وصلت العربة التي تقله إلى مكان عمله، اتجه مسرعا إلى حيث مكتبه.. كانت ما تزال كلمات د. نصري ترن بأذنيه، كناقوس تقرعه كنيس، جعلته يتخبط بتفكيره يمينا وشمالا، لم يصل إلى احتمال منطقي لهذه الدعوة العاجلة .. أو انه لم يشأ أن يبتعد في تحليلاته، فلا يستبق الأحداث ،عله لا يقع فريسة شيطان الوسواس الذي هيمن على عقله.
مر على سكرتيرته، دون أن يلتفت أو يترك تحيته الصباحية التي تصاحبها ابتسامته المعتادة ! لحقت به على عجالة، كانت واجمة مضطربة، كررت نداءها عليه : باش مهندس إبراهيم ، إليك ملف القضية الخاصة بتعويضات مراسلنا قيد العلاج ما يزال في المستشفى.. في هذه اللحظات، لم يكن يسمع سوى صخب من الأصوات يقرع في أذنيه .. باش مهندس.. لم يجبها ؟ اصفر لونها، شعرت بخوف يجتاحها، فارتجفت قدماها، وارتعشت يداها، و ما تزال تحمل ذاك الملف، حتى بدت وريقاته تتراقص كأنها تريد السقوط لا محالة.. لكنها استعادت رباطة جأشها وتقدمت: وضعته أمامه .. استجمعت قواها بسؤالها: تأمرني بشيء آخر باش مهندس.. لا إجابة منه، فإبراهيم كان سارحا في طنين أذنيه، غارقا في دوامة من التحليلات أقلها كان مرعبا ؟.. استدارت راجعة للخلف، وقد أمسكت بيدها على مقبض باب المكتب، و تسمرت مكانها بلا حركة حين سمعت نداءه لها !…
– روان ، أين الملف ؟ لا وقت لدى، سأوقع عليه سريعا فلابد لي من الخروج فورا.. كان مبعثر الكلمات، شاخص بصره نحو نافذته المطلة على الميناء مباشرة .
– أمامك، على المكتب جاهزا منذ لحظات، أجابته.. تقدمت نحوه من جديد .. لا عليك ينتابني توتر ما، عذرا .. تستطيعي أن تلغى كل مواعيدي لهذا اليوم، سأغادر بعد ساعة من الآن، وفى حالة الطوارئ يمكنك الاتصال عبر هاتفي الخاص، انسحبت بهدوء تام وقد تنفست الصعداء،واستعادت توازنها وتبدد قلقها ..
بدأ بتقليب تقارير تكلفة إقامة المراسل وعلاجه، وتعويضات أخرى وفواتير ومعاملات قد تمت بحاجة إلى توقيعه.. حيث أشر عليها سريعا بالموافقة، أغلق الملف وتركه كما هو في مكانه و استعد للخروج بعد أن أوعز لسائقه بالتحرك إلى المصحة التخصصية.
لا يعرف كيف أوصله سائقه للمكان، دخل يجر قدميه بتثاقل واضح.. اقترب من السكرتارية، فأشاروا له بالانتظار في داخل مكتب الطبيب ، كما هي تعليماته في حال وصول إبراهيم قبل أن ينهى جولته اليومية على الأقسام، بصفته رئيسا للقسم التي تخضع نجوى للعلاج والمتابعة فيه .
نصف ساعة انقضت.. طلب خلالها من السكرتارية مهدئ للصداع، فوافوه فورا بالمهدئ مع كأس من الماء، و اتبعته بفنجان من القهوة، نصف ساعة مضت بالتمام.. وإذا بالطبيب يدخل المكتب، فوقف يسلم عليه وفى عينيه أكثر من تساؤل حائر، في انتظار إجابة علها تريح أعصابه، وتخفف من توتره ..
