هل ما زال مجدياً تذكير الدولة اللبنانية الغارقة في سباتها بأنّ الأمة التي لا تكرّم مبدعيها ساقطة في قواميس الحضارة؟ اليوم، يوارى أحد آخر العمالقة في الثرى، تزامناً مع مطالبات بإعلان الحداد الرسمي في البلاد وفاءً لفنان شكّل وجدان شعب وذاكرة لبنان وهويته أيضاً. هنا حوار غير منشور مع صاحب الحنجرة الذهبية أجريناه عام 2006 في دمشق لدى مشاركته في أوبريت «رياح الجنوب»، مع تصريح لصباح التي وصفها بأنّها أجمل من غنى دويتو معه
هل حقّق الصافي حلمه في الفنّ وفي الإنسان؟
لم أحقّق كل أحلامي في الفنّ. حلمي أن أسجّل كل التراث العربي في صوتي، بدءاً من القدود الحلبية، إلى الموّال، وصولاً إلى الفولكلور المصري، والعراق والخليج ولبنان، وسوريا، وفلسطين والجزائر وتونس. «حرام» التراث الغنائي العربي، سيندثر بعدي. كنت أتمنى أن أسجّل كل أعمال الفنان الراحل محمد عبد الوهاب بطلب منه. أما على الصعيد الإنساني، فلم أفشل في الإيمان بلبنان الإنسان، لكن أهل السياسة قتلوا الإنسان.
من دعمك كي تنجح؟
أنا ساعدت نفسي، ولا أحد ساعدني أو دعمني. فقط جدي أبو بشارة الذي كان يمتلك صوتاً رائعاً، شجعني وقال لي حرفياً: «صوتك ما في مثله على الأرض، وسيجعلك مشهوراً». عشت سنوات من التعب، والصبر، والهمّ، ومحاربة التآمر حتى وصلت. لم يتعب أحد مثلي. غالبية الفنانين تعلّموا ووجدوا من يقف إلى جانبهم ويوجّههم، كل ما ترونه أنا صنعته وحدي بعون الرب. ربما الفنانة صباح هي الوحيدة التي تعبت وحدها أيضاً «بس أنا تعبت أكثر».
هل تجد أنّ لبنان الذي غنيّته أنتَ وصباح والرحابنة، لا يزال لغاية اليوم؟
لبنان دوماً موجود في قلوب الأصيلين، ما دامت الأصالة موجودة. الشمس مهما غابت، فسيبقى وطني هو الإنسان.
ماذا تفعل حين تتألّم وعندما تفرح؟
عندما أتألّم أصلّي، وعندما أفرح أصلّي وأيضاً أدعو إلى الله. (تدمع عيناه) علاقتي مع الله علاقة روحية لن تتغيّر ما دمت أتنفّس وأعيش.
والإنسان إلى أي مدى علاقتك جيدة معه؟
أنا أحترم الإنسان كثيراً، شرط أن يحترم نفسه.
هناك أصوات تقول إنّه يجب على الصافي أن يتوقّف عن الغناء؟
تلك أصوات نكرة، ولا تفقه الفنّ، هم أحرار ليقولوا ما يقولونه، لكن ليغنّوا أمامي، وليأتوا بالمقامات التي أجيدها.
ساهمت في صنع الأغنية العربية وصياغة ألحانها وكلماتها، ألا تتعب وأنت تقف على قدميك؟
أنا رجل مؤمن، ولا أنهار، ومثابر على رسالتي في السراء والضراء. الإنسان المؤمن يصلّي في الرخاء ويصلي في القحط، ويدعو إلى ربّ السماء، وعار على الإنسان بعد كل ذلك أن يخون خالقه. بصراحة، هناك مؤامرة صهيونية على الفنّ العربي، وتحديداً الغناء. أحذّركم من ذلك.
