اعتاد حافظ الأسد، ممارسة لعبة إنماء مراكز القوى في سوريا، وإيصالها إلى الحد الذي يراه هو من القوة والهيمنة على قطاعات من مؤسسات الحكم، ثم معاجلتها بإقصائها المفاجئ أو التدريجي، وهو ما طبقّه على كثيرين من رجالاته منذ أواسط الستينيات وحتى فيما بعد مع شقيقه رفعت الذي وصل الأمر به إلى محاولة الانقلاب على حافظ الأسد نفسه، وانتشرت صورٌ مطبوعة في المناطق التي سكنتها قوات سرايا الدفاع التي أسسها رفعت الأسد، وقد كتب عليها (السيد الرئيس رفعت الأسد) أو (القائد رفعت الأسد) وفي صفقة معروفة، ساهمت فيها دول إقليمية، تم إخراج رفعت الأسد من سوريا إلى المنفى الأوروبي! محمّلاً بما تمكّن من حمله من أموال الخزينة العامة للدولة السورية، ومكاسبه من تجارة الآثار التي تم تهريبها على مدى سنوات من سوريا، بلا رقيب أو حسيب، إضافة إلى عدة مئات من ملايين الدولارت قام العقيد القذافي بدفعها له، بناء على طلب من حافظ الأسد، كما أورد عبدالسلام جلود في شهادته المتلفزة مؤخراً، وقد تم الاتفاق على أن يكون المبلغ على شكل قرض على الدولة السورية، قام الشعب السوري بدفعه من ضرائبه، مقابل خروج رفعت الأسد وترك حافظ الأسد ليستمر في الحكم.
اللواء علي دوبا واللواء علي حيدر واللواء علي أصلان واللواء شفيق فياض واللواء محمد الخولي واللواء ناصيف وآخرون مروا على المشهد الأمني والعسكري في سوريا من أصحاب الرتب الرفيعة تم التخلّص منهم بالتدريج، بعد أن وصلوا إلى حلقة حافظ الأسد الضيقة وسكنوها مؤقتاً، ثم نبذهم منها وسارع إلى إقصائهم، وكانوا يتقبلون هذا بفهم فريد لطبيعة هذا الحكم الفردي المطلق، في الوقت الذي كانت تنمو فيه أسرة حافظ الأسد الصغيرة وتكبر، وصار ابنه باسل الأسد مؤهلاً لخلافة والده، بعد أن انخرط في الجيش السوري وصار مكتبه مرجعاً مهماً في الدولة، بينما بدأ بشنّ حربه على أبناء عمومته من آل الأسد في معاقلهم في اللاذقية، حيث ما كان يعرف وقتها بـ(الشبيحة) قبل أن تنتشر هذه الكلمة بسنوات، وهؤلاء كانوا زعماء مافيات التهريب والمخدرات وتجار الحديد والإسمنت والمواد الممنوعة ( بمفارقة عجيبة) في سوريا، فيزداد فقر البلاد والمواطنين وتزداد ثروة المقربين من الأسد الذي لم يكن يمانع إطلاقاً بأن يتجاوز القريبون منه القوانين ولكن ليس قوانينه هو، فقد حرص على إبقاء صورته فوق كل شبهة، وكذلك فعل من خلال تقديم ابنه باسل كمحارب للفساد وظواهر الشبيحة، ولكن باسل الأسد قتل في (حادث قضاء وقدر لم تعرف أسراره حتى اللحظة) على مدخل مطار دمشق، وفقد حافظ الأسد خليفته، فيروي أقاربه أنه طلب أن ينفرد بجثة باسل الأسد في المستشفى وقضى ساعات طويلة وحده في الغرفة، ثم خرج بعدها بقراره تأهيل بشار الأسد دون أن يضيّع الوقت.
