا دون معارضة الحكومة. وهو يعرف إن حزب البعث علماني ويفصل بين الدين والسياسة! أي المحاضرات كانت موجهة ضد سياسة الدولة.
ونشر أشهر كتبه( تحرير الوسية) باللغة العربية وهو يضم معظم الفتاوي التي طرحها خلال حياته وكان قد عكف على كتابته في تركيا عام 1964 وطبع لأول مرة في النجف ولعدة طبعات بعدها. ماذا يقول في كتابه هذا ” والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، و بأي نحو كان و وجوب إخراج خمسه”. (تحرير الوسيلة1/325)
ويضيف في نفس المصدر”غير الاثنى عشرية من فرق الشيعة اذا لم يظهر منهم نصب ومعاداة و سب لسائر الائمة الذين لا يعتقدون بإمامتهم طاهرون وأما مع ظهور ذلك منهم فهم مثل سائر النواصب”. ناكر الجميل هذا! يعيش في العراق كمنفي وفي ظل نظام حكم سني كما يزعمون ويهاجم الحاكم والنظام ونصف الشعب العراقي، بل ويستبيح دمائهم وإغتنامهم ويطالبهم بدفع الخمس له! إنها المظلومية أليس كذلك؟.
الرئيس العراقي صدام حسين كان يصلي حسب طريقة أهل السنة في وضعية اليدين، وهذا ما ظهر في عدة تسجيلات تلفازية له، فماذا يقول الخميني عن طريقة الصلاة هذه” التكفير هو وضع احدى اليدين على الاخرى نحو ما يضعه غيرنا وهو مبطل عمدا و لا بأس به في حالة التقية”. ( المصدر السابق). أي إنه يكفر رئيس الدولة وشعبه! الطريف في الأمر إنه ألف في تلك الفترة أيضا كتاب(الجهاد الاكبر أو جهاد النفس) وهي مجموعة محاضرات ألقاها في النجف تحث على تهذيب النفس البشرية والسمو بها وإعتماد قيم الأخاء بين المسلمين وعدد من المسائل الإخلاقية التي لم يطبقها على نفسه! منطلقا من قاعدة(ينصحون الناس وينسون أنفسهم). لأنه في كتابه المكاسب المحرمة يقول” غيرنا ليسوا بإخواننا وان كانوا مسلمين. فلا شبهة في عدم احترامهم بل هو من ضروري المذهب كما قال المحققون، بل الناظر في الأخبار الكثيرة في الأبواب المتفرقة لا يرتاب في جواز هتكهم والوقيعة فيهم، بل الأئمة المعصومون، أكثروا في الطعن واللعن عليهم وذكر مساوئهم”. (المكاسب المحرمة1/251). علاوة على اللعن والسب يجيز هتك أعراضهم! ويستشهد من نفس هذا الكتاب الذي طبعه في النجف برواية أبي حمزة عن أبي جعفر” قلت لأبي جعفر: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم. فقال: الكف عنهم أجمل. ثم قال: يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغاة ما خلال شيعتنا”. (المصدر السابق). وعلق الخميني عليها”الظاهر منها جواز الافتراء والقذف عليهم”.
إنه لا يكتفِ بشتم وتكفير النظام والرؤساء العراقيين وبقية المسؤولين والشعب العراقي، بل يعتبرهم أولاد زنا وهو يعيش بين ظهرانيهم. إنها المظلومية أليس كذلك؟
يفترض بالخميني خلال تواجده في العراق أن يطبق عقيد أجداده وهي التقية، ليس خوفا بل إحتراما للرئيس والحكومة والشعب الذي يستضيفه، فهو يقول” إذا كانت ظروف التقية تلزم أحدًا منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام”. (الحكومة الاسلامية/142). لكن الخميني لم يلزم نفسه التقية بل كان يجهر بأفكاره العدوانية في كتبه ومحاضراته بكل وقاحة وصفاقة، ولم تتدخل حكومة البعث السنية المزعومة لتلقمه مداسا وتطرده خارج الحدود. إنها المظلومية أليس كذلك؟
قبل رحيل الخميني من العراق ألقى محاضرة تطرق بها بشكل واضح إلى موقفه من الأنظمة العلمانية والبعث واحد منها، فإعتبر الرئيس العراقي ورؤساء كافة الأنظمة العلمانية طواغيت بقوله” توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت، و نحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، ونبعدها تماماً عن حياتنا”. طبعت المحاضرة فيما بعد في كتابه(الحكومة الإسلامية/33). إنه يطالب العراقيين بالتمرد على النظام الحاكم، ولم يحرك الطواغيت مداساتهم ويسحقون بها صراصير الصفوية أصحاب المظلومية. ولنا عودة بعون الله.
علي الكاش
كاتب عراقي