معطياتٌ كثيرة تشير إلى أنّ «تمرّد غزة» لا تصنع قرارها بيدها، وعلى الأرجح تلقّنها القيادات العسكرية المصرية وسلطة رام الله ذلك بالحرف الواحد، رغم أن المتمرّدين ينكرون ذلك ويؤكدون «الهوية المستقلة» غير التابعة لأجندة هنا أو هناك. وهم في الوقت نفسه لا يمكنهم أن ينكروا أو يخفوا اتصالاتهم غير المنقطعة مع الحاكم المصري الحالي، لكونه الزعيم الذي تخلّص من عدوّهم اللدود «الإخوان» إلى غير رجعةٍ، على ما يبدو.
والجدير بالملاحظة التناقض في كلام المتمرّدين في ما يتعلق بحلولهم الذهبية للتمرّد على «الفاشية الحمساوية»، فيقول مسؤولهم في فلسطين عبد الرحمن أبو جامع لـ«الأخبار»: «إن لم تتخلّ حماس عن الحكم بعد أن يطلب الشعب منها ذلك، فسوف نستعين بمصر، وسنطلب الجلوس مع قياداتها العسكرية قريباً»، نافياً في الوقت نفسه إملاء العسكر قراراته وشروطه على حركتهم التمرّدية. ويدل تصريح أبو جامع على إيمان بأنّ الجيش المصري الذي «حرّر ملايين المصريين من بطش الإخوان» قادر على تحرير غزة من قبضة «حماس» وطيّ صفحة الظلم الذي لا يتوافر بالمطلق في الضفة الغربية. ويتابع أبو جامع: «أدارت مصر غزة سابقاً، وأعتقد أن لديها المقدرة الكافية على إعادة غزة إلى حضن الشعب بعدما سرقتها «حماس» منه».
ومن المقرر أن يحزم أبو جامع أمتعته الأسبوع المقبل، ويغادر رام الله متوجّهاً إلى مصر للإعداد لمؤتمرهم الأول الذي ستحتضنه القاهرة الشهر المقبل، بمباركة الأحزاب والقيادات المصرية المتتبّعة لخطواتهم لحظةً بلحظة في قطاع غزة. وسيخطّ هذا المؤتمر «معاً لوحدة فلسطين» عناوين المراحل القادمة وسبل إنجاح التمرّد في غزة، كي ينعم الجيش المصري بجوّ من الهدوء، بعد أن يفلح في القضاء على بذرة «حماس» في غزة. وأكد أبو جامع فتح قنوات الاتصال بين حركته ومسؤولي «تمرّد» المصرية محمود بدر ومحمد عبد العزيز، حيث التقت مسؤولة الاتصال السياسي في «تمرد غزة» عبير أبو سمرة واثنان آخران من الحركة ذاتها مع كلًّ من بدر وعبد العزيز قبل نحو خمسة أيام. وشرح عرّاب التمرد لتلاميذه الفلسطينيين خطط إسقاط التجربة المصرية على الغزيّة، وآليات إجبار «حماس» على مغادرة أروقة السلطة.
ويبدو أن بال المتمرّدين الغزيين لن يهدأ إلا بإعلان غزّة إقليماً متمرّداً، كما لوّح الرئيس محمود عباس بذلك قبل فترةٍ بسيطة. وبذلك، تصح فرضية دخول السلطة على خط «تمرّد غزة»، وإمدادهم بذات الأطروحات السياسية غير المتقاطعة البتة مع «حماس»، وخصوصاً في مسألة تفضيلهم لسلك درب المفاوضات على شق طريق المقاومة المسلحة. ويقول أبو جامع في هذا الصدد: «نحن لن نفشل، فإن لم يخرج الناس بغزة للشوارع نتيجة ضغوط الأمن الداخلي على الشعب وممارسات حماس القمعية ضدها، فسنجري استفتاءً شعبياً مفاده «هل الشعب يريد حماس أم لا؟»، وإن فرضت «لا» كلمتها، فسنعلن غزة إقليماً متمرّداً تحت أيدي حكومةٍ انتهت صلاحيتها منذ سنين»، مشدّداً على ضرورة محاربة الحكومة وعدم اعتراف العالم بها تحت أي ظرفٍ كان.
وإن نجح إعلان غزّة إقليماً متمرّداً، سيقرر المتمرّدون أن يكون الجيش المصري، «محب الخير لغزة»، كما يقولون، منقذهم الأول من «الجبروت الحمساوي»، عبر تدخله في غزة، وإن وصلت الأمور إلى الحسم العسكري وإراقة الدماء، فيما رفض أبو جامع الإفصاح لـ«الأخبار» عن شكل التدخل بالتحديد، مؤكداً أنّ اللجنة المركزية العليا لحركته هي المخوّلة بمناقشة هذه المسألة التي لم يحن وقتها بعد، كما يدّعي. ويرى كثيرون أن هؤلاء المقنّعين يعانون من تيهٍ جليّ ويخوضون معركة خاسرة، نظراً إلى تحدّثهم بذات النفس الفتحاوي الاستعلائي المحقّر لشأن «حماس» ومقاومتها في غزة، رغم نفيهم الدائم أن سلطة رام الله تمثّل ظهرهم الحامي لهم وتغطّي أنشطتهم مالياً. ويقول أبو جامع: «نحن لا نتلقى أي مؤازرة من السلطة، لكن إن أردتم أن تتواصلوا مع القيادة، فبإمكاني إيصالكم إلى السيد الرئيس وعزام الأحمد، وصولاً إلى محمد دحلان». وأضاف: «عرضت علينا شخصيات خارجية التدخل بحركتنا، لكننا رفضنا ذلك بشكل قاطع، ونحن نعتمد بشكل كلي على إدارة الشعب»، رافضاً الكشف عن هوية تلك الشخصيات. وأوضح أن «حماس» تمرّ برحلة حرجة للغاية هذه الأيام، فهي تتهاوى تدريجاً، بعدما فقدت حضنها السوري والإيراني، وأعدم العسكر حليفتها الاستراتيجية الكبرى في مصر، مؤكداً أن التمرّد سيجني ثماره، ولن تحصد «حماس» إلا مصير جماعتها الأم في مصر. وعن سؤال «الأخبار» عن عدم نقل التمرد إلى عاصمة سلطة أوسلو، أجاب أبو جامع: «لم أرَ ظلماً في الضفة، كالذي رأيته في غزة لأحرّض الشعب على التمرد على عباس»، مبيّناً أن حركته مقتنعة بأن لا بديل للمفاوضات في الوقت الراهن، ولا اعتراض بالمطلق على إطالة فترتها. وبعدما شرعنت «تمرد غزة» تدخل الجيش المصري في غزة، لا يقدر الغزّيون إلا على وضع أيديهم على قلوبهم، خوفاً من تكرار المشهد المصري والانزلاق نحو الهاوية، والقول حينها: «يا ريت اللي جرى ما كان جرى».
الأخبار