في أيام الفوضى بعد هجمات 11 سبتمبر، طار ريان كروكر، مسؤول كبير في وزارة الخارجية (الأمريكية)، سرا إلى جنيف للقاء مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين. "سافرت يوم الجمعة وعدت يوم الأحد، لذلك لا أحد في المكتب يعرف أين ذهبت"، وأضاف: "كان علينا أن نظل مستيقظين طوال الليل في تلك الاجتماعات".
وبدا واضحا بالنسبة للدبلوماسي الأمريكي "كروكر" أن الإيرانيين كانوا يتواصلون مع سليماني، الذي يشار إليه باسم "حاجي قاسم"، وأنهم كانوا حريصين على مساعدة الولايات المتحدة في تدمير عدوهم المشترك: حركة طالبان.
ورغم أن الولايات المتحدة وإيران قطعا العلاقات الدبلوماسية في عام 1980، بعد احتجاز الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين في طهران، فإن "كروكر" لم يفاجأ بمرونة سليماني في ملف طالبان والحرب على أفغانستان. "لا يمكن أن تعيش ثماني سنوات من الحرب الوحشية دون أن تكون واقعيا جدا".
وكان سليماني يمرر أحيانا رسائل إلى كروكر، "لكنه تجنب كتابة أي شيء"، كما اعترف كروكر. وأضاف: "لم يترك أثرا للورق للأمريكيين".
بدأ التعاون بين إيران والولايات المتحدة خلال المرحلة الأولى من الحرب على أفغانستان. عند نقطة معينة، سلم المفاوضون كروكر خارطة مفصلة عن قوات طالبان. "إليك نصائحنا: أضربهم هنا أولا، ثم اضربهم أكثر هنا. وهذا هو المنطق"، ثم تساءل كروكر مذهولا: "هل يمكنني تدوين الملاحظات؟"، أجاب المفاوضون (الإيرانيون): "يمكنك أن تحتفظ بالخريطة".
وتدفق المعلومات سار في كلا الاتجاهين. في إحدى المناسبات، قال كروكر إنه أعطى نظراءه الإيرانيين معلومات عن مكان وجود المتعاونين مع القاعدة شرق مدينة مشهد، اعتقله الإيرانيون وأحضره إلى قادة أفغانستان الجدد، الذين سلموه (كما يعتقد كروكر) إلى الولايات المتحدة. وقال المفاوض الإيراني لكروكر: "حاجي قاسم مسرور بتعاوننا".
النوايا الحسنة لم تدم، ففي يناير 2002، تم إبقاظ كروكر، الذي كان في ذلك الوقت نائب رئيس السفارة الأميركية في كابول، ليلا من قبل مساعديه، ليخبروه أن الرئيس جورج دبليو بوش، صنف إيران في خطابه عن حالة الاتحاد ضمن "محور الشر".
مثل العديد من كبار الدبلوماسيين، أُخذ كروكر على حين غرة. عندما التقى المفاوض (الإيراني) في اليوم التالي في مجمع الأمم المتحدة في كابول، وكان غاضبا: "أنت حطمتني بالكامل"، تذكر كروكر قوله. وأضاف المفاوض: "سليماني في حالة من الغضب العارم ويشعر بالخطر".
أبلغ المفاوض (الإيراني) كروكر أن سليماني قد يفكر في إعادة تقييم كامل للولايات المتحدة، بما تحمل هذه الخطوة من مخاطر سياسية كبرى، قائلا (سليماني): "ربما حان الوقت لإعادة النظر في علاقتنا مع الأمريكيين".
وقد عجل خطاب محور الشر بإنهاء الاجتماعات. وتم حشر الإصلاحيين داخل الحكومة (الإيرانية)، والذي كان يدعو للتقارب مع الولايات المتحدة، في موقف دفاعي. وهز كروكر رأسه، متذكرا ذلك الوقت، معترفا: "كنا قريبين جدا"، مضيفا: "كلمة واحدة (محور الشر) غيرت التاريخ".