الموت يلاحق دائرة الأسد
ومنذ العام 1994 عام موت ابنه باسل، بدأ حافظ الأسد بالتهاوي، فقد تدهورت صحته بسبب سرطان البروستات الذي سكن جسده، وتعزّزت قوة المحيطين به، ولم يعد قادراً على السيطرة على أركان الحكم، فبالتزامن مع صعود بشار كبطل يحارب الفساد أيضاً، وأوكلت مهمّة الترويج له للسفير الحالي في الأردن بهجت سليمان، والذي كان مديرا للأمن الداخلي في المخابرات السورية، و ضابط أمن سرايا الدفاع ومدير مكتب رفعت الأسد سابقاً، الذي قام بتقديم بشار الأسد كواحد من المثقفين السوريين، مقرّباً منه عدداً من الفنانين والكتاب، دافعاً بصورته إلى الأمام، وقائداً لسيل من التنظيرات التي واكبت صناعة اسمه، كنظرية (ضرورة الفساد) التي أسس لها الدكتور عماد فوزي الشعيبي والتي كان حرص وقتها على التأكيد من خلالها أنه لا بدّ من الفساد كظاهرة عامة وشاملة، كي تتكامل الظروف المواتية لظهور صاحب الكاريزما الذي بإمكانه أن يحارب هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر السوريين!
وازداد نفوذ بهجت سليمان كمتعهّد لمشروع بشار الأسد، وأصبح يعيّن الوزراء والمسؤولين، حامياً ظهره بابن الرئيس، فيما اصطدمت مراكز القوى ببعضها البعض، في تنافر بين المصالح، ما بين سلالة عبدالحليم خدام التي ذهبت إلى التجارة وتأسيس الشركات وجلب الماركات العالمية إلى سوريا، فيما اتجه والدهم إلى التخلي بالتدريج عن ملف لبنان وأمنه والذي تكّفل به طويلا، ليسلّمه لبشار، ويتفرّغ لمناقشة المعارضين السوريين وبعض الأجنحة التي كانت لا تزال تحلم بالإصلاح في حزب البعث، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كان أبناء العماد مصطفى طلاس الذين أسسوا امبارطوريتهم التجارية بالتوازي مع بقية السلالات المتنفّذة من ورثة القوة التي بدأت تتناثر من حول الأسد.
وبدأ الدرس الأخطر، الذي تلقاه بشار الأسد من والده تلك الفترة، والذي مثّله انعدام ثقته بكل مساعديه باستثناء العائلة الصغيرة التي استأمنها حافظ الأسد على اسمه حين تقدّم طالباً مصاهرتها، آل مخلوف، عائلة زوجته أنيسة مخلوف، والذين كانوا حتى وقت قريب أقل الناس استمتاعاً بالسلطة بمعناه الفاحش في سوريا، واكتفى محمد مخلوف بإدارة البنك العقاري الذي ضمن له تنمية سرطانية لثروته، بفضل عمولات القروض العملاقة التي كان يمنحها من المال العام والتي استمرّ في تقاضيها حتى بعد أن ترك منصبه، إضافة إلى العديد من الصفقات السوداء، ومع إضعاف الشخصيات التقليدية التي كانت أعمدة حكم حافظ الأسد بدأ إنتاج رموزٍ جديدة للمرحلة التي بدأت بموت حافظ الأسد في العام 2000.
وبتطوّر طبيعي لنظام مبني على انعدام الثقة في العمل المؤسساتي، حتى في تلك الأمنية والعسكرية منها، فقد ارتدّ الولاء لينحصر، في انكماش مضطردٍ للنظام القومي الاشتراكي إلى الحلقة العائلية، وأصبحت الدائرة أضيق شيئاً فشيئاً، حتى خالطتها شؤون الأسرة وشجونها، فصار آصف شوكت مركز ثقلٍ في سوريا الأمنية، بفضل زواجه من بشرى الأسد شقيقة بشار، واستمر ماهر الأسد الشقيق الأصغر لبشار بالتمترس خلف غيابه الإعلامي وحضوره العسكري والأمني الذي أخذ يكبر مع استمرار الموافقة الدولية والإقليمية على هذا الشكل من الحكم في سوريا.
وبعد عملية الخلية الأمنة واغتيال آصف شوكت ورفاقه من كبار المسؤولين الأمنيين في دمشق، انحسرت الدائرة الضيقة التي تحيط ببشار الأسد لتقتصر على عدد محدود جداً ممن يعتمد عليهم في محاولة تلافي الانهيار الذي يتعرّض له نظام الأسد المتماسك ذي البنية الصلبة، والتي أخذت في الذوبان حتى مع تمسّكه بالمزيد من القصف والعنف والاعتقال وارتكاب المجازر..
ماهر الأسد.. ظلال العم والشقيق الأكبر
لم يعرف عن ماهر الأسد الكثير، سوى اهتمامه بالتمثّل بشخصيتين هما الأسوأ في ذاكرة السوريين، رفعت الأسد وباسل الأسد، الأول بسبب الجرائم الكبرى التي ارتبكها في المدن السورية ومشاركته المباشرة في أحداث حماة والمجازر التي وقعت في سوريا أواخر السبيعينات والثمانينات والثاني باسل، الذي كان ظهوره استفزازاً للسوريين الذين يرون معاناة أبنائهم في شتى صعوبات الحياة، وينظرون إلى ابن حافظ الأسد وهو يمارس رياضة الفروسية ويشتري اللوحات من الفنانين في المعارض بمبالغ كبيرة.
ويشغل المهندس الميكانيكي ماهر الأسد منصب قائد الفرقة الرابعة الخاصة، والتي هي الشكل المتطور لسرايا الدفاع التي أسسها عمه رفعت، بينما تمتد أذرعه لتطال عدداً كبيرا ًوحساساً من مؤسسات الدولة، ونواحي الحياة السورية، فهو المسؤول عن اختيار عدد كبير من رجال الأعمال الصغار، ليكونوا واجهات مالية لأنشطته التجارية المختلفة، وأكبر هؤلاء هو محمد حمشو، الذي أقام صرحاً مالياً ضخماً معتمداً على التجارة بالاتصالات والبناء والقطاع الأكثر خطورة والذي استثمره نظام الأسد جيداً طيلة حكمه، (الدراما السورية) من خلال شركة سوريا الدولية والتي قدّمت أعمالاً ضخمة قامت بتوجيه الرأي العام حسب الاتجاه الذي يضعه الخبراء الأمنيون في المكاتب المعتمة في مراكز اتخاذ القرار، وكذلك قناة الدنيا التي حاولت لعب دور الإعلام الخاص والمستقل والمختلف عن الإعلام الرسمي، وكان لها وما يزال فظائع ارتكبت بحق الشعب السوري، ليس آخرها الحوار الذي أجرته إحدى مذيعاتها مع سيدة تحتضر ثم مع أطفالها بعد أن ماتت أثناء اقتحام الجيش لإحدى ضواحي دمشق.
ولدى ماهر الأسد اهتمامات خاصة ومختلفة في طبيعة المؤسسات التي يضع عينه عليها لتحقيق هدف حفظ النظام، فقد اتجه مبكراً نحو قطاع الشباب، وقام بتعيين صديقه المهندس عمار الساعاتي رئيساً لاتحاد الطلبة السوريين والذي يتولى الإشراف المباشر على قطاع الشباب والطلاب والجامعات في سوريا، أمنياً وعسكرياً، ولديه كتائبه الخاصة التي أسسها لتمارس القمع والقتل والاعتقال منذ بدء أحداث الثورة السورية في آذار 2011.
ويعتبر ماهر الأسد المسؤول عن عدد كبير من المجازر التي وقعت بأمر مباشر منه، وقامت بتنفيذها الفرقة الرابعة التي يقودها، فقد وصفته قناة CNN بأنه (أمين سرّ أسرة الأسد الأب)، على حد وصف جوشوا لانديس، الباحث في جامعة أوكلاهوما، والرجل المكلف بإبقاء العائلة في الحكم، وهو دور يبدو أن الشقيق الأصغر للرئيس السوري يستمتع بالقيام به، إذ ينقل أحد الذين قابلوه شخصيا، بأنه ظهر خلال الاجتماع ببذلته السوداء ونظاراته الشمسية وشعره المصفف إلى الخلف، وكأنه أحد أعضاء المافيا، أما تيودور قطوف، السفير الأمريكي السابق في سوريا، فيقول إن ماهر الأسد (يعتبر نفسه مصدر القوة لآل الأسد)، وتولى ماهر عبر رجال من عائلات كبيرة، بعض أسمائها معروفة للسوريين عمليات مالية كبرى، تمكن من خلالها من ابتزاز رجال أعمال سوريين وعرب، عبر دعوتهم للعمل في سوريا، وتكليف أشخاص من قبله بالإشراف المباشر على أعمالهم والأراضي التي قاموا بشرائها، والمصانع التي بنوها وكلّفـــت مئات المليارات، ولكــــن معظمها توقف ولم يسمح له ماهر بالاستمرار، في ضغــوط كبيرة مارسها على أصحاب رؤوس الأموال تلك.
