لم يكن قرار إدارة أوباما تعليق الكثير من المساعدات السنوية المقدمة لمصر والبالغة 1.3 مليار دولار مفاجأة إلى حد ما. فالقانون الأمريكي ينص على قطع المساعدات عن الدول التي وقع فيها انقلاب، وكان عزل الجيش المصري للرئيس محمد مرسي هذا الصيف هو بالضبط ما حدث – من الناحية التحليلية. وعلاوة على ذلك، فإن سلوك الجيش المصري خلال الثلاثة أشهر التي مضت منذ الاطاحة بمرسي جعل مصر تنحرف تجاه حكم استبدادي مُعزّز من المستحيل تجاهله: فقد قُتل أكثر من 1000 شخص في حملة القمع التي شنتها الحكومة المدعومة من قبل الجيش ضد الاحتجاجات المؤيدة لمرسي؛ كما تتم محاكمة الصحفيين الذين ينتقدون الجيش في محاكم عسكرية، ويرجح أن يمنح الدستور الجديد الجيش مزيداً من التحصينات ضد أي نوع من الرقابة المدنية.
وفي الواقع أن الجنرالات ليسوا ديمقراطيين، ولم يكونوا كذلك مطلقاً. فهم فاعلون بيروقراطيون يحمون امتيازاتهم البيروقراطية بأنانية، وتشمل هذه الاستقلال في شؤونهم الداخلية وسيطرتهم على أصول اقتصادية واسعة (على سبيل المثال يملك الجيش المصري [مصانع] لإنتاج المياه المعبأة في زجاجات – من بين منتجات استهلاكية أخرى)، وهم يعرفون أن الديمقراطية الحقيقية قد تكلفهم هذه الإمتيازات. إلا أن قطع المساعدات لن يجعل الجيش ديمقراطياً، وسوف يأتي ذلك بتكلفة كبيرة: وهي تحديداً، القدرة على تشجيع الجيش على اتخاذ مسارات أكثر تقدمية على طول الطريق، عندما قد تكون البيئة أكثر ملاءمة لسياسة أمريكية داعمة للديمقراطية بقوة أكبر في مصر.
إن دعوات قطع المساعدات العسكرية في أعقاب الاطاحة بمرسي تعكس سوء فهم جوهري لما حدث في مصر في الصيف الماضي. والقول، كما يتردد في كثير من الأحيان، بأن الجيش عزل رئيساً – كان قد انتُخب بصورة ديمقراطية – عن منصبه هو غض للطرف عن حقيقة أساسية جداً وهي: أنه في الوقت الذي خرجت فيه مظاهرات جماهيرية غير مسبوقة ضد حكم «الإخوان المسلمين» في 30 حزيران/يونيو، كان محمد مرسي رئيساً بالإسم فقط. فالإعلان الدستوري لمرسي من تشرين الثاني/نوفمبر 2012، الذي وضع فيه قراراته فوق الرقابة القضائية، وتمريره السريع لاحقاً لدستور إسلامي والمصادقة عليه، قوضا بشكل حاد من شرعيته الشعبية، وقلصا الدعم الذي كان يتمتع به في بلد يبلغ عدد سكانه 85 مليون نسمة، بحيث أصبح هذا الدعم يستند فقط على قاعدة «الجماعة» التي يبلغ عدد منتسبيها ما يقرب من 500000 عضو. وفي الوقت نفسه، فإن قرار «الإخوان» إرسال كوادرهم لمهاجمة المحتجين بوحشية وتعذيبهم خارج القصر الرئاسي في 5 كانون الأول/ديسمبر دفع الكثير من المصريين إلى النظر إلى «الجماعة» – المنظمة التي كانوا قد انتخبوها قبل أشهر فقط – على أنها نظام فاشي ناشئ. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، أصبحت الاحتجاجات ضد حكم مرسي متكررة جداً ومزعزعة للاستقرار لدرجة أنه في أواخر كانون الثاني/يناير فرض الجيش سيطرته على مدن قناة السويس الثلاث الكبرى – بناءً على طلب مرسي.
