فلاديمير بوتين.. رجل استخبارات خفيّ تحول فجأة إلى رئيس دولة روسيا الاتحادية، ثم إلى زعيم لا يبدو أنه مستعد للتخلي عن زمام الحكم في روسيا بعدما نجح في تغيير وجهها منذ أن خلف بوريس يلتسين في عام 2000 وأعاد إلى الروس درجة من الثقة بالنفس في بلد بدا على شفا الانهيار في إحدى فتراته الصعبة خلال تسعينات القرن العشرين.
ليلة رأس سنة الألفية الجديدة قدّم الرئيس الروسي بوريس يلتسين، مفاجأة للروس، ومعهم العالم، لم يكن أحد ينتظرها. إطلالة يلتسين ليلة 1-1-2000، كانت متوقّعة باعتبارها تقليدا سنويا تعوّد عليه الروس ليلة رأس السنة، لكن المفاجئ كان إعلان استقالته في خطاب تلفزيوني تلاه يلتسين بصوت خافت وأعلن فيه آخر قراراته كرئيس لدولة روسيا الاتحادية.
بعد ثماني سنوات ونصف السنة قضاها في رئاسة البلاد تنازل يلتسين عن السلطة لرئيس الوزراء فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين. لتدخل روسيا مع بداية الألفية الجديدة عهدا جديدا.
من هو فلاديمير بوتين الحقيقي، الذي يهيمن على السياسة الروسية منذ أكثر من عشر سنوات، ومن المتوقع أن يواصل سيطرته إلى غاية 2024؟ لا توجد معلومات كافية عن خلفية الرجل الملقّب بقيصر روسيا الجديد سوى بعض المعلومات العامة في سيرته الذاتية. طرحت صحيفة فورين بوليسي هذا السؤال معلّقة بأن السيرة الذاتية للرئيس الروسي تحتوي على معلومات قليلة جدًا، من الصعب التأكد منها بشكل موثوق، وهذا ما يدفع ببعض المراقبين إلى القول إن بوتين رجل بلا وجه ولا روح.
يوصف فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين بالسياسي الغامض، وهو قيصر روسيا اللبيرالي الحالي، والشيوعي السابق، الذي يحلم بعودة أمجاد الدولة الروسية العظمى، بشقيها القيصري والسوفييتي.. لا ينطبق عليه وصف «الدب الروسي» بقدر ما ينطبق عليه لقب «الثعلب»، في دهائه السياسي وإصراره على العودة بروسيا إلى نادي الدول العظمى التي لها الكلمة الفصل في الأحداث التي تجري في العالم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط حيث لها منطقة مصالح حيوية، وهو الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في 1991.
في آب 1999، سماه الرئيس بوريس يلتسين الذي عانى من فرط تناول الخمور، رئيسا للوزراء في وقت كانت روسيا تترنح جراء أزمة اقتصادية في العام السابق لتعيينه.
وربما انتشل فلاديمير بوتين روسيا من الرمال المتحركة التي كانت تغوص فيها بعد الحقبة السوفياتية على مدار أكثر من عقد من الحكم، لكنه عمل أيضا على تحجيم قوة المجتمع المدني وأثار حفيظة الغرب عبر سياسة خارجية تصادمية.
بعد فترنين رئاسيتين، الأولى (2000 – 2004) والثانية (2004 –2008)، وصل بوتين إلى الكرملين للمرة الثالثة بعد أن رشّحه حزبه لانتخابات مارس- آذار 2012.
وشغل خلال الفترة التي تولى فيها ديمتري مدفيديف رئاسة روسيا، منصب رئيس الوزراء. ويتوقع مراقبون أن يستمرّ بوتين على رأس الدولة الروسية حتى عام 2024.
وكان بوتين، عميل استخبارات الـ»كي جي بي» السوفياتية السابق، قد أبقى على الأساليب السوفياتية مثل الاحتفاظ بقوات أمن نافذة والحكم السلطوي المركزي الذي كان الليبراليون يأملون أن يذهب دون رجعة في روسيا المستقلة الجديدة بعد انهيار الحكم السوفياتي.
