قالت صحيفة (الأخبار) اللبنانية المقربة من (حزب الله) أن الصورة تبدو سوريالية. بعد حملة سياسية و«فتّ عملة» لنيل كرسي غير دائم في مجلس الأمن الدولي لأول مرة في تاريخ السعودية التي شعرت في لحظة من اللحظات بأنها بلغت سنّ الرشد، فإذا بعاصمة «الحكمة والتروّي»، في أقل من 12 ساعة، تعيد حساباتها وتسحب عضويتها. هل أدركت الرياض أنها شاخت ومستقبلها ربما بات وراءها؟
وهذا نص التقرير الذي نشرته الصحيفة
نزار عبود
رفضت السعودية أمس تسلّم مقعد غير دائم في مجلس الأمن، معللة ذلك بأسباب سياسية. هي المملكة نفسها التي سبق أن جاهدت للحصول على هذا المقعد قبل 15 عاماً، وحتى قيل إنها حاولت قبل أربع سنوات شراء مقعد لبنان.
الأسباب المعلنة كانت عبارة عن احتجاج «لعدم إصلاح مجلس الأمن الدولي الذي لا يتحمل مسؤولياته. فهو عجز عن حل القضية الفلسطينية لمدة 65 عاماً، ولم يفرض تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة منزوعة من أسلحة الدمار الشامل، ولم يتحرك لإنقاذ الشعب السوري من البطش والقتل واستخدام السلاح الكيميائي ضده»، كما ورد في البيان الذي نقلته وكالة الأنباء السعودية عن المراجع الحكومية المعنية.
ما خفي كان أعظم. حال من الاضطراب في الموقف يعكس انقساماً داخلياً وضياع مركز القرار في الرياض التي شاخت إلى حدّ بات الغربيون، ويتقدمهم جيفري فيلتمان، يمعنون في التحدث بصورة سلبية عن تلك المملكة «الخرفة» التي تتعامل مع الملفات الدولية بعقلية البدو. شخصنة مفرطة لأزمات المنطقة، وردود فعل انفعالية، أبرز مؤشر عليها ما فعله سعود الفيصل خلال الاجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع ذلك، ما لم تقله الرياض عن السبب الفعلي لقرارها في شأن عضوية مجلس الأمن، أعلنته فرنسا على لسان مندوبها لدى الأمم المتحدة جيرار آرو. قال، قبيل دخول قاعة مجلس الأمن أمس: «إننا ندرك إحباط السعودية من واقع أن مجلس الأمن الدولي لم يكن قادراً على العمل لمدة تتجاوز عامين. لم يتح للمجلس العمل بفعل استخدام متكرر للفيتو من قبل دولتين. نتفهم الإحباط الذي يمثل إحباط جانب كبير من المجتمع الدولي».
واقع الأمر أن مجلس الأمن الدولي، ولأول مرة منذ أكثر من عشرة أعوام، يبدو متناغماً مع أعضائه ومع الأمين العام، واتخذ القرار 2118 بالإجماع بشأن نزع السلاح الكيميائي السوري، وأتبعه ببيان رئاسي بعد ذلك بيومين يدعو إلى فتح المعابر ووقف القتال لإيصال المساعدات إلى المدنيين السوريين حتى عبر الحدود. وأكد في البيانات والقرارات المتعددة أن لا حل في سوريا غير الحل السياسي. آرو قال: «المطلوب هو رحيل الرئيس السوري بشار الأسد… وجوهر الأزمة هو الحرب الأهلية التي يشنها الأسد على شعبه». تجاهل الديبلوماسي الفرنسي، أو أنه لم يأخذ على محمل الجد، السببين السعوديين الآخرين.
ليست السعودية وحدها من يشعر بتضاؤل دوره السياسي جراء حرب سوريا، بل الفرنسيون أيضاً، الذين اعتقدوا للحظة من اللحظات أن السعودية ستكون عوناً سياسياً لهم في المجلس بعد أن شكّلت عوناً اقتصادياً على مدى عقود.