وفي الوقت نفسه، فإن تعيين مرسي ربما لآلاف «الإخوان» عديمي الخبرة تماماً في مناصب تنفيذية عبر جهاز مصر البيروقراطي الضخم قد حفّز قيام مقاومة كبيرة لحكمه داخل الدولة نفسها. وهو شيء أقر به المُعينون من قبل جماعة «الإخوان» التي ينتمي إليها مرسي. لكن بدلاً من محاولة بناء الإجماع داخل أجهزتهم البيروقراطية، حوّل وزراء «الإخوان» موارد الحكومة بدلاً من ذلك نحو المنظمات المنتسبة لـ «الجماعة»، مما فاقم المقاومة لسلطتهم داخل أجهزتهم البيروقراطية. وبحلول 30 حزيران/يونيو، قام ضباط بزيهم الرسمي من نفس قوة الشرطة التي دعمت ذات مرة هجوم «الإخوان» على المحتجين بالاحتجاج ضده، إلى جانب ملايين المصريين في الشوارع. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأ وزراء مرسي بالاستقالة من حكومته. وبعبارة أخرى، فقد مرسي السيطرة تماماً؛ وبرفضه التفاوض على حل سياسي للأزمة – و تفضيله الصريح للشهادة على السياسة – جعل إعادة بسطه للسيطرة أمراً مستحيلاً من الناحية الفعلية.
عندما يفقد رئيس دولة تضم 85 مليون نسمة، معظمهم فقراء، السيطرة على الأمور فلن تكون هناك نهايات سعيدة. وفي الواقع، تصبح بعض الاحتمالات المروعة فعلاً أمراً محتملاً فجأة [على سبيل المثال]: انتفاضات عنيفة واغتيالات وحروب أهلية، وكذلك انقلابات عسكرية. ورغم المشهد غير الديمقراطي للجيش المصري، إلا أنه كانت لدى الجنرالات رغبة قوية في تجنب القيام بانقلاب. ووفقاً لما أكده المسؤولون العسكريون في الشهور التي سبقت الإطاحة بمرسي، فإن خبرتهم في إدارة مصر عقب عزل حسني مبارك عام 2011 كانت مريرة. فقد قالوا أن تدريبهم هو على القتال في الحروب والدفاع عن الحدود وليس ضبط الأمن في المدن والتعامل مع الصرف الصحي. واستطراداً في تلك النقطة، حصل الجنرالات على ما أرادوا في الواقع في ظل حكم مرسي. فدستور «الإخوان» منح الجيش استقلالية غير مسبوقة على شؤونه الداخلية، بما في ذلك سيطرته على الأصول الاقتصادية الكبرى. وقد أكد مرسي قبوله لاستثناء الجيش من الرقابة الديمقراطية في نيسان/أبريل، عندما غض الطرف عن تقرير رسمي يبرز انتهاكات الجيش في السلطة عقب الانتفاضة التي اندلعت عام 2011. وبعبارة أخرى، كان ذلك اتفاقاً جيداً للجيش – لكنه لم يكن قابلاً للاستدامة على الإطلاق نظراً لأن مرسي فقد السيطرة على البلاد.
بيد أنه رغم تردد الجيش في عزل مرسي إلا أن قراره النهائي في القيام بذلك وضعه في مواجهة مباشرة مع «الإخوان». وبصراحة تامة، هذه هي الطريقة التي تسير بها الانقلابات: أولئك الذين يستولون على السلطة يسعون إلى ضمان عدم قدرة أولئك الذين عزلوهم على العودة إلى السلطة، لأنه من المؤكد تقريباً أن ذلك يعني الموت للحكام الجدد. ولهذا السبب شرع الجيش المصري في قطع رؤوس «الجماعة» من اللحظة التي أطيح فيها بمرسي. ويشارك العديد من المصريين – وربما أغلبهم – مخاوف الجيش من عودة «الإخوان»، ولهذا دعموا بشكل واسع حملة القمع العسكرية الوحشية التي قام بها الجيش ضد «الجماعة».