ويحظى بوتين بشعبية كبيرة بين الروس إذ أعاد إليهم درجة من الثقة بالنفس في بلد بدا على شفير الانهيار في بعض منعطفاته الصعبة خلال تسعينات القرن الماضي. وبالنسبة إلى أنصاره، فإن بوتين يعتبر بمثابة منقذ روسيا الحديثة في حين يرى فيه معارضوه النسخة الأحدث في سلسلة الزعماء الاستبداديين بدءا من إيفان الرهيب ومرورا بستالين.
لكن المؤكد هو أن بوتين شخصية ذات أهمية تاريخية. وقد تأكّدت هذه الأهمية خلال الفترة الماضية، مع اندلاع الأزمة في سوريا التي شكّلت فيها موسكو بيدقا حاسما منذ أن استعملت حق الفيتو في مجلس الأمن ضدّ التدخّل في سوريا وصولا إلى المبادرة التي طرحت مؤخّرا والتي تقضي بوضع الأسلحة الكيميائية السورية تحت الرقابة الدولية، كخطوة نحو إيجاد حل ديبلوماسي وسلمي للملف السوري.
بدأ بوتين مشواره في أروقة جهاز الـ»كي جي بي» النافذ حيث عمل في ألمانيا الشرقية السابقة. وتمكن بوتين، الذي ما زالت تحيط به هالة ضابط المخابرات، من تعزيز سلطته خلال الحرب ضد الانفصاليين الشيشان.
كان أول رئيس روسي منتخب ديموقراطيا، بوريس يلتسين، هو الذي انتشل بوتين من منصب رئيس جهاز «أف اس بي» الذي خلف الـ «كي جي بي»، ليعيّنه رئيسا للوزراء. وحينما استقال يلتسين عشية العام 2000 عيّن بوتين رئيسا.
هدية يلتسين
في هذه الليلة خاطب بوتين الروس بثقة غريبة على رجل وجد نفسه فجأة يمسك زمام أضخم بلدان العالم موضحا لهم قواعد لعبته الصارمة والتي لم تتغير منذ ذلك الحين. آنذاك قال بوتين «لن يكون هناك فراغ في السلطة ولا في هذا البلد. أود أن أحذر من أن أي محاولات للخروج على القانون فإنها ستجهض بحسم».
لكنه أكد أيضا للروس أن «حرية التعبير والمعتقد والصحافة» ستحظى بالحماية، وهو التعهد الذي يقول البعض إنه انتهكه المرة تلو الأخرى. وحتى بينما كان رئيسا للوزراء تحت رئاسة يلتسين، عرف عن بوتين حديثه المقرب من الشارع، حين قدم تعهده الشهير «سألقي بالإرهابيين في المرحاض».
انقضت فترة الولاية الثانية، وهي الحد الأقصى لتولي الرئاسة على التوالي دستوريا، وتبادل بوتين الأدوار مع ديمتري مدفيديف، رفيقه من سان بطرسبورغ وصنيعته السياسية، الذي نجح في انتخابات الرئاسة وعلى الفور في منصب رئيس للوزراء، ومن ثم استمر بوتين قابضا على السلطة إلى أن عاد إليها مرّة أخرى.
وبزغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عربيا خلال الأزمة التي تشهدها سوريا، ويعتقد البعض أن قيصر روسيا الجديد، كما تلقبه بعض وسائل الإعلام الروسية، ينحاز إلى نظام بشار الأسد، إلا أن المطّلع على التاريخ الروسي يدرك أن رجل الـ»كي جي بي» قادر على بيع بشّار متى وجد الصفقة المناسبة التي تخدم روسيا.
العدو التقليدي
وجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرا من الوسائل والأماكن للضغط على الولايات المتحدة على مر السنين.
وشهدت ميونيخ خطابا ألقاه في 2007 غيّر فيه أسلوب السياسة الخارجية الروسية بالشكوى من «الهيمنة العالمية» للولايات المتحدة. وأصبح العرض العسكري السنوي في مايو في الساحة الحمراء منبرا للتحذير من الهيمنة الأميركية كما تتخلل مؤتمراته الصحفية السنوية أحاديث غاضبة مناهضة للولايات المتحدة.
