حين اجتمع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بالرئيس الأميركي باراك اوباما في يوم ممطر من أيام شهر مايو الماضي، جلس رئيس الوزراء على طاولة المفاوضات في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض وعلى جانبيه جلس الرجل الأقوى في الشرق الأوسط بحسب تعبير هيلاري كلينتون في وثيقة مسربة ضمن ويكيليكس، وزير الخارجية احمد داود اوغلو، وفيدان هاكان رئيس الاستخبارات التركية الذي برز اسمه كمهندس الإستراتيجية الأمنية التركية مع الربيع العربي.
كان الاجتماع الأول بين اوباما واردوغان منذ نحو عام، نقل فيه الرئيس الأميركي رسالة وصفها مسؤولون أميركيون بأنها كانت صريحة على غير العادة، مؤداها أن تركيا تسمح بدخول السلاح والمقاتلين إلى سوريا بلا تدقيق، بل إن الأسلحة والمقاتلين يتوجهون أحيانًا إلى جماعات إسلامية متطرفة. وكان فيدان بنظر الأميركيين في مقدمة أسباب انزعاجهم من هذا الأمر.
يقول جيمس جيفري، الذي عمل كسفير للولايات المتحدة في تركيا والعراق: “فيدان هو وجه الشرق الأوسط الجديد”، متابعا: “علينا أن نعمل معه لأنه يستطيع إنهاء المهام، لكن لا يجب افتراض أنه الصديق الساذج للولايات المتحدة، لأنه ليس كذلك”.
“فيدان” هو واحد من ثلاث رؤساء أجهزة مخابرات يتصارعون لمساعدة بلدانهم في ملء فراغ القيادة الذي أوجدته اضطرابات الربيع العربي وغياب أمريكا عن المعادلة.
أحد نظرائه هو الأمير بندر بن سلطان آل سعود، الذي ضم قواه إلى جهاز الاستخبارات الأمريكية في سوريا، لكنه ساهم في تعقيد الموقف الأمريكي في مصر عبر دعمه الانقلاب العسكري الذي أطاح بمرسي من السلطة.
نظيره الآخر هو قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في إيران، فيلق النخبة من الحرس الثوري الإيراني الذي يدير عملياته خارج إيران والذي يدين له الأسد بالبقاء في السلطة حتى الآن.
وقد اقترن صعود فيدان بتراجع نفوذ الولايات المتحدة في تركيا. وكان رد الفعل، الذي أثاره تعاظم دور فيدان في واشنطن، خليطًا من القلق والريبة والاحترام. فالمسؤولون الأمريكيون يتحدثون عن أنه على الولايات المتحدة أن تتعامل مع فيدان كبديل موثوق لرجب طيب أردوغان بشأن طائفة من القضايا الآجلة بينها مستقبل مصر وليبيا وسوريا.
ويقول مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون إن ساعدي اردوغان الأيمن والأيسر، أقرب مستشاريه فيدان هاكان وداود اوغلو، يستخدمان الربيع العربي لتحويل اهتمام تركيا نحو توسيع دائرة قيادتها الإقليمية.
ومنذ أن تولى فيدان رئاسة الاستخبارات التركية في العام 2010، عمل على إعادة توجيه نشاطها بما يتلاءم مع مشاريع اردوغان الإقليمية.
في الآونة الأخيرة، اتفق الأمريكيون والأتراك على ضرورة رحيل الأسد، لكن الاختلاف كان في أن فيدان يرى أن التسليح المباشر والنوعي للمعارضة السورية هو الحل الوحيد، إلا أن موقف الولايات المتحدة المتردد يعكس أولويتها التي ليست هي رحيل الأسد بقدر ما هي ألا تقع تلك الأسلحة في يد الإسلاميين في المعارضة السورية.
الأمريكيون من جانبهم لا يرون أن مساعي “هاكان فيدان” تهدف إلى تقويض دور الولايات المتحدة، وإنما إلى خدمة مصالح مشاريع أردوغان الإقليمية.
لقد بدأ المسؤولون الأتراك في تعديل سياستهم الإقليمية بالفعل، لكنهم لم يفعلوا ذلك من أجل الشكاوى الأمريكية المتكررة، ولكن بسبب التهديدات التي تتعرض لها الدولة التركية.