– إبراهيم، أنت مثقف وعلى درجة من الوعي والعلم والمسئولية، تجعلني أصارحك بان الوضع الآن يتأزم جدا، وقد صدقت توقعات فريقنا المشرف.. لقد أنقذنا نجوى الليلة الماضية من محاولة انتحار مؤكدة في الدقائق الأخيرة…
– ماذا تقول ؟محاولة انتحار يا دكتور نصرى ! كان قد انتفض واقفا، ضرب كفه على جبينه، ثم ما لبث أن اسقط بجسده على الكرسي مستسلما، لقدر بدأت تتضح معالمه جيدا بشكل لا يقبل التأويل أو الجدل، في استعصاء حالتها من شفاء قريب أو منظور .
لكنه استفاق على كلمات أوحت له بوجود بارقة أمل، عندما سمعه يقول: سنجرب معها الصدمة المرتجعة ؟ هي محاولة تتلخص في عمل لقاء مع أطفالها على وجه السرعة، وليكن غدا ..
– أيمكن ذلك يا دكتور ؟ أيعقل بعد أن أخبرتهم بان أمهم في دراسة خارج البلاد.. كيف لي أن أتدبر الأمر الآن ؟ لكن لا باس، سأتوصل إلى حل ما ..
– لكن كن حذرا، لقد أخبرتني بوجود ابنة كبرى فماذا ستفعل ؟
– سأواجهها بالحقيقة، ابنتي سلوى يجب أن تعلم الآن كل الحقيقة التي أخفيتها عنهم جميعا، فهي في المرحلة الثانوية، وعقلها سيدرك كل الأمور، نعم يا دكتور وبخصوص الأطفال سأجد حلا مناسبا ..
– أنصحك فعلا بمواجهتها بينك وبينها على انفراد، دون أن يسمع احد من الأطفال حديثكما.. وسأنتظركم جميعا غدا على منتصف النهار إن شاء الله، إنها محاولة علاجية كما جاءت بإجماع اللجنة المختصة، والمتابعة لحالتها، ونتمنى أن تكلل بالنجاح، وان يكون تأثير الصدمة مجديا .
ودعه على عجالة، كمن يريد استباق الزمن وترتيب الأفكار، وشرح الأمور لابنته التي تشغل تفكيره الآن بجدية لا مثيل لها، فالموقف لن يكون سهلا كما الأمر بالنسبة لأطفاله الصغار .. قفل عائدا بصحبة سائقه، وطوال الطريق تلبسه صخب غريب لم يعتده من قبل..حتى كادت رأسه تنفصل عن جسده متطايرة، من هول الضجيج الذي تملكه.
وصل البيت.. دلف إلى غرفة نومه مباشرة، لترتيب أفكاره التي تسارعت واختمرت في رأسه طوال الطريق، يريد أن يستجمعها ويرتبها ، فقد اهتدى إلى اختراع قصة تبدو سهلة ومقبولة لهم، في أن يقول لهم: عادت أمكم اليوم في الطائرة، ولكن تم نقل جميع ركابها إلى مستشفى خاص لوعكة ألمت بالجميع نتيجة لأكلهم طعام فاسد.. كانت فكرة سديدة ومنطقية، لكن كيف سيكون وقع الحقيقة على ابنته؟ أشعل سيجارته، ادخل سمومها عميقا في رئتيه،شعر باسترخاء، نفثها في الهواء باتجاه الحائط المجاور.. هناك كانت صورة زوجته نجوى، ابتسم لها ابتسامة حزينة، دعا لها بالشفاء العاجل وبان يكون غدا مجديا لها.. أشاح بنظره جهة مطفأة السجائر، فانتبه إلى جهازه الحاسوب، فابتسم له ابتسامة أمل، شعر بقوة لمواجهة الأحداث، أحس بداخله بأنه أكثر ثقة وتوازنا، ليواجه الموقف بكل حسم وحرص وحذر.. فلا وقت يضيعه في التردد، فالميعاد تقرر غدا، والخبر بالتأكيد لن يكون هينا على ابنته.. والاهم من كل هذا، ماذا سيكون وقع لقاء نجوى بأطفالها وابنتها الكبرى على نفسها؟ ومدى انعكاساته عليها وعليهم لاحقا.. صخب من التساؤلات يغلفها الرجاء والأمل والتضرع إلى الله ، جميعها كانت تتزاحم في عقله.. قبل أن يسمع نداء أم سعد للعشاء .
– يتبع –
إلى اللقاء.