رؤوس متعددة
والمستغرب في خطوة التراجع السعودية أن الرياض، التي لم يعد يعرف أي رأس يقرر فيها، كانت تعلم واقع مجلس الأمن قبل عقد الجمعية العامة أول من أمس في جلسة التصويت التي نالت منها 167 صوتاً، وتم اختيارها بين خمس دول أعضاء غير دائمين لاحتلال مقعد لمدة عامين. وهو مقعد عربي متعارف عليه، تارة يكون من آسيا، وتارة أخرى من شمال أفريقيا. فما عدا مما بدا أن تغير رأيها خلال ساعات معدودة؟
ربما كان ينبغي العودة قليلاً إلى ما جرى في الأسابيع الأخيرة. تزامن انعقاد الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلث الأخير من أيلول الماضي مع توافق روسي ـ أميركي على مستقبل الوضع في سوريا وما بعد سوريا. صحيح أن ما حصل بعده اقتصر على الشكليات. اتصال هاتفي أجراه باراك أوباما واستجاب له حسن روحاني. لكنها شكليات تحمل الكثير من الدلالات. لعل أولها إدراك واشنطن أن الدول التي تسير في فلكها في الشرق الأوسط لم تعد تملك القدرة على حسم النزاعات لمصلحتها بضربة، أو حتى بضربات، قاضية. بات واضحا أن السعودية تستطيع استخدام أدواتها في تفجير سيارات مفخخة، وممارسة الإرهاب بشتى أنواعه، وتجنيد المقاتلين وتمويلهم وإرسالهم إلى العراق وسوريا، لكنها لا تستطيع كسب الحرب. باتت واشنطن مقتنعة، على ما ظهر، بأن أعداءها في المنطقة يمتلكون ما يكفي من قوة الردع لشل حركتها وإجهاض مخططاتها، فيما هي تحت ضغط وضع اقتصادي متآكل، وميداني يجري بعكس ما تشتهي سفنها. تحتاج إلى الانسحاب من أفغانستان، ومن دون مساعدة روسيا وإيران لا يمكنها نقل معداتها وجنودها من تلك الدولة عبر الأراضي الباكستانية كما فعلت عند دخولها. أيضاً هي تخشى من أن تؤدي سياسة الإخوان المسلمين، باستخدام الإرهاب استراتيجية، إلى خسارة منعة واستقرار دول أخرى مهمة لها، كالأردن وتركيا ولبنان وكردستان، وتهدد بإغراقها في حروب وأزمات على غرار ما يجري في سوريا والعراق. ولا تستطيع في الوقت نفسه تحمل التبعات الديموغرافية والإرهابية التي ستتمخض عن تلك الحالة… إلى ما هناك من ملفات تحتاج إلى حلول في منطقة بلغت درجة الاحتقان فيها حداً كادت تودي بها إلى حرب شاملة.
قرأ المسؤولون السعوديون ما يجري جيدا. ربما لم تتوافر لهم المقدرة على استيعاب كل المتغيرات وتحليلها، بل حتى مجرد إدراكها. لكنهم بلا شك شعروا، بفطرتهم، بأنهم باتوا خارج اللعبة. انتقلوا من القلب إلى الأطراف. باتوا في الخلفية، يؤدون الأدوار الثانوية. يقفون على هامش حركة التاريخ.
الخطر من الشمال
كانت السعودية قد حددت المخاطر التي تتهدد مملكة آل سعود عام 2002، بعد أشهر من 11 أيلول 2001، في دراسة قدمها الأمير نايف بن أحمد آل سعود، العقيد في سلاح الطيران السعودي. قال إن المخاطر تأتي من الشمال. وجاء في دراسته التي نشرت في الولايات المتحدة: «بنظرة إلى الخليج الفارسي في العقود الماضية، يتضح أن مصدر الخطر هما دولتان، إيران والعراق».