قبل انهيار الاجتماعات، تحدث كروكر مع المفاوضين حول احتمال شن حرب على العراق، قائلا: "لا أعرف ما سيحدث، ولكن لدي بعض المسؤولية عن العراق، ويمكني قراءة الإشارات، وأعتقد أننا في طريقنا للحرب". رأى فيها فرصة هائلة، وذلك لأن الإيرانيين يحتقرون صدام، وعلى هذا توقع كروكر أن يكون الإيرانيون على استعداد للعمل مع الولايات المتحدة.
واستطرد كروكر: "لكن كنت أفكر، إذا كنا في طريقنا للقيام بذلك (شن الحرب)، دعونا نرى ما إذا كنا
نستطيع أن نقلب العدو إلى صديق، على الأقل من الناحية التكتيكية، ثم دعونا نرى إلى أين يمكننا أن نأخذهم". وأشار المفاوض إلى أن الإيرانيين على استعداد للحديث، وأن العراق، مثل أفغانستان، كانت جزءا من مهام سليماني: "إنه رجل واحد يدير العرضين".
بعد بدء الغزو في مارس 2003، كان المسؤولون الإيرانيون حريصين على إبلاغ الأميركيين بأنهم يريدون السلام. كثير منهم تابع عملية الإطاحة بالأنظمة في أفغانستان والعراق، واقتنعوا بأنهم الهدف المقبل". "كانوا خائفين"، كما صرح "ماغواير"، ضابط وكالة المخابرات المركزية السابق في بغداد.
وأضاف: "إنهم كانوا يرسلون الوفود عبر الحدود لضباط النخبة لدينا، قائلين: "نحن لا نريد أي مشكلة معكم"، "ولدينا اليد العليا هناك (العراق)". وفي تلك السنة نفسها، أعلن مسؤولون أميركيون أن إيران أعادت تصميم خطط لتطوير السلاح النووي والمضي قدما ببطء وبشكل سري، تحسبا لأي هجوم غربي.
بعد انهيار نظام صدام حسين، تم ارسال كروكر إلى بغداد لتشكيل حكومة وليدة. وقد أدرك (كروكر) أن العديد من الساسة العراقيين كانوا يسافرون إلى طهران لإجراء مشاورات، وهنا اقتنص الفرصة للتفاوض غير المباشر مع سليماني
في فصل الصيف، مرر كروكر لسليماني أسماء مرشحين شيعة محتملين، وكل منهما اختار واحدا. لم يعرض كروكر حق النقض، ولكن تخلى عن المرشحين الذين اعترض عليهم سليماني. "وكان تشكيل مجلس الحكم العراقي في جوهره حصيلة مفاوضات بين طهران وواشنطن"، كما قال كروكر.
وكان هذا التشاور والتنسيق هو ذروة التعاون الإيراني الأمريكي. "وبعد أن شكلا مجلس الحكم، انهار كل شيء"، أضاف كروكر. ومع تعثر الاحتلال الأمريكي، بدأ سليماني حملة شرسة من التخريب، حيث يعتقد العديد من الأميركيين والعراقيين الذين قابلتهم أن تغيير الإستراتيجية كان نتيجة لانتهازية طهران: أصبح الإيرانيون عدوانيين عندما تراجع الخوف من الغزو الأميركي.
أرسل سليماني، منذ سنوات، ناشطين إلى العراق لزراعة الميليشيات الشيعية، لذلك، عندما سقط صدام، كان لديه بالفعل قوة مقاتلة جاهزة: لواء بدر، الجناح المسلح لحزب سياسي شيعي يسمى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وقد شاركت ميليشيات بدر في القتال إلى جانب القوات الإيرانية في الحرب العراقية الإيرانية.