إذاً تريد أن تواصل الغناء؟
أريد أن أشرح عن حياة الشعوب وآلامها، وأرفّه عنها، لكني لست بعيداً عن الجو نهائياً، بالعكس فأنا أملك رؤية سبّاقة لما يمكن أن يحدث قبل وقوعه.
ماذا تقول للشعب اللبناني الذي قاوم في حرب تموز 2006؟
لم يستطع أحد أن ينتصر على شعب لبنان. قد يحتلّون أراضينا، لكنهم لم ينتصروا على هذا الوطن، والمواطن اللبناني من الجنوب أو من الشمال، هو المقاوم الشريف، لأنه يدافع عن بلده وترابه.
إلى أيّ مدى أثّر عنفوان غناء الصافي في الشعب والأرض العربية؟
يحصل التأثير في الأرض الطيبة. الأخيرة تعطي الثمر، والأرض النجسة لا تعطي شيئاً، لأنّ السموم تجري فيها.
ماذا تقول للبنانيين والعرب؟
كما قلت لهم في أغنياتي: ماذا بقي بعد؟ هل بقي شيء لم أقله، ليستمعوا إلى أغنياتي دائماً. أنا أصلي حينما أغنّي، وصليت في مقام «السيدة زينب» في الشام، ورفعت الأذان ورتلت القرآن. في غنائي صلاة كي يعيش الإنسان.
هل هذا درس منك إلى الناس مع ازدياد التطرّف والتعصّب الديني؟
طبعاً، لأن المتطرّف يقوم بإيذاء دينه قبل أن يؤذي أحداً آخر، وهو عدوّ دينه. التطرّف كذبة كبيرة ومدفوع لها لكي تكبر وتعمل. عملها يكمن في بيع الأوطان بالأموال.
وماذا تقول للسياسيين الذين يبيعون بلادهم؟
السياسيون في بلدي يسمعون بأذن ويخرج الكلام من الأذن الأخرى. آذانهم مسدودة، ويسمعون بأذن واحدة فقط. أنصحهم بأن يستمعوا إلى أغنياتي حتى يتعلّموا حبّ الوطن.
ماذا تقول للأشخاص الذين يشحنون صدور الناس بالطائفية؟
“يا ليتهم ما خلقوا”، لأنهم عدد زائد ومجرّد جراثيم تعمل لخراب الإنسانية.
ماذا تفعل عندما تجلس وحيداً؟
أبكي، ثم أناجي إلهي وأقول له: يا ربّ، أرح هذا الشرق موطن الأنبياء رحمة قبل أن أغادر هذه الحياة. تخيّل الرعب الذي أعيشه كلّما فكرت في العرب (تنهمر دمعته).
لماذا تبكي الآن؟
أبكي لأن الناس يتألمون.
إذاً، وديع الصافي يعيش الخوف؟
نعم، الإنسان يخاف على الشيء الذي يحبّه، أحافظ على أولادي وعلى بلدي. أنا أكثر من خائف، أقلق من المستقبل، لكنني متفائل، لدي الأمل بالعناية الإلهية التي ستنقذني أخيراً.
هل تخاف على لبنان فقط؟
أنا خائف على كل الأمة العربية، وعلى بلدي الذي هو جزء منها، على الأخيار والمظلومين في هذه الأوطان.
هل ما زال هناك أخيار في وطننا؟
نعم، والحمد لله الخميرة موجودة، وفي لبنان الكثير من الأولياء والقدّيسين هؤلاء سيتشفّعون بالأخيار.
إذاً، هذا يخفّف من دموع الصافي؟
كما قلت، أنا متفائل، رغم أني أشعر بأني أعيش في نكد، لأنّي لا أحبّ أن يعيش وطني في هذه الحالة.
نسمع كثيراً أصواتاً تُنادي ضد العروبة وسوريا وضد العرب؟
الأوطان أمانة بين أيدينا من قبل الله. أميركا بكل عظمتها تنهار الآن، لأنها فقدت الأخلاق وتتدخّل في أشياء لا تعنيها. على الجميع أن يعلم أن سوريا بلد العروبة والأقرب إلى لبنان.
