على مدار الثلاثة عقود الماضية، قدمت واشنطن لمصر ما يزيد عن 40 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية وذلك من خلال برنامج برنامج مساعدات يشكل اليوم ما مجموعه 80 % من ميزانية المشتريات العسكرية السنوية للبلاد. ومنذ يوليو/تموز، شجعت إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي وما تلاه من فرض إجراءات صارمة على مؤيديه الأصوات المطالبة في واشنطن بوقف هذه المساعدات. ومع ذلك فإن حجم وهيكل برنامج التمويل العسكري الخارجي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية الخاص بمصر — وهو يعتبر ثاني أكبر برنامج من هذا النوع على مستوى العالم — سيجعل مسألة التحول السياسي من هذا النوع أمراً معقداً ومطولاً ومكلفاً من أوجه عديدة.
شروط خاصة
تتلقى مصر حالياً 1,3 مليار كل عام فيما يخص برنامج التمويل العسكري الخارجي وذلك في إطار برنامج يسمح لها بشراء المعدات العسكرية التي تنتجها الولايات المتحدة فضلاً عن المساعدات التقنية بالتنسيق مع وزارتي الخارجية والدفاع. وفي مكتب التعاون العسكري (الكائن في السفارة الأمريكية)، يعمل مسؤولون أمريكيون جنباً إلى جنب مع نظرائهم المصريين لتحديد أولويات الشراء، على سبيل المثال إخراج المعدات السوفيتية القديمة من الخدمة تدريجياً وتحسين قدرات العمل المشترك مع القوات الأمريكية.
وبجانب إسرائيل، تعتبر مصر دولة من الدولتين الوحيدتين اللتين تتلقيان تمويلاً من برنامج التمويل العسكري الخارجي واللتين تحظيان بميزة "الصرف المبكر" في بداية العام، حيث يتم إيداع التمويل الأمريكي في أحد الحسابات البنكية في بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك ويُسمح للقاهرة بالاستفادة بالفائدة المستحقة على هذه الإيداعات لشراء معدات إضافية. وعندما يتم إيداع هذه الأموال، يتم تحويلها من بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أحد الصناديق الاستئمانية. وستتلقى مصر هذا العام مبلغاً يقل مقداراً يسيراً عن مبلغ الـ 1,3 مليار بسبب التخفيض في النفقات على افتراض استمرار البرنامج. واعتباراً من يوليو/تموز، تم تحويل 649 مليون دولار أمريكي إلى الصندوق الاستئماني مع ترك حوالي 585 مليون دولار في بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ويسمح شرط خاص آخر للقاهرة "بتمويل مشترياتها من خلال التدفقات المالية المستقبلية" من الشركات المتعهدة ببيع الأسلحة الدفاعية الأمريكية. وبخلاف معظم المستفيدين الآخرين من برنامج التمويل العسكري الخارجي، لا يتوجب على الحكومة المصرية أن تدفع مقدماً تكاليف أنظمة الأسلحة باهظة التكلفة والمتعاقد عليها مع الولايات المتحدة، بل تستطيع بدلاً من ذلك الوفاء بالالتزامات المالية التي تغطيها المنح المستقبلية المخطط لها لبرنامج التمويل العسكري الخارجي. وفي العادة، سيتعين على القاهرة سداد أكثر من 2,5 مليار دولار في شكل التزامات مستحقة السداد لشراء أسلحة وخدمات الدعم من شركات أمريكية في أي وقت من الأوقات.
وتُدار الجوانب الفنية لمبيعات وتحويلات برنامج التمويل العسكري الخارجي من قبل وكالة التعاون الأمني الدفاعي وهي إحدى فروع الشراء المتخصصة جداً والتي يرأسها جنرال يحمل ثلاث نجوم ويشرف عليها مكتب وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية في وزارة الدفاع. وحتى مع مراقبة هذا الخبير، فإن التمويل من خلال التدفقات المالية المستقبلية يجعل برنامج التمويل العسكري الخارجي معقداً للغاية. وهذا يعني تحديداً أنه – وفقاً لتقرير مكتب محاسبة الحكومة – لم تستطع حتى وكالة التعاون الأمني الدفاعي أن تتبع التزامات برنامج التمويل العسكري الخارجي لمصر مقابل احتياجات الصرف الخاصة بها فضلاً عن المخصصات المتاحة قبل عام 1998.