ليس هناك شك في تركيا من أن فيدان هو الرجل الثاني في تركيا، يقول إيمرى أوسلو، خبير شؤون الاستخبارات أنه “أقوى كثيرا من أي وزير، بل إنه أقوى من الرئيس عبدالله غل نفسه”.
يقول المسؤولون الأمريكيون الذين جلسوا معه إنه “لطيف ومتواضع”. في اجتماعاته مع الولايات المتحدة، يبدو فيدان بملابسه الداكنة وكلامه المعسول كأنه نقيض الأمير بندر، رئيس المخابرات السعودية كثير التفاخر بنظاراته الداكنة وسيجاره الكبير.
صعود فيدان لافت للنظر في جانب منه، حيث إنه “ضابط صف” سابق في الجيش التركي، وهي فئة لم يُعهد إليها مهام كبيرة ضمن حكومات أردوغان المتعاقبة، ولا في الأعمال التجارية الكبرى، ولا حتى في القوات المسلحة.
نال فيدان شهادة جامعية في أنظمة الحكم والسياسة من القسم الأوروبي لكلية ماريلاند الجامعية في الولايات المتحدة، وشهادة دكتوراه بالعلوم السياسية من جامعة بيلكنت في انقرة.
في ٢٠٠٣ تم تعيينه لرئاسة الوكالة التنمية (التعاون) الدولي التركية، والتحق بمكتب اردوغان مستشارًا للسياسة الخارجية في العام 2007.
وبعد ثلاث سنوات، تولى رئاسة الاستخبارات التركية. قال اردوغان عنه في العام 2012 في تصريحات علنية للصحفيين: “إنه حافظ إسراري، إنه حافظ أسرار الدولة”.
إسرائيل كعادتها تبدو مصابة بالهوس، يقول مسؤول إسرائيلي كبير: “أصبح واضحا لإسرائيل أن فيدان لم يكن عدوا لإيران” ويقول مسؤولون أمريكيون أن الولايات المتحدة تتجسس على تركيا، ومن جانبها تقوم الاستخبارات التركية بحملة تجسس مضادة وشرسة ضد السي آي إيه.
يقول هؤلاء المسؤولون أنفسهم أن فيدان كان قد أثار مخاوف جمة لدى الأمريكيين حين سرب للإيرانيين معلومات حساسة جمعتها إسرائيل والولايات المتحدة في ٢٠١٠.
وفي ذلك الوقت كان أردوغان يحاول تحسين علاقاته مع طهران، وهي عامل رئيسي في سياسة “تصفير المشاكل مع الجيران” التي قادها داوود أوغلو . لكن المؤكد أن فيدان مرر معلومات استخباراتية لإيران من بينها تقييمات الأمريكيين السرية عن الحكومة الإيرانية.
ليس من المؤكد بالنسبة للأمريكيين إذا كان فيدان قد أراد من مشاركة تلك المعلومات الإضرار بمصالح الولايات المتحدة لكن بناء جسور مع طهران، في تماشي مع سياسة رئيس الوزراء.
مع الربيع العربي، سحب أردوغان “محبته” لإيران، ويبدو أن فيدان فعل الأمر نفسه. في ٢٠١٢ بدأ فيدان في توسيع سيطرة الاستخبارات التركية من خلال السيطرة على الاستخبارات العسكرية التي كانت مهيمنة على السياسة التركية لعقود.
لقد سجن العديد من الجنرالات بتهم التخطيط للإطاحة بحكومة إردوغان. في البنتاغون كان الأمريكيون ينظرون إلى ذلك أنه انقلاب لم يلتفت فيه فيدان إلى وضع الجيش في الدولة التركية.
على الجبهة السورية، بدأ فيدان بعد أغسطس ٢٠١١ في توجيه جهوده لتعزيز قدرات الثوار عن طريق السماح للسلاح والمال والدعم اللوجستي للمتمردين السوريين في شمال البلاد، وعلى الحدود مع بلاده.