وقد نشرت عدة صحف إسرائيلية أنباء تتحدث عن لقاءات جمعت ماهر الأسد مع قيادات مخابراتية إسرائيلية تمت في الأراضي الأردنية، في السنوات الأخيرة، ومنها ما كان له الدور الكبير في إعادة إطلاق ما سمّي بالمفواضات غير المباشرة ما بين نظام الأسد والإسرائيليين، ولا يعرف مصير العلاقة الحساسة بين ماهر الأسد وشقيقه، التي ينعكس توترها وتراخيها من خلال مؤيدي كل منهما، فكثيراً ما سمعت في المناطق التي يسكن فيها ضباط وعسكريون يتبعون لماهر الأسد عبارات تنمّ عن الضيق بالفشل الذي وصل إليه بشار في معالجة الأزمة التي تكاد تطيح بالنظام، ونسبت أجهزة استخبارات دولية عدّة إلى مسؤول كبير في النظام إصداره لقرار استخدام السلاح الكيميائي في مناطق عدّة بسوريا، وأشارت مصادر صحفية مختلفة إلى أن المسؤول الكبير لم يكن سوى ماهر الأسد وذلك لانسجام هذا القرار مع تاريخه وطبيعة شخصيته.
رامي مخلوف.. والأذرع الاخطبوطية
لم يكن رامي مخلوف المولود في العام 1969 معروفاً لدى كثير من السوريين، قبل أن يصل بشار الأسد إلى منصب رئاسة الجمهورية، وكان ظلاً خفياً اشتهر بملف واحد هو (ملف الخليوي) الذي احتكر عقوده في سوريا، ومنع بقوة الدولة أي منافس من الاقتراب منه، بحجج مختلفة، أهمّها أن الموضوع أمني وأن الاتصالات ملف يخص الدولة، والدولة هنا هي العائلة، فرامي ابن محمد مخلوف خال بشار الأسد، وهو الذي بدأ يحقق للرئيس الشاب طموحاته المالية، التي اختلف بها بجدراة عن والده حافظ الأسد، الذي أحب أن ينجح فقط بترسيخ سلطته ونقلها إلى أحد أبنائه، ولم يكن معنياً بالثروات، على الأقل لم يعرف عنه هذا، وما ظهر فيما بعد أن بشار الأسد استعمل رامي مخلوف كذراع مالية له، بحيث كانت معظم اجتماعات الرئيس مع ضيوفه من الاقتصاديين وممثلي الدول تنتهي بقوله: سأرتب لكم لقاء مع رامي! ويقوم بإحالتهم إلى ابن خاله، ومستودع أسراره المالية، وكان يطيب لرئيس النظام القول في مقابلاته الصحفية، حين يطرح عليه السؤال عن رامي مخلوف وتضخم ثروته، بأن رامي مواطن سوري وله الحق في العمل في التجارة، مثله مثل بقية السوريين!
أسس رامي شركة الشام القابضة، ثم شركة سيرياتيل، لتكون غطاءه القانوني، وتفرعت عنها عدّة شركات تولت ترتيب الاستثمارات الكبيرة في سوريا، وقد صنّفته الفايننشال تايمز، كمالك لأكثر من( 60٪) من الكتلة النقدية في سوريا، وتوسعت استثماراته التجارية لتشمل قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية والنفط والغاز والبناء والخدمات المصرفية وشركات الطيران والتجزئة، والأسواق الحرّة، وفي وسائل الإعلام مثل صحيفة الوطن ، تلفزيون نينار، وفي شركات الدعاية والإعلان مثل شركة بروميديا، وفي قطاع التعليم كمدرسة الشويفات الدولية، وفي قطاع الصناعة، إذ يملك شركة (ميدل إيست إيلتيل)، وعددا كبيرا من الشركات العامة مثل شركة تى بى راماك، ويحتكر تجارة التبغ والسجائر واستيرادها في عموم سوريا.