مشتريات برنامج التمويل العسكري الخارجي الخاص بمصر
تخصص القاهرة حالياً ما يقرب من ثلث ما تحصل عليه من تمويل من برنامج التمويل العسكري الخارجي لما تشتريه من معدات جديدة والثلث الآخر لتحديث المعدات والباقي للدعم الفني المقدم من شركات أمريكية. وقد ارتكز الجزء الأكبر من مشترياتها على عدة برامج ضخمة تمتد لسنوات عديدة والتي من بينها الشراء والتجميع المحلي لأكثر من 1,100 دبابة من طراز إم 1 إيه 1و224 طائرة إف 16 و10 طائرات هليكوبتر أباتشي وآلاف من مركبات الهامفي وهي مركبات مدولبة متعددة المهام ذات قدرات تنقل عالية فضلاً عن الذخائر المختلفة (على سبيل المثال منظومات الدفاع الجوي المحمولة ستينجر وصواريخ من طراز هيل فاير وهاربون) وأنظمة الاتصالات والرادارات وسفن بحرية. ولعل آخر أبرز هذه المشتريات وأعلاها تكلفة كان في ديسمبر/كانون الأول وذلك عند شراء 20 طائرة إف 16 إضافية وهو عقد بقيمة تقترب من 3 مليار دولار أمريكي. وحتى الآن، تم تسليم ثمانية من هذه الطائرات بما فيها الأربع طائرات التي تم تسليمها في فبراير/شباط.
وعلى الرغم من الالتزام الأمريكي بالتفوق الإسرائيلي العسكري النوعي، فإن واشنطن عادة ما تبيع لمصر ما تطلبه من أسلحة متطورة للغاية. ورغم ذلك يجري في بعض الأحيان تعديل بعض الأنظمة أو منع توريدها للحفاظ على التفوق الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، أفادت بعض التقارير أن صفقة عام 2013 الخاصة ببيع 90 صاروخ كروز مضاد للسفن من طراز هاربون 2 قد تم تأجيلها لمدة خمس سنوات بسبب مخاوف من أن قدرات الهجوم الأرضي التي أظهرتها هذه الصواريخ من شأنها أن تغير من التوازن العسكري بين البلدين. ولتخفيف هذه المخاوف، تم تخفيض قدرات هذه الصواريخ بشكل واضح.
الوضع الراهن
وفقاً لبعض التقديرات، فإن مصر أمامها ما يزيد عن 4 مليون دولار في شكل التزامات تعاقدية مستحقة السداد يجري دفعها من خلال التمويل عبر التدفقات المالية المستقبلية أو تبلغ قيمتها ما يزيد عن ثلاث سنوات مما يقدمه برنامج التمويل العسكري الخارجي. وبعد قتل المئات من أنصار مرسي خلال الإجراءات الأمنية القمعية التي تم اتخاذها الشهر الماضي، أعلن الرئيس أوباما أن واشنطن ستقوم بمراجعة برنامج التمويل العسكري الخارجي لمصر. وعلى الرغم من أنه لم يتم الإعلان الرسمي عن هذا التعليق، إلا أن وكالة التعاون الأمني الدفاعي كما أفادت بعض التقارير أجلت تسليم أربع طائرات إف 16 وعشر طائرات هليكوبتر من نوع أباتشي.
ويعتقد أن القاهرة قد التزمت بمدفوعاتها للشركات والمتعهدين خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول. وإذا استمرت واشنطن في الامتناع عن تسليم هذه المعدات، فإن دافعي الضرائب الأمريكيين – رغم ذلك – سيتعين عليهم الوفاء بهذا الالتزام. وإذا تم إلغاء العقود الذي جرى إبرامها مع مصر بالكلية، ربما يتم دفع تكاليف هذا الإلغاء المستحقة على الشركات الأمريكية من برنامج التمويل العسكري الخارجي ويرجح رغم ذلك أن تستمر الحكومة الأمريكية في الاحتفاظ بهذه المعدات حتى يمكن إجراء هذا التحويل.
ورغم أن واشنطن تستطيع أن تسدد هذه التكاليف للشركات والمتعهدين من الأموال الموجودة في حساب بنك الاحتياطي الفيدرالي واستئناف العقود والاستحواذ على المعدات أو حتى بيعها إلى غيرها من الدول من خلال المبيعات العسكرية الخارجية المباشرة، إلا أن هذه الخيارات ليست هي الأمثل في واقع الأمر. لا تحتاج الحكومة الأمريكية إلى الخدمة الضخمة ومكونات الصيانة الواردة بهذه العقود وسوف تبدو بعض هذه المعدات أقل جذباً بالنسبة لتلك البلدان الأقدر على دفع فاتورتها. فعلى سبيل المثال، لم يتم تجهيز طائرات إف 16 المصرية بصواريخ جو – جو متوسطة المدى متقدمة من طراز AIM-120 ولكن جرى تزويدها بالطبع بقدرات أقل وذلك بصواريخ من طراز AIM-7.
الأثر الناتج عن قطع هذه المساعدات
بالإضافة إلى الإضرار بالعلاقات العسكرية – العسكرية بين الولايات المتحدة والقاهرة — والتي هي ذات أهمية خاصة نظراً لأن الجيش هو الذي يدير الأمور الآن في مصر مرة أخرى — فإن تعليق برنامج التمويل العسكري الخارجي من شأنه أن يعمل على تقويض العلاقات مع الحكومة المدنية ويؤدي إلى مزيد من التآكل لمكانة واشنطن المتدنية بالفعل لدى المصريين وربما يؤدي ذلك أيضاً إلى علاقات أمريكية هشة مع المملكة العربية السعودية والتي دعمت بصورة علنية انقلاب يوليو/تموز. علاوة على ذلك، فإن الرياض والإمارات العربية المتحدة والكويت قد تسد الفجوة مما يمكن القاهرة من الاستمرار في تمويل المشتريات العسكرية. وقد تقدم هؤلاء المانحون بالفعل منذ الانقلاب وذلك بتقديم 16 مليار دولار لمساعدة مصر على النهوض باقتصادها المتعثر.
