في الثلاثين من يونيو، احتشد المصريون في موقعين متباينين من العاصمة القاهرة، وبإعداد كبيرة.
طالب أحد الحشدين، مؤيداً من أحزاب جبهة الإنقاذ المصرية، المعارضة للرئيس محمد مرسي، بانتخابات رئاسية مبكرة؛ بينما أعلن الحشد الآخر تأييده للرئيس وشرعيته.
ثار جدل كبير في مصر وخارجها حول أحجام الحشود في يوم انقسام المصريين الحاد؛ وبالرغم من أن القراءات العلمية المدققة في الأرقام التي تم تداولها حول حجم المعارضين للرئيس أكدت أن تلك الأحجام قد بولغ فيها بصورة سياسية فجة، فما حدد مصير الرئيس مرسي، في ختام العام الأول من ولايته، لم يكن حجم الحشود.
خلال اليومين التاليين لثلاثين يونيو، شهدت مراكز القوة في الدولة المصرية، وخطوط الاتصال بين العاصمة المصرية وعواصم غربية بارزة، نشاطاً محموماً.
سيمر زمن، ربما، قبل أن نعرف تفاصيل مداولات تلك الأيام الثلاثة المفصلية من تاريخ مصر، ولكننا نعرف ما حدث في نهايتها.
بدلاً من اتخاذ موقف محايد من معسكري الانقسام السياسي والشعبي، اختارت الدولة المصرية، والجيش، ذراعها الأقوى، الانحياز لمعسكر المعارضين.
وفي مساء يوم الثالث من يوليو، اتخذت الدولة المصرية، ممثلة بالجيش، قرار الإطاحة بالرئيس المنتخب، وأعلن القائد العام للقوات المسلحة، محاطاً بأكبر شخصيتين دينيتين في البلاد، شيخ الأزهر ورأس الكنيسة القبطية، وبعدد من السياسيين والنشطين الشبان وقيادات القوات المسلحة، خارطة طريق المستقبل.
لم تكن إطاحة الرئيس مطلباً لمتظاهري 30 يونيو، وليس من الواضح الآن طبيعة العلاقة بين كبار رجال الدولة والقوات المسلحة والحراك الشعبي المعارض للرئيس مرسي.
ولكن المؤكد، في ظل الانقسام الذي ساد الساحة السياسية في الأشهر القليلة السابقة على يوليو، أن لا القوى السياسية ولا الحشود الشعبية المعارضة لحكم مرسي كانت تملك القدرة أو الشرعية الكافية لإطاحته. من دون الدور الذي تعهدت به دوائر الدولة لإظهار إدارة مرسي في صورة الإدارة الفاشلة، ومن دون تدخل الجيش، ما كان لمساء الثالث من يوليو أن ينتهي إلى ما انتهى إليه.
والمرجح، وليس هناك من الأدلة ما يكفي للتيقن، أن التوقع كان أن إطاحة مرسي لن تثير أكثر من معارضة محدودة، جزئية، وقصيرة المدى، سيما وأن خارطة الطريق وعدت بالعودة إلى مسار انتخابي خلال شهور وأن الجيش لم يتول الحكم بصورة سافرة، كما هي الانقلابات العسكرية في نسختها الكلاسيكية.
ولكن جملة الإجراءات التي رافقت الإعلان عن خارطة الطريق، ابتداء من تعليق العمل بالدستور، حل مجلس الشورى، اعتقال الرئيس وعدد من مساعديه، إغلاق محطات تلفزة وصحف، صدور أوامر من أجهزة النيابة العامة بضبط وإحضار عدد من القيادات الإسلامية، سرعان ما ولدت مفعولاً معاكساً لوعود العودة إلى المسار الانتخابي.
مهما كان الأمر، فبدلا من إقرار المصريين بالأمر الواقع الجديد، اندلعت حركة احتجاج شعبية واسعة النطاق، سواء في العاصمة المصرية، أو في مدن المحافظات الأخرى.
لم تواجه حركة الاحتجاج بأي درجة من التسامح، وبدأت السلطات الجديدة بمحاولة احتواء الحراك الاحتجاجي بالقوة.
