بخلاف اجتهادات باقر سلمان النجار السوسيولوجية في «الحركات الدينية في الخليج العربي»،(1) للتوقف أمام إشكالية الأصولية الشيعية مع المجتمع والثقافة في البحرين، تناول كذلك كاتب هذه المقالة، من زاوية أنثروبولوجية، تلك الأشكالية من خلال «محنة فبراير البحرين» و«تسميم الكتابات الأكاديمية عن البحرين».(2) على أن هناك من الكتابات ما تتسم أيضاً باهميتها، فقد تناول كاتبان بحرينيان آخران، نادر كاظم وعلي الديري، كل على حدة جوانب من تلك الإشكالية، ولكن كان لكل منهما طريقته.
كان الأمل معقوداً في الأصل على هذين الكاتبين للوقوف النقدي على تلك الإشكالية من خلال توظيف أدواتهم النقدية والفكرية ضمن ما عُرف خلال السنوات السابقة بـ «النقد الثقافي»، وكذلك لجهة تجربتهما في محاولة الانعتاق من الولاءات العقائدية التي خلفتها سنوات إلتحاقهما بالإسلام السياسي؛ على أن تناولهما، حتي اللحظة، أتى برأينا مخيباً للآمال.
ففي محاولة منه لتقديم قراءة تاريخية مغايرة حول إشكالية الهوية والتعددية الثقافية في البحرين، قام نادر كاظم من خلال «استعمالات الذاكرة»،(3) بتقديم رؤية تاريخية تقوم على تكريس تلك المظلومية التاريخية للإنسان الشيعي في البحرين، بل ومقاربتها بحالة «الشتات» التي عاشها الإنسان اليهودي عبر التاريخ؛ كما خلت كتاباته من تقديم أي منظور نقدي للكهنوت الديني الشيعي، بل أكتفى بالغاء اللوم على التاريخ الحديث للبحرين الذي شهد برأيه فشل بناء الهوية الوطنية الجامعة والدولة الحديثة التي لم تستطعا برأية استيعاب التعددية الثقافية، الحجز الاساس الذي حاول من خلاله بناء إطروحته.
ففي «استعمالات الذاكرة»، قام نادر كاظم بتصوير نزوح بعض سكان القرى ورجال الدين إلى دول مجاورة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بسبب حال عدم الاستقرار التي شهدتها البحرين آنذاك على أنه «شتات عظيم» أو «الشتات البحريني الجماعي»، الذي امتد برأيه على مدى قرن ونصف من الزمان!!(4) حيث أن هذا «الشتات العظيم»، شبيه بشتات شيعة العراق في العقود الأخيرة من القرن العشرين، فإنه لا سبيل للحد من تأثيرات الحدث الأهم: «الذي افتتح سيرة الشتات البحريني العظيم، وهو الذي أسس «بنية الشعور» الجماعي بضياع «الوطن» وفقدان الانسجام في الهوية لدى شيعة البحرين»،(5) وحيث إن الدولة الحديثة في البحرين تعد غير مُنجزة، برأي الكاتب؛ ومن علامات ذلك استمرار عدم انخراط بعض شيعة البحرين في الهوية الوطنية، وتمسكهم بولاءاتهم الدينية، فلماذا الإصرار على الهوية الوطنية الجامعة، فالأجدى إذاً القبول بالتعددية!! وهنا نجد الكاتب يسرع إلى تقديم صيغة «البديل التوافقي» المستمدة من أطروحة «آرنت ليبهارت» باعتبارها الأكثر ملاءمة للمجتمعات التعددية،(6) والتي ستوفر ضمانة للأقليات التي تشعر بالخطر والتهديد من قبل الأقلية الحاكمة أو المُشرعة، وبرأي الكاتب فإن: «ما يجعل هذا النموذج ملائماً لمجتمع تعددي مثل البحرين هو أن البحرين دولة صغيرة ومحدودة السكان،» كما سيكون هناك أيضاً استغلال نسبي لكل جماعة في إدارة شؤونها.