لكن أحدث وسيلة اختارها للهجوم، في سياق التنافس على حلّ الملف السوري، تمثلت في مقال افتتاحي في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، وكانت تحولا غير عادي بالنسبة إلى بوتين رغم أنه لم يكن مقاله الأول في الصحيفة إذ سبق أن كتب واحدا يدافع فيه عن قراره بإرسال قوات للحرب في الشيشان في 1999.
وإيجاد وسيلة «للتحدث مباشرة للشعب الأميركي» – كما يقول هو – يبرز ثقته المتزايدة في أن المقترح الروسي لوضع الأسلحة الكيميائية السورية تحت السيطرة الدولية مكّنه من انتزاع زمام المبادرة السياسية والأفضلية الأخلاقية من نظيره الأميركي باراك أوباما.
وقالت مصادر قريبة من الكرملين إن المقال الذي كتبه لنيويورك تايمز هو الأول من نوعه في الصحافة الأميركية منذ 1999.
ويبدو يوتين الآن عازما على الاستفادة محليا من ذلك الوضع من خلال تقديم نفسه حيثما كان باعتباره الرجل الذي يقود جهود السلام العالمية في سوريا لينال من أوباما حتى على صفحات جريدة أميركية رائدة. ومنح الاهتمام الذي لاقاه المقال في الإعلام الأميركي والعالمي والروسي الكرملين مبررا للشعور بالنصر.
وكانت الصورة التي عرضها بوتين في مقاله هي لروسيا كصانع سلام وللولايات المتحدة كمروّج للحرب ليقلب الطاولة على أوباما بعدما صوره بوتين في الغرب على أنه عقبة أمام السلام لأغلب الوقت منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا في 2011.
وبدا الرئيس السوري بشار الأسد كما لو كان يتصرف وفق اتفاق مسبق عندما أيد بوتين بقوله لقناة تلفزيونية روسية «سوريا ستضع أسلحتها الكيميائية تحت السيطرة الدولية بسبب روسيا. التهديدات الأميركية لم يكن لها تأثير لدى اتخاذ القرار».
لكن تأثير المقال لم يكن طيبا على واشنطن، حيث علّق جون بينر رئيس مجلس النواب الأميركي قائلا «أشعر بالإهانة». وأضاف أن المقال يظهر «لماذا قلت أن لديّ شكوكا تجاه دوافع الروس والأسد». مؤكّد أن الرئيس الروسي، المعروف بصرامته وبرودته في نفس الوقت، حقّق على مدى ولاياته الرئاسية الثلاث، الكثير لروسيا الاتحادية، لكن يبقى الدور الأخير، الذي لعبه في اللحظات الحاسمة لقرار ضرب سوريا، الأكثر إثارة للجدل، حتى أن جهات روسية رشّحته لنيل جائزة نوبل للسلام على هذا الدور.
الحياة مخاطرة
نادرا ما يظهر بوتين على الملأ برفقة زوجته ليودميلا التي رزق منها بابنتين، وسبق وقال للصحافيين قولا شهيرا «أبعدوا أنوفكم الغليظة» عن شؤوني. وحينما زعمت صحيفة روسية صغيرة في العام 2008 أن بوتين خان زوجته مع بطلة جمباز إيقاعي أولمبية، انتهى الأمر بالصحيفة للتراجع عن المقال وتفنيده وإغلاق نفسها بنفسها.
وبعيدا عن الحياة السياسية، من الصورة التي ارتبطت بالرئيس الروسي، صور له في رحلات الصيد، وهو يمتطي الخيل في نزهات الصيف كاشفا عن صدره العاري مستعرضا عضلاته. والتقطت لبوتين الصور مع كل الوحوش البرية التي تجدها في روسيا مثل النمر وفهد الثلوج والدب القطبي، وغاص إلى أعماق بحيرة بايكال في غواصة صغيرة وقاد سيارة سباق «فورمولا وان».
وسأل أحد الصحافيين بوتين قلقا بعد أن عاد من رحلة علمية خطرة لتعقب الحيتان بين البحار العاتية «فلاديمير فلاديميروفيتش، لماذا كل هذه المخاطرة! أتعي المخاطر؟». فرد عليه بوتين دون تفكير «الحياة مخاطرة».
العرب