لو كان صحيحاً أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما لا يريد تنفيذ هجوم على الجيش السوري، وهو فقط وقع ضحيّة رفع سقف تحذيراته الإعلاميّة السابقة بشأن الخطوط الحمر – كما يُردّد الكثيرون، لكان باستطاعته الهروب من تنفيذ أيّ عمليّة عسكريّة عبر ادعاء انتظار نتائج تقرير مفتّشي الأمم المتحدة الذين تفقّدوا "المواقع المُستهدفة" في الغوطة السوريّة، علماً أنّ هذا التقرير سيتأخّر، ولن يُحدّد الجهة التي تقف وراء القصف، بل سيُعلن حصول الهجوم الكيماوي أو عدمه، فقط لا غير. لكنّ إدارة الرئيس أوباما لم تختر هذا "السيناريو"، لأنّ الهجوم الأميركي على سوريا – المعلّق في المرحلة الحالية – هو إستجابة لضغوط متعدّدة، وكان فقط ينتظر "الحجّة" المطلوبة. لكن إذا كان هذا هو الواقع، لماذا إذاً لم يُسارع أوباما إلى منح "الضوء الأخضر" للضربة الأمنيّة على سوريا عندما سنحت الفرصة لذلك؟
لقد أرادت إدارة الرئيس الأميركي تنفيذ ضربة قويّة للجيش السوري لإضعافه، على أمل تعزيز التوازن الميداني بين هذا الجيش من جهة والمعارضة السورية المسلّحة من جهة أخرى، وذلك حرصاً على عدم ميل كفّة الميزان لصالح القوى المناهضة للسياسة الأميركية في المنطقة، وكذلك إستجابة لمطالب عربيّة في هذا المجال. لكن عندما إتخذ القرار بشنّ ضربة صاروخيّة من البوارج الحربيّة، من دون أيّ محاولة إجتياح ميداني، وحتى من دون تورّط مباشر لسلاح الجوّ فوق الأجواء السوريّة، جاءه تحذير أمني من قيادة الجيش الأميركي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل يُحذّره من أنّ شنّ هجوم بعشرات صواريخ "توماهوك" بالتزامن مع تحديد وقت زمني لانتهاء العمليّة العسكرية بهدف منع تفاقم الأمور إلى حرب إقليميّة شاملة قد لا يستجلب ردّاً من سوريا أو من القوى الحليفة لها، لكنّ فوائد هكذا هجوم ستكون كارثيّة. فالعلم المُسبق لقادة الجيش السوري أنّ الهجوم الأميركي محدّد ببضع ساعات فقط، يعني أوّلاً أنّ أيّ إنشقاق أو تمرّد لن يقع، ويعني ثانياً أنّ المعارضة المسلّحة لن تكون قادرة على تنفيذ أيّ هجوم مواز، ويعني ثالثاً أنّ قوّة الجيش السوري لن تتراجع إلا بشكل جزئي جداً، ما سيرفع معنويّاته لاحقاً، وسيُضعف معنويات خصومه، ويعني رابعاً أنّ قوّة الردع العسكريّة للجيش الأميركي ستُصبح محلّ تشكيك، ويعني خامساً أنّ التهديد بتدخّل عسكري أميركي مستقبلي لن يُؤخذ على محمل الجد… إلى ما هناك من تداعيات سيئّة على واشنطن وعلى القوى الحليفة!
القسم الثاني يُحذّره من أنّ شنّ هجوم بمئات صواريخ "توماهوك" على مدى يومين أو ثلاثة، وهو الخيار الذي فضّله أوباما بحسب المعلومات المُتداولة، سيؤدّي فعلاً الغرض العسكري من العمليّة لكنّه قد يُفجّر الوضع برمّته. فإذا كان صحيحاً أنّ هذا الخيار سيؤدّي إلى إضعاف الجيش السوري كما هو مخطّط له، أيّا كانت الأهداف المُستهدفة (مطارات، منصّات الصواريخ البعيدة المدى، رادارات وأجهزة الإتصالات، مخازن ذخيرة وثكنات رئيسة، إلخ.)، وسيسمح لقوى المعارضة السوريّة المسلّحة بتنفيذ هجمات ميدانية، وقد يتسبّب بضربة معنويّة لقوّات النظام وربّما بانشقاقات، فالأصحّ أنّ هذا الهجوم لا يُمكن أن يتمّ من دون ردّ من النظام السوري والقوى الحليفة، بحسب الخبراء العسكريّين الأميركيّين. وإذا كان خوف الإدارة الأميركية على استمرار تدفّق النفط يُشكّل مشكلة قابلة للحلّ، فإنّ من شأن الإنزلاق إلى عمليّة الردّ العسكري، والردّ المضاد، أن يُفجّر الوضع الإقليمي برمّته، ويُدخل إسرائيل في حرب لم تُخطّط لها في هذه المرحلة بالتحديد. ومن غير الممكن أن تكون الولايات المتحدة الأميركية هي المُسبّبة لانفجار الوضع، ثم تترك حليفتها الرئيسة من دون أيّ دعم عسكري، ما يعني حكماً تورّط أميركا في حرب جديدة، وليس مجرّد ضربات صاروخيّة محدّدة الحجم والفترة الزمنيّة.
وأمام هذه المعضلة، وجد الرئيس الأميركي نفسه غير قادر على تحمّل هذا "السيناريو" بشكل فردي، في ظلّ رفض الشعب الأميركي للدخول في حرب جديدة، وفي ظلّ فشل الحليف البريطاني القوي في تأمين الدعم المطلوب، وفي ظلّ خوف أو تردّد أو ضعف باقي القوى الحليفة لواشنطن. من هنا، قرّر أوباما رمي الكرة بيد الكونغرس الأميركي ليتحمّل ممثّلو الشعب الأميركي جميعهم مسؤولية أيّ انفجار شامل للوضع في الشرق الأوسط. إشارة هنا إلى أنّه كان بوسع الكونغرس الأميركي قطع عطلته المستمرّة حتى التاسع من الشهر الجاري، والتصويت على قرار "الضربة العسكريّة"، سلباً أو إيجاباً، لكنّه رفض تبنّي هذا البند الوارد في الدستور الأميركي، عَمداً، وذلك بهدف إتاحة المزيد من الوقت للخبراء الأميركيّين لدراسة الوضع الميداني، ولحشد المزيد من القوى العسكريّة في الشرق الأوسط، ولإتاحة الفرصة أيضاً لإسرائيل ولغيرها من القوى الحليفة، لإتمام إجراءاتها الدفاعيّة، ولتسويق فكرة الضربة أميركياً ودولياً، ولتحقيق أكبر كسب ممكن خلال المفاوضات المقبلة…
في الخلاصة، لا بد من الإشارة إلى أنّ الدستور الأميركي يمنح الكونغرس الأميركي وحده حق "إعلان الحرب"، بينما يحقّ للرئيس الأميركي التصرّف منفرداً في حال "الخطر الداهم". فهل سيرفض "الكونغرس"، مشروع الضربة ككل، أم أنّ وضع الكرة في يديه يهدف لأن يكون جاهزاً لإعلان الحرب في حال تدهور الوضع بشكل دراماتيكي في الشرق الأوسط، في حال الموافقة على الضربة التي صحيح أنها ستبدأ بعمليّة صاروخيّة محدودة، لكنّ الأصحّ أنّ أحداً لا أحد يستطيه التكّهن بكيفيّة نهايتها من اليوم؟!
ناجي س. البستاني – النشرة