(7) جلي هنا أن نادر كاظم يريد منا أن نصل إلى نتيجة مفادها أن لا سبيل لإنهاء حالة الشتات التي يعيشها شيعة البحرين واستكمال مشروع الدولة غير المنجز، إلا القبول بالتعددية باعتبارها حالة طبيعية قائمة وأمراً لا مفر منه، وعليه يجب التخلي عن الهوية الوطنية الجامعة، أي أنه لا بديل للخروج من أزمة هذا الشتات إلا بتبني «دولة المواطنة الدستورية التوافقية»؛(8) حيث من المؤمل أن تترك هذه الدولة للمواطن الشيعي أن يحتفظ بولاءاته المتعددة، فما المانع في ظل هذ الدولة الجديدة أن يكون له ولاء وطني لبلده وآخر ديني للخارج، خاصة أن: «دور «الحكومة الأول والأخير» في المجتمعات التعددية يصبح مقصوراً على الحفاظ على السلام العام، وحماية التنوع الثقافي من خلال دعم تقليد أو أسلوب حياة على حساب الآخر.»(9)
وعندما أُتيح لنادر كاظم الفرصة ثانية للتوقف نقدياً أمام مرارة تجربة الأصولية الشيعية في البحرين، خاصة في ضوء المحنة التي أوقعت تلك الأصولية المجتع البحريني فيها، أشاح بوجهة عن تناولها في «إنقاذ الأمل».(10) فهذا المؤلف الذي عّدهُ بعضاً من قام بعرضة وتناوله في الكتابات الثقافية: «قراءة في اتجاهين لثورات وانتفاضات «الربيع العربي»، اتجاه أول يذهب إلى قراءة حفرية في الجذور التاريخية التي مثلت «إنقاذ الأمل» لشعوب هذه المنطقة منذ مطلع القرن التاسع عشر.
واتجاه آخر يرمي يستشرف المستقبل، في محاولة من أجل قراءة مآلات «الربيع العربي» ومصائره المحتملة، ليضع الكاتب في مجادلة الأفكار».(11) على أن لا كاتب هذه المراجعة، ولا الكاتب البحريني حسن مدن الذي تناول «إنقاذ الأمل» في ثلاث أعمده من كتابات بصحيفة «الأيام» البحرينية،(12) حيث عدهُ المحاولة البحرينية الأولى للمساهمة في النقاش العربي حول «الربيع العربي»، تسائلا عن السبب وراء امتناع نادر كاظم عن تناول ما عاشته البحرين من محنة طائفية خلال سنوات فوضى «الربيع العربي»، حيث تحولت تلك المحنة، التي تسببت فيها تلك الأصولية، من واقع طائفي مؤلم ومرير إلى إنتفاضة وثورة!! أين نادر كاظم وعلي الديري من تلك المحنة في مؤلفاتهم الجديدة «خارج الطائفة» و«إنقاذ الأمل»؟! أين أولئك الكتاب العرب الذين لم تتوقف إشداتهم بهذه المؤلفات من مشروعية التساؤل عن إحجام كاظم والديري عن تناول تجارب تلك الأصولية في وطنهم البحرين؟!
أما علي الديري صاحب «خارج الطائفة»، فقد قدم هو الآخر محاولة متعثرة للتوقف أمام الإشكالية التاريخية والثقافية التي عملت الأصولية الشيعية على خلقها أمام عمليات تشكل الهوية والمواطنة والانتماء الوطني، وذلك من خلال تكريس مفهوم التنوع والتعدد الثقافي المفضي إلى تكريس التمايز والخصوصية الطائفية، بصفتها هوية وانتماء ثقافي، تستطيع من خلاله قوى الأصولية الشيعية من مواصلة توظيفها في صراعات القوة والسلطة التي تخوضها في البحرين، إقتداءً بتجاربها المريرة في لبنان والعراق.
وهكذا أكتفى الديري، وهو المعروف عنه دراسته لفكر محمد أركون وعلي شريعتي، بالغوص في جوانب من أزمته الوجودية بين الدين والعلمانية، بعيداً عن الواقع المُعاش الذي يُمارس من خلال الكهنوت الأصولي الشيعي في البحرين هيمنتهِِ الدينية اجتماعياً وثقافياً.
عبدالله عبدالرحمن يتيم