كما أنه من الممكن لسيناريوهات أخرى أن تقلل من النفوذ الأمريكي. على سبيل المثال، من الممكن أن يمول الجيش المصري مشترياته العسكرية بنفسه في ضوء أنه أقرض البنك المركزي مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول عام 2011. والأسوأ من ذلك، فإن الأنباء التي ترددت عن قطع المساعدات الأمريكية قد تشجع جماعة الإخوان المسلمين المصرية وقد تقوي من عزمها على التصدي للجيش مما سيساهم في مزيد من عدم الاستقرار في البلاد. وبدلاً من ذلك، قد تحاول الصين وروسيا تعظيم الاستفادة من هذا التعليق بحلولهما محل واشنطن في تمويل المشتريات المصرية لأنظمة خاصة بهما رغم عدم رجحانية هذا الأمر.
وليس من الواضح ما إذا كان وقف برنامج التمويل العسكري الخارجي من شأنه أن يتبعه وقف مبلغ الـ 1,8 مليون دولار المقدم في شكل دفعات سنوية للتعليم والتدريب العسكري الدولي الأمريكي، وهو عبارة عن منحة يحضر من خلالها مئات من الضباط المصريين للدراسة في الولايات المتحدة. كما أنه من غير الواضح أيضاً ما سيعنيه هذا الوقف لتحويلات المعدات الأمريكية والتدريب على صعيد القدرات الاستعدادية والعملياتية المحدودة بالفعل للدولة المصرية.
كما أن قطع المساعدات قد يجعل أيضاً الأهداف الإستراتيجية الأمريكية الرئيسية في مصر في خطر بما فيها التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وأولوية الوصول إلى قناة السويس فيما يتعلق بالسفن الحربية الأمريكية والطلعات الجوية العسكرية الأمريكية غير المقيدة نسبياً. فبين عامي 2001، و2005، قامت طائرات عسكرية أمريكية بما يزيد عن 35 ألف طلعة في المجال الجوي المصري – وكان ذلك يتم غالباً بعد الإخطار بفترة وجيزة – في الوقت الذي قامت فيه السفن العسكرية الأمريكية بما يقرب من 900 مرور مستعجل عبر قناة السويس. بالإضافة إلى ذلك، فإن دعم الجيش المصري لمعاهدة السلام بكامب ديفيد — والتنسيق الإسرائيلي-المصري الممتاز بشأن الوضع الأمني في سيناء الذي دعمته الاتفاقية — قد يتأثر أيضاً.
أما بالنسبة للتأثيرات الداخلية، فإن وقف برنامج المساعدات سيمثل ضربة قصيرة المدى على الأقل للشركات العسكرية الأمريكية بما فيهم شركة لوكهيد مارتن (التي تصنع طائرات إف 16) وشركة بوينج (التي تصنع طائرات الأباتشي). ومن المحتمل أن تعاني العشرات من الشركات الصغيرة والشركات الفرعية من عواقب اقتصادية أكثر خطورة.
خاتمة
من الممكن أن يترتب على الوقف المحتمل لبرنامج التمويل العسكري الخارجي مع مصر بعض النتائج باهظة التكلفة على صعيد الشؤون الإستراتيجية والداخلية بالنسبة للولايات المتحدة. وفي ضوء وجهة النظر التي يتبناها الجيش المصري في صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين، فإن مثل هذا التحرك من المحتمل أن يثبت عدم فعاليته في تشكيل صنع القرار في القاهرة. ولهذا السبب فإنه حتى ولو كان قطع المساعدات يبدو متسقاً مع ما تم سنه من تشريعات سابقة، إلا أنه قد يترتب عليه نتائج عكسية من الناحية السياسية.
إذا أرادت واشنطن أن تبعث برسالة إلى القاهرة بدون وقف برنامج المساعدات برمته، فمن الممكن أن تنهي الصرف المبكر لبرنامج التمويل العسكري الخارجي الذي كان يعتبر منذ وقت طويل شرطاً غير ضروري. والشيء الأهم من ذلك، أنه ينبغي على إدارة أوباما حث الكونجرس على مراجعة التشريع الذي يمنح مصر ميزة التمويل من خلال التدفقات المالية المستقبلية. وبدون إدخال تغييرات هامة على برنامج التمويل العسكري الخارجي، فلن يكون أمام الولايات المتحدة سوى القليل من الخيارات السائغة لتقويم مساعداتها العسكرية المقدمة لمصر في المستقبل القريب.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن.