رغم الماضي المرير للصدريين سيما الجرائم التي ارتكبها جيش المهدي خلال الحرب الأهلية عام 2006 بعد أن فجر النظام الإيراني العتبات المقدسة في سامراء، وإنهال الرعاع في الإنتقام من أهل السنة بتأليب من المرجعية الرشيدة ورجالها من الحكيم وحازم الاعرجي وجلال الصغير وغيرهم من أقزام الخامنئي، وبمعاونة الجيش والشرطة دون إنتظار نتائج التحقيق لمعرفة المجرم الحقيقي. لكن من المؤكد أن طروحات السيد مقتدى الصدر قد إتسمت في الآونة الأخيرة بالتعقل والرشد رغم تأرجحها وعدم ثباتها في معظم الأحيان، بسبب التأثير الإيراني عليه وعلى بقية زعماء التحالف الشيعي. فالذي يخالف إرادة الولي الفقيه لا مكان له في العراق، إو على أقل تقدير لا يكون ضمن منظومة الحكم. وهذه حقيقة يعرفها الجميع وتنطبق أيضا على زعماء أهل السنة بلا إستثناء، ولدينا الكثير من النماذج التي توالي الولي الفقيه وهي محسوبة على أهل السنة كأسامة النجيفي وصالح المطلك ووزير الدفاع سعدون الدليمي ورئيس الوقف السني وبقية الرهط من العملاء.
فقد بدأ السيد مقتدى الصدر بمحاسبة المفسدين من جماعته وتبرأ من الطائفيين وحاول التقرب من أهل السنة بحذر، رغم إن موقفه من الإنتفاضة ليس منصفا. وهو بالتأكيد لا يستطيع الإنحراف 180 درجة عن خط الخامنئي، ولا يريد في نفس الوقت أن يكون ملكيا أكثر من الملك نفسه في تقربه لأهل السنة! سيما إن منافسه المنشق قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق يتحين فرص الإنتقام ويحاول أن يبعثر عقد الصدر ليضم ما ينفرط منه لعقده. إن هذه المواقف الإيجابية للصدر في الحقيقة لا تنسجم مع تطلعات ملالي إيران ولا عملائهم في العراق سيما إن التحالف الشيعي الذي يرأسه الإرهابي إبراهيم الجعفري بدأ في الإنحسار ولا يجمع اعضائه حاليا سوى النفس الطائفي وقبضة الخامنئي.
فقد وجه الصدر بيانا عقلانيا حول حرب المساجد التي طرفيها ممن يدعي الإسلام(تنظيم القاعدة و والميليشيات الشيعية) حث فيه العراقيين على إستخدام عقولهم المتجمدة للتحكم في مصائرهم بقوله" أهيب بالعراقيين اجمع ان يحكموا العقل والمنطق ويقدموا المصالح العامة على الخاصه ان استهداف السنة قد يؤدي بنا الى الهاوية سحيقة لايمكن الخروج منها لذلك ينبغي الحفاظ على وحدة العراق كما إن استهداف اهل السنة ليس استهداف للارهاب او الفلة الضالة التي اخذت على عاتقها قطع الرقاب. اننا نهيب بالعراقيين اجمع ان يكونوا على قدر المسؤولية وان يحقنوا الدم العراقي وان يحكموا العقل والمنطق،منوها اني امنع منعا بات استهداف اهل السنة وشيعته او التعدي على مساجدهم ودور عباداتهم بل لابد من السعي الى تقريب وجهات النظر فيما بينهم داعيا علماء الشيعة والسنة والازهر للاسراع باطفاء هذه الفتنة".
والخطورة في بيان الصدر هو مطالبته الصريحة لمنظمة التعاون الاسلامي لعقد جلسة طارئة لوضع حلولا ناجعة لاستهدافات اهل الشيعة و السنة، وهذا الأمر ليس بالهين لحكومة المالكي التي تحاول أن توهم الرأي العام العربي والعالمي بنجاح العملية السياسية، وإستقرار العراق وإن الشعب العراقي غارق في مستنقع الديمقراطية لحد الرقاب.
إن بيان الصدر يعني تدويل المشكلة الحالية بين الشيعة والسنة حيث لم يعد هناك أي نوع من التقارب والتفاهم بين الطرفين، هذه هي الحقيقة مهما حاول البعض أن يحيك نسيج الإنسجام والأخاء والتعايش السلمي من خيوط العنكبوت.
لقد أغلقت الأبواب أمام الحلول نهائيا ولم تعد مفتوحة إلا باب الحرب الأهلية التي ستكون أخطر بكثير من سابقتها. فالسنة هذه المرة سوف يقاتلون قتال مصيري أما أن يكون لهم دور فعلي في المشاركة في الحكم أو عليٌ وعلى أعدائي حسب مبدأ شمشون. بعد أن أذيقوا الأمرين من قبل الحكومة واجهزتها الإرهابية والميليشيات المسعورة. والشيعة معهم القوة المسلحة من الجيش والشرطة والميليشيات والحرس الثوري عند الضرورة. لقد بدأت الحرب الأهلية تدق أجراسها على أنغام التصعيد في العمليات الإرهابية التي جعلت جيورجي بوستن ممثل الأمين العام في العراق مصدوما من عنف ووحشية العراقيين مستغيثا" ينبغي إدانة العنف بجميع أشكاله ولكن ما روعني بشكلٍ خاص هو تصاعد وتيرة الهجمات الوحشية ضد من كانوا قد فُجعوا في السابق بفقدان أعزاء لهم".
علاوة على تبادل إستهداف المدن ذات الأغلبية السنية والشيعية، وحرق النواصب في الشوارع العامة بحضور ومباركة القوات الحكومية، وحرب المساجد التي يدفع ثمنها أناس كل همهم أن يرضوا الله تعالى بإقامة فريضة الصلاة لا غيرها،. والتهجير القسري في البصرة والموصل والناصرية. وعودة ظاهرة الجثث مجهولة الهوية في الطرقات والمزابل، ونثر بذور الكراهية والحقد ونزعة الإنتقام بين الطرفين بكل نشاط وحيوية من قبل المالكي ورهطه ووعاظ السلاطين. والحقيقة إن هذه الحرب بكل فخر من إبتكار وصنع المالكي! كأنه اراد ان يقول للجعفري بأنه أيضا قادر على قيادة حرب أهلية ضد النواصب. تنافس محموم بين الأشرار على دماء العراقيين الأبرياء.
لقد قام الصدر بخطوة ذكية جدا لا تنافسها سوى خطوته السابقة بإرسال وفد رسمي لإلقاء نظرة وداعية على جثة الرئيس الطالباني الذي ترفض الحكومة العميلة وحزب الطالباني الإعلان عن وفاته لأغراض سياسية سخيفة، تمثل إمتهان كبير وإستخفاف بعقلية الشعب العراقي، وبمساعدة دولة متقدمة تخفي الحقيقة عن شعب كامل وتطاوع الكاذبين وتتستر عليهم.
بمطالبته تدويل المشكلة أحرج الصدر حكومة المالكي مثلما أحرج حزب الإتحاد الوطني الذي يقوده الطالباني بمقترح الزيارة، فهو لم يخاطب أو يطالب المالكي ولا غيره من الزعماء بالحلول لأنه أعرف من غيره بأنه مثل هذه المحاولات ليست سوى هواء في شبك. فالحكومة هي الطرف الرئيس في هذه المشكلة، وهناك العشرات من المساعي المماثلة التي فشلت قي صب الماء البارد على الرؤوس الساخنة. لأنه لا توجد رغبة حقيقية لدى حكومة المالكي لتنفيذ ما يسمى بالشراكة الوطنية. المالكي هو من وصف الإنتفاضة بالفقاعة، وسمى المنتفضين بالإرهابيين، وهاجمهم في ساحات الإعتصام وأطلق كلاب سوات المسعورة على المتظاهرين في الحويجة. بل إنه أخيرا بكل رعونية وإستهتار أعلن في كلمة له خلال احتفالية بمناسبة افتتاح التصدير في حقل الغراف النفطي في مدينة الناصرية إن " المطالب التي يروج لها أصحاب الفتاوى الضالة هي مطالب غير شرعية وتسعى إلى إحباط العملية السياسية". ومهددا بكل وقاحة أهل السنة" أن بيننا وبين هؤلاء بحر من الدم، لأنهم يريدون إعادة العراق كما كان أسيرا بيد قوة ضالة". وهل هناك قوة ضالة سوى زمرة العملاء الذي جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية والبغال الإيرانية؟
طالما هناك بحور من الدماء بينك وبين الشعب، فلماذا وقعتم على( وثيقة الشرف)؟ وهل للعملاء شرف لكي يوقعوا على أي وثيقة تحتوي على كلمة(شرف)؟ أنتم الحكام بشيعتكم وسنتكم وأزلامكم على الضفة المقابلة للشرف. بعيدون عنها وبعيدة عنكم وهيهات أن تلتقي الضفتان. إتركوا الشرف جانبا يا أتباع الشيطان! والله ليخيل لنا وأنتم تتحدثون عن الشرف كغانية إنتهى بنها الأمر لتصبح قوادة وهي تتحدث عن تأريخ الفضيلة.