وشرح نايف بن أحمد قائلاً إن الخطر هذا نابع من أن الدولتين يمكن أن تشكّلا منافساً للسعودية على النفوذ في المنطقة. وبالطبع، يصبح الخطر بنظر السعودية مضاعفاً إذا جاء من اجتماع إيران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان في استراتيجية موحدة.
لم يأت المفكر العسكري الاستراتيجي السعودي في دراسته المعمقة على ذكر إسرائيل. ولم يتحدث في كلمة واحدة عن فلسطين. فهي ليست في حسابات السعودية. بل إن الوثائق البريطانية كشفت بشكل قاطع تنازل مؤسس المملكة عبد العزيز آل سعود عن فلسطين لممثل بريطانيا كوكس بيرسي «للمساكين اليهود أو غيرهم كما تراه حكومة بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى قيام الساعة». وشددت الدراسة على أهمية تعزيز قوة المملكة العسكرية؛ لأن القواعد العسكرية الأميركية تتعارض مع الإجماع الشعبي السعودي. كل ذلك تبدل بعد حرب سوريا.
حضر سعود الفيصل إلى نيويورك الشهر الماضي، ووجد أن الأميركيين منشغلون عنه بوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، قبل حضور الرئيس المنتخب حسن روحاني. تفادى وزير خارجية السعودية في نيويورك، ولأول مرة في تاريخ الجمعيات العامة، الاحتكاك بوسائل الإعلام. كانت لقاءاته الغربية محدودة للغاية. لم يدل بأي تصريح. لا بل إنه بدا مرتبكاً ومتخبّطاً في حركته منذ اللحظة الأولى لدخوله مبنى الجمعية العامة، حيث اضطر مرافقه إلى أن يسنده ويمنع سقوطه. ورحل عن نيويورك حتى من دون أن يلقي كلمته أمام الجمعية العامة. ولم يطلب حتى من مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة إلقاءها بالنيابة. كان الأمر أكثر من كبر في السن ورعشة في الجسد.
سقى الله أيام النفط
السعودية تواجه أزمة لم تعرف مثيلاً لها حتى في 11 أيلول حين كان ينظر إليها في واشنطن على أنها مصدر الشر الإرهابي الأول في العالم. هو العالم نفسه الذي عانى ما عاناه في مثل هذه الأيام قبل 40 عاماً، يوم لوحت السعودية بسلاح النفط. اليوم، لجأت الولايات المتحدة إلى الانكفاء إلى إجراءات اقتصادية سالبة لتخفيف اعتمادها على نفط الشرق الأوسط. انتقلت من دولة مستوردة صافية للنفط إلى دولة مصدرة مستفيدة من مخزون ضخم من النفط الصخري. لم يعد هناك حاجة للقتال من أجل النفط. ومركز المصالح الأميركية هو حوض المحيط الهادئ. والكل يريد بيع نفطه.
شعر الفيصل بأن التحالف الأميركي ـ السعودي في خطر، وأدرك أن السيد لا يشاور عادة تابعه بمصيره في نهاية المشوار. صحيح أن الصحف الإسرائيلية تحدثت عن لقاءات خليجية كبرى جرت في نيويورك، لكن لا إسرائيل ولا السعودية معها يمكن أن تنجح حيث فشلت الولايات المتحدة. في الأمم المتحدة البحث جارٍ عن بديل للتمثيل السعودي.
«خرف سياسي»
الهند تترأس المجموعة الآسيوية التي تزكي عادة الدولة العربية. وحتى فجر اليوم، لم يكن قد تحدد اسم الدولة المرشحة بعد السعودية للمقعد. البعض قال إن الإمارات هي الأقرب في التسلسل الأبجدي بين الدول العربية الآسيوية. وبعدما يرسو الترشيح على الدولة المختارة، لا بد من عقد جلسة تصويت أخرى بعد خوض حملة انتخابية مكثفة. كل هذا يمكن تأمينه خلال 24 ساعة إذا تحقق إجماع.
في هذا الوقت، كاد الذهول يصيب الجميع. السعودية كشفت بخطوتها «خرفاً سياسياً» أزعج الأصدقاء قبل الأعداء.