يقول محللون سياسيون إن أردوغان يريد إزالة نظام الأسد ليس فقط للتخلص من نظام معاد على الحدود مع بلاده، ولكن أيضا لعرقلة احتمالات قيام دولة كردية في الأراضي الغنية بالنفط شمال شرق سورية وبالقرب من أكراد تركيا والعراق.
يقول زعماء المعارضة السورية بالإضافة للمسؤولين الأمريكيين إن فيدان تصرف كشرطي مرور، حيث رتب دخول شحنات الأسلحة والسماح بدخول قوافل عبر نقاط التفتيش الحدودية على طول الحدود السورية التركية.
بعض المعارضين السوريين يقولون أن الأسلحة التي تدخل عن طريق تركيا تتجاوزهم لتقع في أيدي جماعات مرتبطة بالإخوان المسلمين. حزب العدالة والتنمية التركي الذي يقوده أردوغان دعم الإخوان المسلمين عبر المنطقة في مصر وليبيا وتونس.
القيادات الكردية في سوريا اتهمت أنقرة بدعم المجموعات المتشددة داخل سوريا لكبح جماع الأكراد السوريين المقربين بطبيعة الحال مع ميليشيات حزب العمال الكردستاني في تركيا.
المعارضة التركية تتهم الحكومة بتسهيل دخول جماعات متطرفة إلى سوريا، يتحدث نواب المعارضة في مقاطعة هاتاي الحدودية (أنطاكية) أن السلطات تسمج ينزول طائرات مليئة بالمقاتلين في مطار المدينة، إلا أن المسؤولين الأتراك ينفون ذلك.
محمد علي ايديبوغلو، عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان والنائب عن أنطاكية يقول أنه تتبع قافلة تضم أكثر من ٥٠ حافلة تقل مقاتلين متشددين، يرافقهم عشر سيارات شرطة إلى الحدود السورية. يقول الرجل أن الناخبين في دائرته يرفضون دعم المعارضة السورية.
في اللقاءات مع الأمركيين يقول الأتراك إن التهديد الذي تشكله جبهة النصرة (المقربة من القاعدة) هو تهديد آجل يمكن التعامل معه في وقت لاحق.
ولكن الولايات المتحدة أضافت جبهة النصرة إلى قائمة المنظمات الإرهابية. أحد أهداف تلك الخطوة هو إرسال رسالة إلى أنقرة عن أهمية تقليل تدفع السلاح داخل سوريا.
لقاء أوباما بأردوغان جاء في وقت يتزايد فيه قلق أوباما من سياسات الزعيم التركي. قال أوباما للأتراك أنه يريد علاقات جيدة مع تركيا، لكنه أكد أن “المقاتلين في سوريا ليسوا جميعهم جيدين”.
ولاحقا هذا العام، أغلقت تركيا جزءا من حدودها مع سوريا، وتدفق المقاتلين إلى سوريا قل بشكل ملحوظ حسبما يقول ممثل شركة خدمات في مطار هاتاي الذي يُزعم أنه محطة الطريق الأخيرة للـ”مجاهدين” قبل الوصول إلى سوريا.
في الشهر الماضي، التقى داوود أوغلو بوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الذي أكد له أن تركيا تشعر بالقلق إزاء المتطرفين على حدودها، لكنه أراد أن يحصل على كلمة واضحة باستمرار التزام الأمريكيين تجاه المعارضة السورية.
من جانبه، قال كيري إنهم ما زالوا ملتزمين بدعم المعارضة السورية إلا أنه يجب التأكد من “أننا ندعم الأطراف الصحيحة”.
في سبتمبر أيضا التقى فيدان مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان، ومدير المخابرات الوطنية جيمس كلابر. حتى الآن يرفض الأتراك والأمريكيون الإفصاح عما جرى في هذا اللقاء.
ويقول مسؤول كبير في الاستخبارات الأمريكية إن هاكان فيدان بنى علاقات قوية مع العديدين من نظرائه، في نفس الوقت، ويعترف مسؤول استخباراتي أمريكي: “إننا لا ننظر للعالم من خلال نفس العدسات”.
ترجمة وتحرير موقع “نون بوست” (وول ستريت جورنال)