العجيب في الأمر إن تهديد المالكي لأهل السنة جاء بعد يومين فقط من توقيعه (وثيقة الشرف) لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد. يومين فقط وكُشف مصيرالوثيقة على لسان المالكي القذر. وهذا ما عبر عنه الصدر عندما رفض المشاركة في التوقيع على(مهزلة الشرف). فقد كشف قيادي مقرب من الصدر وكان ينقل توصياته الى قيادات كتلة الاحرار الآتي" طلب الصدر من رئيس كتلة الاحرار واعضائها المدعويين والوزراء الصدريين عدم حضور الاجتماع وقال لهم حرفيا" ان الوثيقة ناقصة والحاضرون هم اساس المشكلة و يكفي مجاملات بينكم، هل نحن جهلة ؟ كان الصدر محقا في إنسحابه! فالحاضرون هم أصل البلية والشرور. ولكن بالطبع هذا الإنسحاب الصدري كان مفاجئا للحكومة والبرلمان، وكان له وقعا سيئا على المالكي.
لقد سبق للمالكي أن انتقد التيار الصدري والمجلس الاعلى وبعض الكتل السياسية محملا أياهم وليس نفسه، سوء الخدمات وتفاقم الأوضاع الأمنية وتعطيل القوانين. وكان الأخطر في تصريحه هو إتهامه لجيش المهدي بالضلوع في خلق الأزمات للحكومة المتأزمة أصلا، والوقوف وراء حادثة سجني أبو غريب والتاجي من خلال التواطؤ مما سهل عملية تهريب السجناء مؤكدا بأن " جيش المهدي وراء الحادثة وإن حراس السجنين متعاونون مع الإرهابيين وان الحراس تابعون للمليشيات". والمالكي بما عرف عنه من تهور ورعونة لن يصبر على مواقف الصدر التي باتت محط إستحسان الجميع. لذا كنا متوقعين أن يلعب المالكي لعبة قذرة مع الصدر من خلال ذراعه الخفي عصائب أهل الحق الذين أدغمهم في العملية السياسية الكسيحة رغم أنف الجميع. وقد وجدها قيس الخزعلي فكرة مريحة لأنهم سيكسبون ود المالكي أكثر، هذا من جهة، ويضعون الصدر على المحك من جهة ثانية.
كما سرب أحد الزعماء الصدريين معلومات خطيرة عن الدور الإيراني القذر في العراق، وهذه اول مرة يكشف التيار الصدري مثل هذه المعلومات الجريئة التي أغاضت المالكي الذي لم يجرأ مرة واحدة على نقد الدور الإيراني ولو بعتاب فقط! فقد صرح الزعيم الصدري لصحيقة السياسة" أن النظام الايراني يسعى بسرية الى تطبيق السيناريو السوداني واقامة دولة جنوب العراق تضم المحافظات الشيعية التسع إضافةً الى اجزاء من العاصمة بغداد. وإن توتر العلاقة بين المكونين العراقيين الشيعي والسني في الفترة الراهنة والتصعيد في اعمال العنف وعمليات تهجير السنة من محافظتي البصرة والناصرية، هي محاولة جدية لإعادة الوضع الأمني العراقي الى نقطة البداية التي شهد فيها اعمال اقتتال طائفي واسعة". مضيفا بأن جماعة "عصاب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي وحزب الله العراقي بزعامة واثق البطاط، قد تلقيا اوامر صارمة من دوائر تابعة للحرس الثوري الايراني لإثارة الفتنة بين العراقيين بأي وسيلة، وبأي ثمن ما يعني ان مخطط اقامة دولة جنوب العراق دخل حيز التنفيذ".