لواء بدر أمضى الكثير من وقته في تنفيذ عمليات قتل انتقامية ضد البعثيين، وأمسك نيرانه ضد الأمريكيين. لكن الميليشيات المدعومة من إيران، ممثلة في جيش المهدي، التي يرأسها رجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر، بدأت مواجهة الأميركيين في وقت مبكر.
وجد سليماني الصدر بأنه يصعب السيطرة عليه ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته، لذلك بدأ "فيلق القدس" تنظيم ميليشيات أخرى كانت على استعداد لمهاجمة الأمريكيين. وتم تدريب أفرادها المقاتلين في إيران، وفي بعض الأحيان تلقوا مساعدة من قبل رفاقهم في حزب الله.
وأظهر سليماني سيطرة شاملة أحيانا على بعض الميليشيات العراقية.
في مرة، أبلغني مسؤول عراقي رفيع المستوى، أنه اتهم علنا لقائد الأعلى في إيران بتصعيد العنف في العراق، وبعد عودته بغداد، تلقى رسائل من قائدي ميليشيات شيعية عراقية، كل يطرح السؤال نفسه: هل تريد أن تموت؟
في عام 2004، بدأ فيلق القدس بإغراق العراق بقنابل تزرع على الطريق لاستهداف الأمريكيين، ويشار إلى أنها متفجرات خارقة للدروع. وقتلت كثيرا من القوات الأمريكية، بما يقرب من عشرين في المائة من الوفيات الناجمة عن القتال.
حملة سليماني ضد الولايات المتحدة تخطت الانقسام بين السنة والشيعة، والذي كان دائما على استعداد لوضعه جانبا لغرض أكبر. وقال لي مسؤولون عراقيون وغربيون إنه في وقت مبكر من الحرب، وشجعت سليماني رئيس مخابرات نظام الأسد لتسهيل حركة المقاتلين السنة عبر سوريا لمحاربة الأمريكيين. وفي كثير من الحالات، أُتيح أيضا لتنظيم القاعدة بعض الحرية في إيران.
قال لي كروكر إنه في مايو 2003، تلقى الأميركيون معلومات استخبارية أن مقاتلي القاعدة في إيران كانوا يستعدون لشن هجوم على أهداف غربية في المملكة العربية السعودية. وأثار هذا انزعاج كروكر: "كانوا هناك، تحت حماية الإيرانيين، يخططون لعمليات". وطار سريعا إلى جنيف ومرَر تحذيرا للإيرانيين، ولكن دون جدوى، فجر مسلحون ثلاثة مجمعات سكنية في الرياض، مما أسفر عن مقتل خمسة وثلاثين شخصا، بينهم تسعة أمريكيين.
كما اتضح فيما بعد، فإن إستراتيجية التحريض الإيرانية للمتطرفين السنة أتت بنتائج عكسية بشكل مرعب: بعد وقت قصير من الاحتلال، بدأ نفس المتطرفين بمهاجمة المدنيين الشيعة والحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة. وكان هذا إيذانا بحرب أهلية قادمة. "مرحبا بكم في الشرق الأوسط"، كما قال لي دبلوماسي غربي في بغداد. وأضاف: "سليماني يريد أن يستنزف الأمريكان، لذلك فهو يدعو الجهاديين، لكن الأمور خرجت عن نطاق السيطرة".
ومع ذلك، لم تكن سياسة إيران تجاه الأميركيين في العراق عدائية بشكل كامل، فرغم كل هذا، كان الطرفان يحاولان تمكين الشيعة في العراق، وهذا باعتماد سليماني سياسة التأرجح بين مساومة الأمريكيين وقتلهم.
طوال فترة الحرب، كان سليماني يستدعي قادة العراق إلى طهران للتوسط والتوفيق بينهم، ولكن بدافع تحقيق أقصى قدر من الهيمنة الشيعية. في مرة واحدة على الأقل، سافر إلى قلب القوة الأميركية في بغداد: "جاء سليماني إلى المنطقة الخضراء للقاء العراقيين"، كما قال لي سياسي عراقي..(يتبع)..
خدمة العصر