كانت سياسة حافظ الأسد هي في تحويل حقوق المواطنين العادية إلى عطاءات إلهية، على المواطنين، عند الحصول على كل حق من هذه الحقوق، إقامة صلاة الشكر للأب القائد على منحه وعطاياه بما في ذلك صلاة الاستسقاء.
في البداية كان السوريون يستهجنون ذلك، ويعرفون أن هذه الحقوق إنما هي من واجبات الدولة تجاههم، ولكن مع مرور الأيام والدعاية الإعلامية للنظام، التي كانت تقدم القائد على صورة الأب الذي يقتلع الشوك بيديه كي يطعم أطفاله، مظهرة حجم معاناته وهو يفكر في تأمين لقمة العيش الكريم لملايين المواطنين, تحول حق المواطن إلى مكرمة يعطيها الزعيم عندما يريد أن يقول للناس إنه يحبهم ويفضلهم على نفسه، وما عليهم بعد ذلك إلا رد الجميل له وفوراً عبر الطاعة العمياء وتنزيهه عن الخطأ والمحاسبة، والسجود لصورته ولاسمه في السر والعلن.
ومع استمرار الأسد بالسلطة بدأ جهاز أمنه في تكريس صورته كإله يجب تقديم الضحايا البشرية لاسترضائه كي لا يغضب فيقطع عطاءاته عن البشر، ولما كان من الصعب ذبح الناس، أمام العالم، كي يروي دمهم عطش زعيم القبيلة المتحول إلى إله، فقد تم الاكتفاء بممارسة الطقس الرمزي الذي يدل على الذبيحة وهي إرسال البرقيات المكتوبة بالدم البشري إلى الأب والقائد إلى الأبد الرئيس حافظ الأسد، يعلن فيها المواطنون، بما فيهم قيادات حزبية علمانية، الولاء الأبدي للزعيم-الإله.
كان لا بد لتلك السياسة أن تتسع دائرتها وتعم كل المقربين من الرئيس وعائلته وحزبه وأحياناً طائفته، الذين حولوا الدولة السورية إلى مزرعة شخصية، لا يمكن الحصول على بعض خيراتها إلا مقابل ثمن يدفعه المواطن السوري. وهكذا تحولت قيم المجتمع، فأصبحت الرشوة مثلاً، كسلوك مرذول، مهارة وشطارة، وأصبح الموظف الشريف رجلاً غبياً، والإنسان المتديّن إرهابياً، والمدرسة هبة للأطفال، والجامعة شهادة غفران ومحبة ومن عطايا القائد.
في هذه المنظومة الكاملة من الفساد، لم يعد يستطيع السوري أو السورية الحصول على أبسط حقوقه، ومنها مثلاً الحصول على جواز سفر إلا بعد سلسلة عمليات إرهاب وتطويع وابتزاز، وكل ذلك بحجة أمن الوطن، وهذا ما حدث معي شخصياً عندما حاولت الحصول على جواز سفر:
كان طلبي للحصول على جواز سفر قد رفض عام ٨٦، وكنت بحاجة ماسة له للسفر والعمل. تدخل أحد الأصدقاء وعرفني على رئيس اتحاد الفلاحين في حماه، فدعوته على الغداء ورويت له القصة، فعرفني بعد ذلك بدوره على نقيب المعلمين في حماه، فدعوته بدوره مع رئيس اتحاد الفلاحين على الغداء كي أروي له قصة جواز السفر. عرفني الأخير على أحد الموظفين في مكتب المحافظ ثم قائد الجيش الشعبي ثم كان لنا سهرة عند النور في حمص في جورة العرايس، أخيراً تعرّفت على رئيس قسم التحقيق في فرع المخابرات في حماه، الذي هو من يقرر منحي جواز سفر أو لا. وفي إحدى زياراتي لهذا الضابط سمعت منه مباشرة شهادة حية عن عدد الذين قتلهم بيده في حماه. كان في مكتبه فلاحان من قرية تقع على طريق حمص، وقد اختلفا أكثر من مرة مما انعكس خلافاً حاداً بين عشيرتي القرية، فقال لهما ضابط الأمن حرفياً كما أذكر: ليكن بعلمكما أنني قتلت بيدي هاتين اثنين وخمسين حموياً، وفي المرة القادمة التي تختلفان فيها سيكون الرقم اربعة وخمسين، يالله انقلعوا من هون.
حصلت على جواز سفري بعد عام، وقد كلفتني دعوات الغداء تلك ٢٢ ألف ليرة سورية في ذلك الوقت وقطع آلاف الكيلومترات ومئات الكذبات والابتسامات والمجاملات ووووووووكل ما يعرفه السوريون !!.
ميخائيل سعد
زمان الوصل