كما إن قرار الصدر بالإنسحاب من الحياة السياسية بسبب عفونة العملية السياسة التي أزكمت جيفتها كل الشرفاء، والمطالبة الجماهيرية بعودته لعدم إتاحة الفرصة لضباع المنطقة الخضراء للأنفراد بالشعب العراقي. إضافة إلى المد الجماهيري الكبير في شعبية الصدر، الذي يقابله جزر في شعبية المالكي، فالاول يتوسع بإضطراد والثاني يتقلص بنفس القدر. وهذا الأمر قد أغاض المالكي لأن يعني بأن الإنتخابات القادمة ستكون في غير صالحه مع إستمرار هذه الوضع ورجحان كفة الصدر عليه.
لذا لم يستغرب المطلعون على المشهد السياسي العراقي حالة التفجير الدموي الذي قامت به حكومة المالكي على أيدي عصائب أهل الباطل ضد أخواننا الأبرياء في مدينة الصدر التي راح ضحيتها(78) شهيدا و(202) جريحا، ناس حضروا لتقديم التعازي ليس إلا، فقُدمت التعازي على أرواحهم البريئة.
مجلس العزاء وإن كان في مدينة الصدر لكن هذا لا يعني مطلقا إن القتلى هم من الشيعة فقط! في المآتم العراقية عادة يحضر الكثير من المعارف والأصدقاء في مجالس العزاء، والبعض قد لا يعرف أصلا الفقيد ولكنه يحضر لأنه من أهل المنطقة كتطٌييب للخواطر، أو لمجرد صحبة أحد معارف الفقيد. كما إن إداء الواجب لا يقتصر على حضور المسلمين فقط بل المسيحيين والأيزيديين والصائبة وكل شرائح المجتمع العراقي وهذ من إصالة العراقيين، بل البعض منا طالما مرٌ بمأتم لا يعرف عن الفقيد شيئا، فحضره لمجرد قراءة سورة الفاتحة كثواب على الفقيد.
إذن الجريمة الإرهابية لم تكن موجهة ضد الشيعة بل ضد الصدر بالذات نتيجه لمواقفه السابقة التي نوهنا عنها. ولأنه سيكون في موقف محرج! فهو أما أن يسكت عن الأمر ولا يصرح شيئا فيأخذونها عليه ثلمة بأن لا يراعي دماء أهل الشيعة سيما إن المجزرة مهولة وفق كل الأبعاد الإنسانية. أو إنه ينجرف مع التيار فيصب لعنته على النواصب ويحملهم المسؤولية، فينضم للحرب الأهلية سيما إن له ثقله في هذا المجال.
الذي يؤكد بأن الحكومة وراء هذه الجريمة إن تنظيم القاعدة الإرهابي لم يعلن المسؤولية عن العملية وهذا ما جعل الحكومة في موقف حرج للغاية، لأنها كانت تتوقع أن يصدر من القاعدة ما يزعم إنها تقف وراء المجزرة! وإلا فإن الناس سوف تتساءل عمن له المصلحة في قتل هذا العدد من الأبرياء. وبالتالي من المستفيد من العملية الإرهابية سيما إن هناك من ينفخ في شرارة الحرب الأهلية التي ستأكل الأخضر واليابس. ولا نستغرب أن يحرض المالكي أحد أعوانه لاحقا مدعيا بأنه من تنظيم القاعدة ويدعي بأنه قام بالعملية الإرهابية! إنها دولة القانون التي لا نستغرب منها فعل كل الكبائر والموبقات من أجل الكرسي.
الصدر فعلا في موقف محرج حاليا! ولكننا نعتقد بأنه لو رجع قليلا للأيام الماضي وأعاد النظر في الخلافات ما بينه وما بين المالكي سيدرك على الفور إن هذه المجزرة الدموية ليست سوى لعبة قذرة من المالكي وقيس الخزعلي لجر رجله إلى الحرب الأهلية.
فهل سيدرك الصدر الحقيقة ويتصرف على ضوئها بنفس التعقل والهدوء فيعزز مكانته التي أخذت تنمو وتتصاعد بشكل كبير بين الشيعة وأهل السنة؟ وأمست تخيف المالكي وتهدد مكانته؟ والدليل على كلامنا الخيبة التي لاقاها المالكي في إنتخابات مجالس البلديات الأخيرة رغم عملية التزوير والغش والألاعيب التي مارسها حزبه الضال لكسب الأصوات. الأيام القادمة هي الفيصل.
علي الكاش
كاتب عراقي