وكان اسم رامي مخلوف أول اسم طالب متظاهرو درعا بإسقاطه، قبل المطالبة بإسقاط بشار الأسد، وذلك لأن درعا كانت من أكثر المنافذ الحدودية تضرراً من هيمنة رامي مخلوف على المعابر، بحيث قطعت أرزاق المخلّصين الجمركيين والمهربين الصغار والمستفيدين من التبادل التجاري البسيط ما بين المنطقة الجنوبية في سوريا والأردن والخليج، وقد استثمر رامي مخلوف المليارات في بنوك العالم، وابتعد منذ البداية عن أوروبا الغربية، تجنباً للمساءلة عن مصدر أمواله، فكانت محاولته لإجبار شركة مرسيدس على سحب توكيلها لأسرة سنقر التي استمرت وكيلة للشركة منذ أكثر من خمسين سنة، وقد تدّخل حينها المستشار الألماني غيرهار شرويدر للتوسط لدى بشار الأسد في زيارته لألمانيا كي يفرج رامي مخلوف عن شحنة تحتوي على مئة سيارة مرسيدس مستوردة لصالح القصر الجمهوري يقوم رامي مخلوف بمنعها من المرور من مرفأ طرطوس لشهور عدّة حتى أن الصدأ بدأ يهدّدها بالتلف، مع أنها كانت في عقد موقع ما بين الوكلاء الرسميين وممثلي القصر الجمهوري، ومنذ ذلك الحين اتجه رامي مخلوف للعمل شرقاً مع البنوك الروسية والأكرانية ودول شرق أوروبا، وساعد على إبراز شخصيات مجهولة ظهرت فجأة كرجال أعمال وتجار انتشروا في المنطقة العربية والعالم، في عمليات غسل أموال عرف بعضها والقسط الأكبر ما يزال طي الكتمان.
وورد في تقرير لوزارة الخزانة الأميركية أن (مخلوف تلاعب بالنظام القضائي السوري واستخدم مسؤولي الاستخبارات السورية لترهيب منافسيه في الأعمال، ووظف هذه التقنيات عند محاولة الحصول على تراخيص حصرية لتمثيل شركات أجنبية في سوريا والحصول على منح العقود) وفي 10 مايو من العام 2011 وضع الاتحاد الأوروبي عقوبات على مخلوف بتهمة بتمويل النظام وأعمال العنف التي يمارسها الشبيحة، ولم يفت رامي مخلوف في بداية الثورة السورية أن يعلن اعتزاله العمل التجاري، والتفرغ للعمل الخيري، في محاولة لخداع الرأي العام العالمي أولاً، ثم ما لبث أن أطلق تصريحاته المتعلقة بأمن إسرائيل والتي أراد أن يطل بها من خلال صحيفة النيويورك تايمز في 12 من مايو 2011: قائلاً: “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”، وأكّد على أنه “ليس بإمكان أحد أن يضمن ماذا سيحصل إذا حدث شيء للنظام لا سمح الله.. إن قرار الحكومة الآن هو القتال، سنقاتل حتى النهاية ولن نغادر”!