لم تعالج إطاحة الرئيس المنتخب حالة الانقسام السياسي، بل فاقمته؛ لم تستطع معالجة جوانب الضعف والتأزم في منظومة مصر الاقتصادية وماليتها العامة، بل جعلتهما أكثر تأزماً؛ ولم تنجح في صناعة استقرار سريع للبلاد، بل تكاد أن تدفع نهو انهيار واسع في السلم العام. فإلى أين تتجه مصر؟
الاحتمال الأول: أن تعود مصر، بصورة أو أخرى، إلى الوضع السابق على 3 يوليو، وأن تلتقي قواها السياسية الرئيسة لمحاولة استكشاف خارطة طريق جديدة، تخرج البلاد من واحدة من أكبر الأزمات التي عاشتها منذ عقود طويلة.
مثل هذا المسار التراجعي لن يستطيع أن يبدأه سوى الجيش؛ إذ لم يعد ثمة شك، بعد مرور الأيام والأسابيع، أن الجيش هو القوة الرئيسة في نظام مصر السياسي الجديد، وأنه بالرغم من توكيدات القيادات العسكرية المتكررة، في العلن وفي الاتصالات الخاصة، على أن الجيش لا يريد ولا يسعى للحكم، فالواضح أن الجيش لم يعد شريكاً غير مباشر في الحكم وحسب، كما كان عليه الوضع منذ عقود، بل الطرف الرئيس في صناعة القرار.
العودة عن قرارات 3 يوليو وما بعدها، يعني أن تدرك قيادة القوات المسلحة أن النتائج لم تأت بحجم التوقعات، وأن الخسائر أكبر من المردود، وأن الأزمة تزداد تعقيداً.
ما يمكن أن يساعد على التراجع، أن التحالف الوطني لمساندة الشرعية، الذي يشكل الإخوان المسلمون طرفاً رئيسياً فيه، أبدى استعداداً ملموساً منذ 3 يوليو للبحث في كافة المطالب التي رفعتها الحركة المعارضة للرئيس مرسي، طالما أن الشرعية الدستورية قد استعيدت، وهو ما يمكن أن يستشف منه أن العودة إلى ما قبل 3 يوليو، قد يتبعها رسم خارطة طريق جديدة للخروج من الأزمة، بما في ذلك وضع آلية شرعية لتعديل الدستور والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة.
الاحتمال الثاني: أن يبدأ تفاوض جاد بين أطراف الأزمة، مدنيين وعسكريين، من أجل التوصل إلى حل مرض لكافة أطراف الأزمة، يفتح المجال لعودة مصر إلى مسار ديمقراطي، حر، ويخرج الجيش نهائياً، وبصورة قاطعة، من الحياة السياسية.
مثل هذا الخيار هو ما حاوله المبعوثان الأميركي والأوروبي، بمساعدة من وزير الخارجية القطري، في جهود الوساطة التي بذلت في الأسبوع الأول من أغسطس.
وطبقاً للمبعوث الأوروبي، فإن اقتراحاً قدم لإجراءات يتخذها الطرفان الرئيسيان، تمهد لبدء التفاوض، قد قبل بالفعل من التحالف الوطني لدعم الشرعية. فشل جولة الوساطة والتفاوض تلك، لا يعني بالضرورة عدم المحاولة من جديد، سيما من قبل الدول العربية والغربية الصديقة لمصر وقواها السياسية الرئيسية، والحريصة على أن تتجنب مصر مزيداً من التدهور السياسي.
المسألة الأساسية، أن قنوات التفاوض بين تحالف الشرعية وقيادات الجيش لم تزل مفتوحة، بالرغم من الدماء الغزيرة التي سفكت في الأسابيع الماضية، وبالرغم من فشل جولة التفاوض الأولى، ولكن ما يرشح بهذا الخصوص يشير إلى أن قيادات الجيش لم تبادر بعد إلى طرح أي تصور يمكن أن يصلح لبداية جديدة.
وليس ثمة شك في أن قيادات الجيش وحكومة الببلاوي هي المطالبة بالمبادرة لأنها ببساطة الماسكة بمقاليد الحكم والسلطة
الواضح، على أية حال، أن هذين الاحتمالين هما الأضعف تحققاً في هذه اللحظة. وثمة عدد من التطورات، وعدد من المؤشرات، لا يبعث على التفاؤل:
أولاً، خلال الأسابيع السابقة، غرقت البلاد في بحر من الدماء، التي بدا في معظم الحالات أنها تسفك لمجرد إيصال رسالة حزم وقوة وصلابة من حكم يواجه ما لم يتوقعه. ولأن سفك الدماء في عالم اليوم لا يمكن أن يذهب بلا حساب، فمن الصعب على قادة نظام 3 يوليو التخلي الآن عن الحكم والسلطة. والدماء، عادة، ما تجر دماء جديدة، تزيد الوضع تفاقماً وتعقيداً.