هل تسمع أغنيات اليوم، وهل تشاهد البرامج التي تعرض على الشاشات؟
ليس دائماً؛ لأن بعض المحطات تبثّ ما يدعو إلى القرف. أحياناً أستمع إلى بعض الأعمال الفنية النظيفة التي يطلب مني متابعتها وإعطاء رأيي بها.
هل تعتقد أنّ تلك المحطات تحاول أن تمرّر بعض المشاريع السياسية من خلال هذه البرامج؟
طبعاً، هناك مشروع صهيوني، نقطة على السطر. وللأسف، نحن في الدول العربية نتقبّله، وبعضنا يتعمّد السير فيه.
لكن قد تخرج بعض الأصوات وتقول هذه حرية!
هذه ليست حرية. لعن الله حريةً كهذه.
أحد النقاد يقول إنّ موجة الفنّ الحاصلة اليوم يتحمّل مسؤوليتها وديع الصافي، وصباح، وفيروز والرحابنة وأم كلثوم، لأنكم غنيتم على نمط معين، وهم الآن «فلتوا» في الغناء؟
صحيح، «فلتوا» في الغناء، والواجب ربطهم. على جميع الحكومات العربية أن تفرض رقابة على بعض الفنانين، وأن يكون هناك شرطة فن.
من يلفتك من الجيل الجديد؟
ـ (لم يرغب في ذكر أسماء) هناك الكثير من الأصوات الشابة التي تحترم فنّها.
ماذا تقول عن فن وإعلام وثقافة اليوم؟
لقد استعملوا الفنّ أداة رخيصة للرقّ مع الأسف، وهذا ما يحزنني. الفن أسمى وأعلى من ذلك.
هل تقبل الجنسية الأميركية إذا أعطوك إياها؟
لقد سبق أن عرضوا عليّ الجنسية الأميركية في الثمانينيات ولم أقبلها. لم آخذها «لشو». هذه هوية صهيونية. لا شيء بيني وبين الشعب الأميركي. إنه بريء، لكنّني أقف ضد إدارته المتصهينة، لأنّها متعصبة ومتزمتة وتريد احتلال العالم كله بـ«عهرها»، فيما العرب يستمعون للأسف إليها، وبعضهم يسير معها وعلى دربها.
ما شعورك وأنت ترى الثمرة التي زرعتها في نفوس الناس وهم يستمعون إلى أغنياتك؟
الإنسان بطبيعته يتوق إلى الحق. ترى أناساً أبرياء لا أحد يعلّمهم طريق الحقّ، فيبحثون عنه في الفنّ. وفي أغنياتي يتوافر ذلك. هناك غزل، لكنه غزل أديب ومهذب، لذلك تقبّله الأشخاص الجيدون، ولو دفع لي كل شخص منهم دولاراً واحداً لكانت أحوالي الآن فوق الريح (يضحك طويلاً).
كيف تعيش اليوم؟
الدولار شرّ لا بد منه (يبتسم). لتعرف كيف أعيش، عليك أن تسأل الخالق كيف أكمل حياتي وما زلت محافظاً على كرامتي. يأتي فرجه عليَّ في أوقات الضيق التي تمرّ بي.
سمعنا بوجود شركة إنتاج ستتعاقد معها، لماذا لم ينجح ذلك؟
لقد ظلموني ولم يدفعوا لي حقي المادي. لا يريدون الفنّ أيضاً، وتحديداً الفن النظيف، هم بحاجة إلى عمل آخر، لقد جرحوني ولم يؤثروا بي قيد أنملة.
هل ندم الصافي على كل هذا المشوار الطويل؟
ليس هناك عمل فيه إقدام لا يحمل شيئاً من الخطر. الإصرار، والإرادة الطيبة، والإيمان تدفعني إلى المثابرة والانتصار في ما بعد.