قاسم سليماني.. والشراب اللذيذ
لم يكن حافظ الأسد يسمح لأي من حلفائه بتجاوز خطوطه الحمراء، وكان على رأس قائمة تلك المحرمات، التدخل المنفرد في شأن داخلي سوري، فكانت طاولته مرتبة بحكمة شر تسمح له بتقليب ولاءاته وتحالفاته بإشعار الحلفاء بخطر انهيار التحالف في أية لحظة، وهو ما لم يتمكن بشار ابنه من تطبيقه بعد وراثته الحكم، فحجم التحديات التي واجهت نظامه، الذي بدأ يتغيّر شيئاً فشيئاً ليصبح مختلفاً عن نظام والده، كان كبيراً جداً، تحديات داخلية، وتحديات خارجية، ومتغيرات في المنطقة والعالم، لم يجد الرئيس الشاب، قليل الخبرة، بدّاً من التموضع فيها بصورة تجعله كائناً من كائنات الاختلاط الإقليمي وليس على مسافة منه، فتورّط في المحور الإيراني، وكان لحسن نصرالله الدور الأبرز في إغراق بشار الأسد في الحضن الإيراني أكثر فأكثر، بعد تقدم إيران ووكلائها في عراق ما بعد صدام حسين، وبعد اغتيال الحريري في العام 2005 الذي لم يبق للأسد من حليف سوى حزب الله وبعض الأطراف الأضعف في لبنان، ثم جاء القرار بالتخلّص من اللواء غازي كنعان الذي كان يهدّد المشروع الإيراني في سوريا بفضل خبراته في لبنان، وصراعه الطويل مع مختلف الجهات فيه، ومن ضمنها الإيرانيين أنفسهم، ومن يمثلهم هناك، فأذيع خبر انتحار غازي كنعان في مكتبه، وفقاً للدرس السوري الذي أصبح معتاداً، وبدأت دمشق تشهد حضوراً إيرانياً متزايدا، سواء في العمل التجاري والاستثمارات التي كان آخرها استحداث مصنع للسيارات الإيرانية، وإطلاق تسمية (شام) على خط إنتاجه، في تغطية على العمل الأكثر خطورة، الاستثمار في الإنسان السوري، فانتشرت في سوريا مجموعات التشييع، التي لم يكن الهدف الرئيس لأعمالها نشر الفكر الشيعي، بقدر ما كانت تبحث عن أتباع في أكثر المناطق السورية غنى من حيث الموارد وأكثرها فقراً في كل شؤون الحياة ونواحيها، المنطقة الشرقية السورية، المشرف على هذا المشروع هو قاسم سليماني الجنرال الإيراني ذائع الصيت، الذي ولد عام 1957 في مدينة قُم، والتحق بفيلق الحرس الثوري الإيراني أوائل عام 1980، ليشارك في الحرب العراقية الإيرانية، حيث قاد فيلق (41 ثأر الله) في الحرب ضد الجيش العراقي، وفي 1998 تم تعيينه قائدا لقوة قدس في الحرس الثوري خلفا لأحمد وحيدي، ثم وبأمر مباشر من المرشد علي خامنئي، كلّف سليماني بمسؤولية السياسة الخارجية الإيرانية في كل من (لبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين)، وذكرت مصادر استخباراتية أميركية أن سليماني هو من قام بتدريب (المقاتلين العرب) في البوسنة بهدف إرسالهم عبر الحدود الإيرانية الأفغانية في عامي 1996 و1997، ويتهم سليماني بالتدخل في العراق وزعزعة الأمن فيه، كما وصفته صحيفة واشنطن بوست الأميركية بأنه من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، بينما قالت صحيفة الغارديان البريطانية إن (البغداديين يعتقدون أنه الذي يحكم العراق سراً، وأنه ضحى بحياة العديد من العراقيين من أجل مصالح إيران في حربها ضد الولايات المتحدة).
ويحكم سليماني دمشق اليوم بإشرافه المباشر على أعمال الحرس الثوري الإيراني في سوريا، ولواء أبي الفضل العباس القادم من العراق شرقاً، وميليشيات حزب الله المتقدمة من جهة الغرب، وبعلاقاته الغامضة مع الجهاديين العرب من أيام البوسنة والهرسك وأفغانستان، ووجودهم الطاغي شمال سوريا مؤخراً، وكانت صحيفة نيويوركر الأمريكية قد نشرت تحقيقاً مطولاً في 24 أيلول الماضي 2013 أجراه الصحفي ديكستر فيلكينز حول الجنرال قاسم سليماني، وصفه بأنه القائد الفعلي في الظل للحرب الدائرة في سوريا، حيث يتخذ مركزاً لقيادة عملياته التي ينفّذها لخوض القتال في سوريا دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد، وكان من مساعديه في دمشق حسن الشاطري الذي قُتل مؤخراً في عملية للمعارضة السورية المسلحة على الطريق الذي يربط العاصمة السورية دمشق بالعاصمة اللبنانية بيروت، وقد أصدر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بيان نعي قال فيه “في النهاية، لقد شرب الشاطري العصير اللذيذ للاستشهاد”.