ثانياً، لأن مصر دولة عربية كبرى، فإن شأن مصر لا يخص المصريين وحسب.
ثمة دول عربية لم تخف مساندتها لثورة يناير 2011، ودول أخرى اعتبرت أن حركة الثورة العربية، ومضي مصر نحو إقامة نظام ديمقراطي، تعددي، حر، يشكل تهديداً مصيرياً لها. دول المجموعة الثانية، لعبت دوراً لا يخفى في دفع مصر نحو النكوص عن نهج يناير 2011، وتلعب دوراً بارزاً الآن، دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً مالياً، من أجل إيقاع هزيمة قاطعة ليس فقط بالإسلاميين وأنصار الرئيس محمد مرسي، بل وكافة القوى التي تماهت مع ثورة يناير.
أما السبب الثالث، فيتعلق ببعض الشخصيات والقوى السياسية الملتفة حول الانقلاب، سواء وصفوا بالليبرالية أم لقومية أم الوطنية المصرية، وسواء كانوا من أنصار نظام مبارك أم معارضيه، الذين ينزعون نزعة استئصالية لا تخفى.
يدرك أغلب هؤلاء أن لا أمل له في الوصول إلى الحكم من خلال انتخابات عادلة وشفافة، ويرغب بالتالي في أن تخلو الساحة السياسية كلية من القوى الإسلامية ذات الوزن الشعبي.
وتشير حركة اعتقالات واسعة النطاق للمئات، وربما الآلاف، من القيادات الإسلامية والعناصر النشطة في معارضة نظام الانقلاب، إلى مظاهر الضيق بأي صوت عقلاني في النظام الجديد، كما أظهرت حالة البرادعي، إلى أن توجهات استئصال المعارضين تغلب على توجهات التفاوض والحلول الوسط.
وإن استمر النهج الحالي على ما هو عليه، فليس من المستبعد أن تشهد مصر جولة قمع أخرى لناشطي ثورة يناير ثاني من غير الإسلاميين، حتى أولئك الذين عارضوا حكم الرئيس مرسي أو شاركوا في المظاهرات ضده.
ليس من الصحيح، ولا الحكمة، بالطبع، استبعاد كلا الاحتمالين كلية. لم تزل البلاد تعيش حالة من عدم استقرار واسع وعميق، يمكن أن تدفع في لحظات أياً من الاحتمالات إلى المقدمة.
ولكن، إن قبلنا فرضية ضعف هذين الاحتمالين، فإلى أين يمكن أن ذهب مصر؟
أن ينجح نظام 3 يوليو في ترسيخ أقدامه بالفعل، لا بالقوة كما هو الوضع الآن، لم يعد احتمالاً مطروحاً، بعد أن عجز عن توكيد شرعيته لدى أغلبية المصريين الساحقة، واختار طريق مواجهة الخصوم بقوة السلاح والاعتقالات وأساليب العزل السياسي غير المعلنة.
إن لم تعد البلاد إلى وضع الشرعية الدستورية السابق، وتحاول من هناك البحث عن خارطة طريق جديدة، أو تتوصل أطراف الأزمة إلى حل تفاوضي، كريم، ومقبول من الأغلبية المصرية، فإن المناخ السياسي الحالي يحمل بذور دفع مصر إلى هاوية من انفجار العنف.
لا يعني هذا بالضرورة لجوء الإخوان أو حلفائهم من القوى الإسلامية إلى العنف؛ ولكن هذا بلد التسعين مليوناً من البشر، أغلبهم من الشباب، يعيشون الآن مناخاً من المظلومية، وانحسار الحريات، وضيق مساحة التعبير، والثأر.
ولأن قدر مصر أن تقود، فإما أن تقود مجالها العربي نحو عهد من الحرية والكرامة الإنسانية، أو إلى مرحلة من العنف والفوضى السياسية وتقويض المعاش الإنساني وانهيار الدولة.
د. بشير موسى نافع