ليس بإمكان واشنطن أن تغير هذه الدينامية حتى لو أرادت ذلك، لأنه يستحيل فعلياً ممارسة النفوذ على فاعلين منخرطين في صراع وجودي. كما أن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه مصر منذ الإطاحة بمرسي عملت على تقويض نفوذها المحتمل بشكل أكبر. فمن خلال الإصرار على التفاوض بين الجيش و «الإخوان» وحتى تحقيق المصالحة بينهما، فإن الإدارة قد جعلت الجنرالات يخشون من أن يؤدي ذلك إلى الضغط عليهم وانتحارهم، ومن ثم فقدت الإدارة القدرة على الأقل على إحراز الهدف الأكثر تحفظاً وهو منع هجوم شامل لقوات الأمن على احتجاجات «الجماعة». وفي الوقت نفسه، فمن خلال موقفها العلني الملتبس بشأن عزل مرسي، فاقمت الإدارة من خوف المصريين من رغبة الولايات المتحدة في أن تُحكم مصر من قبل «الإخوان» – وهو ما يراه المصريون أكثر تهديداً بمراحل من الحكم العسكري. إن قطع المعونات العسكرية الآن – بعد مرور يومين فقط من تلقي مصر ثلاث هجمات إرهابية – لن يعمل سوى على تعزيز تلك المخاوف، وسوف يعني فقدان عامل مؤثر قد يكون بوسع الولايات المتحدة استخدامه في المستقبل، عندما تكون البيئة السياسية في مصر أكثر تقبلاً للضغط على البلاد في اتجاه أكثر تقدمية.
ينبغي الاطمئنان إلى أن تلك اللحظة آتية لا محالة. وإذا تعلمنا شيئاً عن مصر خلال العامين وأكثر السابقين، فهو أن الأنظمة الناشئة حديثاً سرعان ما تفقد شعبيتها بمجرد أن تصبح أكثر استبداداً. ومثلما تحوّل العديد من المصريين ضد القادة العسكريين الذين تولوا الإشراف على البلاد في شباط/فبراير 2011، ومثلما تمردوا ضد زعيم «الإخوان» الذي فاز في الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو 2012، من المرجح أن ينتفضوا قبل أن تمر فترة طويلة على النظام الحالي، لا سيما حيث يستمر الاقتصاد المصري في التعثر. وإذا كانت الولايات المتحدة ترغب في استقرار مصر، فحينها سترغب واشنطن في استخدام نفوذها لتشجيع الجنرالات على خفض تطلعاتهم السياسية، والسماح لقيام المزيد من السياسات الشاملة والديمقراطية.
لكن إذا قطعت الولايات المتحدة المعونة الآن، فلن تكون حينها قادرة على الدخول في تلك المحادثات لاحقاً. كما أن ذلك سيضع التعاون العسكري بين الولايات المتحدة ومصر في مهب الريح وهو تعاون يمثل قيمة كبيرة للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تشمل حقوق طيران للولايات المتحدة فوق أراضيها والمرور التفضيلي عبر قناة السويس. ومن خلال الإبقاء فقط على ذلك الجزء من المساعدات المصمم لعمليات مكافحة الإرهاب ومراقبة الحدود، سوف تعزز الإدارة من التصور في مصر بأن الهدف الرئيسي للمساعدات العسكرية هو الحفاظ على أمن إسرائيل، وأن واشنطن لا تهتم بشأن استقرار الأوضاع في مصر.
وبعبارة أخرى، إن قطع المعونات هو اقتراح يعود بالخسارة على الجميع. فسيكلف واشنطن نفوذاً كبيراً داخل مصر دون تحقيق أي مكاسب سواءً للجيوستراتيجية الأمريكية أو لآفاق الديمقراطية في مصر. وهو خطأ لا مبرر له إلى أبعد الحدود.
إريك تراجر هو زميل واغنر في معهد واشنطن.