بينما تقول نيويوركر أن “سليماني سعى خلال فترة تكليفه بالمهمات في المنطقة، إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط ليكون لصالح إيران، وعمل كصانع قرار سياسي وقوة عسكرية: يغتال الخصوم، يسلّح الحلفاء، ولأكثر من عقد من الزمن، يقود شبكة مجموعات عسكرية قتلت مئات الأميركيين في العراق، وقال سليماني لأحد السياسيين العراقين “الجيش السوري لا ينفع!”. وكان يميل إلى (الباسيج)، الميليشيا الإيرانية التي سحق عناصرها التمردات الشعبية في جميع أنحاء إيران.
وفي أغسطس من العام 2012، ألقى عناصر من الجيش السوري الحر القبض على 48 إيرانياً داخل سوريا. واحتج القادة الإيرانيون زاعمين أنهم حجاج جاؤوا ليصلوا في مقام ديني شيعي، لكن الثوار ووكالات الاستخبارات الغربية قالت إنهم إعضاء في (فيلق القدس) فيلق سليماني، وقد كانوا مهمين لدرجة أن بشار الأسد وافق على إطلاق سراح أكثر من ألفين من السوريين المعتقلين في سجونه مقابل إطلاق الإيرانيين، وفي 5 حزيران ـ يونيو من هذا العام 2013 قرّر قاسم سليماني خوض الحرب على مدينة القصير السورية. وقال ماغواير عميل الاستخبارات الأميركية السابق في العراق، الذي لا يزال ناشطاً في المنطقة “العملية بأكملها كانت من تنظيم سليماني. لقد كانت نصراً عظيماً له” ويعد سليماني من أصحاب العقلية ذاتها التي تعاملت مع الربيع العربي بقسوة شديدة وعنف، ففي تموزـ يوليو من العام 1999، وأثناء خروج التظاهرات الطلابية المعارضة للنظام الإيراني، وقّع سليماني مع غيره من قادة الحرس الثوري، رسالة حذّرت الرئيس الإصلاحي الدكتور محمد خاتمي من أنه في حال لم يقمع الثورة، فإن الجيش الإيراني سيتدخل، وجاء في رسالة القادة العسكريين (لقد نفد صبرنا)، الجنرال الذي يحكم سوريا اليوم هو قاسم سليماني الذي لم يتردد مائير داغان، الرئيس السابق للموساد عند سماعه باسمه بالقول (آه… إنه صديق عزيز).
علي مملوك.. العقل المبتكر
اللواء علي مملوك، العقل المخابراتي المختلف عن بقية مجايليه وزملائه من كبار ضباط الأمن السوريين، فقد كان أوّل من سلّح المخابرات السورية بالمراكز البحثية وموّلها وأنفق عليها، كي تقدم له المزيد من المعلومات، وعرفت عنه نظرية تقول: “إن المجتمعات المعقدة في سوريا لا تتقبل أن يطرق بابها رجالنا من عناصر المخابرات السورية لجمع المعلومات، ولكنها تقبل الصحفيين والإحصائيين والباحثين، وعلينا أن نجهّز جيشاً من هؤلاء”. ولد علي مملوك في العام 1945 وفي 20 تموز ـ يوليو 2002 ، نشرت المعارضة السورية وثيقة تحوي قائمة تتضمن 76 اسماً من أسماء ضباط المخابرات السورية مرفقة بموجز لأخطر الجرائم التي تورطوا بارتكابها، ضد حقوق الإنسان في سورية ولبنان، وكان علي مملوك من أبرز الأسماء في تلك القائمة، والذي احتل على مدى أكثر من ربع قرن مهمات حساسة جدا في فرع المخابرات الجوية.