هل ظلمت أحداً في حياتك الفنية؟
ظُلمت ولم أظلم. أنا دائماً مظلوم يسرقونني وينهبونني، لكن أتعالى على الصغائر. هناك نحو ثلاثين عائلة أمانة في رقبتي.
ماذا تنصح الجيل الجديد، في هذا الزمن الصعب بكل ما فيه من فنّ ومعيشة وحروب؟
أنصحهم بالمحافظة على القيم والأخلاق التي تربينا عليها، وألا يضيع الوطن في التعصّب الديني، وألا نسمح للغرب بأن يفرّقنا.
ماذا تقول لسوريا؟
سوريا بلدي كما هو لبنان. نحن بلد واحد. الشعوب متقاربة ومتمازجة ومتزاوجة، وهناك تاريخ بيننا ولن يستطيع أحد أن يفرّقنا عن بعضنا. لبنان وسوريا تاريخ واحد، وكما جاء في أغنيتي «سوريا ولبنان أخوة من زمان، مش كل ما مرقت غيمة صيف بغرق بالنسيان».
ما هي الطقوس الخاصة بوديع الصافي؟
التصوّف والصلاة أولاً، ثم آخذ عودي وأجلس وحيداً في غرفتي حيث أقوم بإنهاء ما أريد القيام به من ألحان، ثم أستشير ولديّ، جناحَيّ جورج وأنطوان، لأنهما أستاذان في الفنّ أيضاً.
هل لا يزال العود صديقك؟
العود هو البلسم بالنسبة إليّ بعد أولادي طبعاً لمعالجة جراحي. ما زلت أعزف ذلك العزف الذي «يبكي الحجر»، والآن، صار هناك أنين أكثر.
هل تشعر بقرب رحيلك عن الدنيا؟
أنا الآن على استعداد تام للرحيل إلى الخالق “أطلق عبدك بسلام يا رب”
هل هناك رسائل معينة تريد أن توجهها؟
أنا عاتب على كل دولة لا توقف قلّة الأخلاق في الفن. للأسف واقع الأغنية في العالم العربي «زفت بزفت»، ومن يعمل اليوم في الفن، يشوّه تعبنا وجهودنا ولن أسامحهم.
ماذا تقول لـ:
وديع الصافي؟
وديع الصافي ثروتي التي لا يأخذها أحد مني، أنا أغنى الناس بمحبتهم لي.
الفنانة صباح؟
أفضل من غنّى دويتو معي، وحين تآمروا عليّ في بعلبك لم تكن تعرف. مخلصة والله يوفقها.
فيروز؟
الله يعينها. لم أحبّ تجربتها الأخيرة مع زياد، ولا تعليق.
وردة الجزائرية؟
أحبها كإنسانة وكفنانة، وهي مقرّبة إليّ.
معين شريف؟
ترعرع على صوتي وتتلمذ على فني، وهو يحبني وخليفتي، وأنا مؤمن به وأحبه.
ملحم زين؟
صوت جميل ومتدرّب، ويجيد أصعب الغناء.
الياس الرحباني؟
دمه خفيف.
منصور الرحباني؟
عملاق وشاعر كبير وأديب مهم.
وزياد الرحباني؟
لا تعليق.
الفنانة نجوى كرم؟
ذكاء حادّ، وصوت بلديّ جميل.
زكي ناصيف؟
حبيب الروح، وتوأم روحي.
توفيق الباشا؟
أحترمه جداً، وهو أخي.
محمد عبد الوهاب؟
أستاذنا ومعلّمنا.
الفنان الراحل عبد الحليم حافظ؟
حبيبي.
الفنان نصري شمس الدين؟
يتقن أعماله مع الغير ويسير كالقطار، لكنه لا يبدع.
جهاد أيوب