ليس جديــدا علــى اللبنانييـن أن يوقّع الرصاص والدخان بقوة على صفحة يومهم ، فالذاكرة متخمة والدفاتر القديمة تكاد تتقيأ ما تحتويه من احتراب ودم شكّل مزاج لبنان لسنوات طويلة.
ولكنه اليوم يعود من بوابة الحديث الطويل والممجوج عن المقاومة وما يحاك لهذه المقاومة من مؤامرات، والمقاومة هنا هي مقاومة حزب الله الذي أسس خطابه الدعوي والسياسي على هدي من نظرية ولاية الفقيه ، وهو بهذا الارتباط يعلن دون مواربة عن ولائه الكامل للمشروع الإيراني القائم حلم قيام دولة المذهب الكبرى أو الدولة الشيعية العظمى،وهو الحلم الذي لا تخجل إيران من التصريح عنه في غير مناسبة.
فبيروت المبتلاة بالكثير من الهواجس وبشهية حزب الله ، تقف اليوم ووجهها مكشوف لكل الاحتمالات ، فالحديث من جديد عن العودة لحالة الاستقطاب المذهبية والفئوية سيجعل خارطة السياسة اللبنانية قابلة للتفكيك تمهيدا لإعادة ترتيبها وفقا لأهواء ورغبات وأحلام المشاريع الإقليمية التي طالما عانى منها لبنان عبر مراحل الصراع التي عصفت به سابقا.
وحين يكون الحديث عن حزب الله لا بد من الوقوف عند إستراتجية هذا الحزب وطموحاته في لبنان وفي المنطقة عموما ، فمن الظلم أن نصنف هذا الحزب كما تصنف الأحزاب الأخرى يمينا ويسارا،لأنه خرج من الشكل المعهود للتشكيل الحزبي بمفهومه التنظيمي والسياسي وأصبح دولة بكامل مواصفاتها ، فمربعاته الأمنية ومنظومات اتصالاته وجيشه المزود بمختلف أصناف الأسلحة سيجعل الحديث عنه كحزب في فسيفساء السياسة اللبنانية ساذجا، فعمليا أصبحت الدولة اللبنانية تقف في الظل بعد أن تقدمت جمهورية الضاحية الجنوبية لتقف في الواجهة مهددة ومنذرة ومعطلة وصانعة للكثير من القرارات المفصلية السيادية التي كرست غياب الدولة وانزوائها تحت مظلة المشروع الإيراني.
والمتمعن بخطاب حسن نصرالله في احتفالية ذكرى (النصر ) في حرب 2006والذي جاء بُعيد تفجير بئر العبد سيصل إلى حقيقة أن حزب الله قطعا شوطا طويلا في التأسيس للدولة البديلة ، ونلمح ذلك في قول نصرالله: (إذا كنتم تعملون لدى الإسرائيلي فإننا نعرفكم وأيدينا ستصل إليكم إذا الدولة أهملتكم)، فحزب الله يستطيع في لحظة أن يتخذ قرارا عسكريا أ أمنيا دون العودة لمرجعيات الدولة اللبنانية، وهو بكل الأحوال لن يتشارك جهده الاستخباراتي والعسكري مع الدولة الحاضنة ، لأنه يرى أن له كيانا يحمل شكلا من أشكال الاستقلال والسيادية ، وهي العناصر الرئيسة لبناء الدولة .
ومن باب التقية السياسية المتأتية من تقيته الأيديولوجية يذهب نصرالله لممارسة حالة من الخداع والشعوذة السياسية حين يقول في ذات الخطاب: (لسنا بديلا عن الدولة، لكن في كل مجال الدولة لن تتحمل فيه مسؤوليتها، فنحن سنتحمل المسؤوليـة)، فهو من جانب يريد الاستمرار في مسلسل استمالة بعض من استمرأ الخديعــة مـن كافـــة الأطيــاف السيـاسيــة وبتنـوع مشاربهـم الفكريـة ، ومن جانب آخر يفرض أمرا واقعا بأن للحزب يدٌ طائلة تستطيع أن تتحرك في كل الاتجاهات ، وتستطيع تطويع المعادلة السياسية في لبنان كيفما شاءت لتصب مخرجاتها في مصلحة الحزب الدولة.
وحتى لا تبقى الدولة اللبنانية رهينة لأحلام وأوهام جمهورية الضاحية الجنوبية عليها أن تبادر للخلاص من الشرَك الإيراني وفرض معادة الأمن على كافة أراضيها دون أية اعتبارات جهوية أو طائفية، وسوى ذلك سيبقى لبنان يدور في فلك المشاريع الإقليمية ليزداد هشاشة فوق هشاشة بنائه السياسي المعهود .
زكريا النوايسة