يتحدر اللواء علي مملوك من لواء إسكندرونة، في تركيا حالياً، وكانت أسرة المملوك من أوائل الأسر التي هجرت مسكنها إلى حلب واللاذقية ودمشق، وقاد علي مملوك بعد سنوات، أكبر عملية قمعية أسندت للمخابرات الجوية ضد المعارضة السياسية ضد (حزب التحرير الإسلامي) مطلع التسعينات من القرن الماضي، والتي أسفرت عن تفكيك البنية التنظيمية لهذا الحزب واعتقال حوالي المئتين من قياداته وكوادره المؤهلة تأهيلا علميا عاليا (أطباء، مهندسون، محامون .. إلخ). وقبل ذلك كان العقل المدبّر لعملية الإيقاع بالضباط المشكوك في ولاءاتهم في العام 1986، فتم اعتقال عدد كبير من ضباط الجيش السوري وسجنهم ومحاكمتهم، بحجة البحث عن خيوط مؤامرة انقلابية، إضافة إلى عملية مطاردة أتباع الجنرال ميشيل عون في (بيروت الشرقية) التي كانت تحت سيطرة الجيش السوري. ومن خلال رئاسة اللواء علي مملوك لفرع التحقيق في المخابرات الجوية عرف عنه ممارسة التعذيب بيديه بشكل مباشر، وثبتت عليه اتهامات بتنفيذ ممارسات غاية في الوحشية، مثل اختبار الأسلحة البيولوجية والكيميائية على عشرات المعتقلين السياسيين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين، وقام بابتكار وسائل تعذيب خاصة به، اشتهرت في المنطقة العربية ووثقتها مراكز حقوق الإنسان التي رصدت شهادات الضحايا من المعتقلين المفرج عنهم، والذين كانوا داخل معتقل (خان أبو الشامات) قرب دمشق. وكان علي مملوك صديقاً خاصاً لأحد أشهر طياري سلاح الجو السوري، الطيار بسام العدل الذي هرب بطائرته من طراز ميغ 23 إلى إسرائيل في العام 1989.
انكماش الدائرة وتهافت الراغبين
(دعني أقتل مليونا منهم وأذهب بدلاً عنك إلى لاهاي، يا سيادة الرئيس)..هذه هي أكثر العبارات شهرةً في عصر الثورة السورية، وقد روى السفير السوري في بغداد نواف الفارس للإعلام أن اللواء جميل حسن رئيس فرع إدارة المخابرات الجوية قالها لبشار الأسد مع بداية انطلاق المظاهرات السلمية في المدن السورية في مارس 2011. ويشغل منصب مدير المخابرات الجوية السورية، والذي أظهر، طيلة الوقت، أكبر قدر من الشراسة في التعامل مع ملف الأزمة، ولم يتسامح مع أيٍ من معتقليه، ولم تهتز شعرة في بدنه وهو يشاهد مدينته حمص تتحول إلى حطام، تحت قصف مدافع الأسد، يفعل جميل حسن هذا كلّه في سبيل الدخول إلى الدائرة الضيقة، ومثله فعل وليد المعلم وبثينة شعبان وآخرون..
غير أن الدائرة أغلقت هذه المرة، فلا يعتبر أي مسؤول آخر في جسم النظام السوري ذا شأن مطلقاً، والجميع ينفّذ السياسات التي ترسمها الحلقة الأضيق آنفة الذكر، ويعدّ القرار المتخذ على يد دائرة الموت التي تحيط ببشار الأسد قراراً نافذاً، جميع أعضائها يشترك في التخطيط له، وتطبيق خطواته التي كانت قد أعدّت لها الدراسات المسبقة، في الفترة التي سبقت انطلاق الثورة السورية، ناهيك عن التحضير المستمر للمجتمع السوري للعيش وفقاً لقواعد الاستبداد التي أخضعت كل شيء، ولكن الدائرة تضيق، حتى لا تعدّ أكثر من أصابع اليد الواحدة، ليصبح النظام مجرد جماعة صغيرة أو عصبة، يدعمها التكوين المنظم الذي سبقها ولا يعزّز قوتها اليوم سوى الغطاء الذي تتقاطع عنده خطوطها جميعا.. وهي علامة استفهام السؤال السوري المفتوح.. إسرائيل.
إبراهيم الجبين
العرب