الدرس الأول في الفلسفة
قصة بقلم: نبيل عودة
الدكتور منصور، أو الفيلسوف منصور، كما تعرفه الأوساط الأكاديمية، محاضر جامعي رئيسي في موضوع الفلسفة، وكعادته يستقبل دائما طلاب السنة الأولى بكلمة توضيحية تجعلهم يحتارون اذا كانوا قد اختاروا الموضوع المناسب لهم، أو انهم تورطوا بموضوع لا يستطيعون الاستمرار فيه. وكان يعرف انه بعد السنة الأولى والثانية لا يستمر في دراسة مادة الفلسفة الا أقل من ربع الطلاب.
دخل قاعة المحاضرات، رتّب أوراقه على المنضدة أمامه، وجال بنظره يتفحّص وجوه طلاب السنة الأولى.. فارضاً صمتاً متوتراً. وبدأ حديثه مباشرة دون كلمات تعريف به كما تجري العادة لدى محاضرين آخرين، وكأنه يواصل حديثاً انقطع:
عندما اخترت دراسة الفلسفة، توهّمت أن أحظى بفهم واع لمعنى الأشياء. كان من نصيبنا أستاذ شاب حصل على البروفسوراة بجيل السابعة والعشرين، شعره لا يعرف التمشيط، ملابسه غير متناسقة الألوان ولا تعطيه مظهر بروفسور كبير في مؤسسة أكاديمية.. وقف أمامنا لفترة شعرناها دهراً، حتى بدأنا نتهامس ونثرثر ونتساءل ان كان قد أصابه شيء. وفجأة انطلق صوته فارضاً الصمت على الطلاب في القاعة. قال: “اذا أردتم ان تدرسوا الفلسفة، ضعوا جانبا كل ما تحملوه بعقولكم من لحظة دخولكم الى هذه القاعة. وابدأوا من الآن في تكوين إدراككم الجديد، ومعارفكم الجديدة، ووعيكم الجديد والأهم، ابدأوا التفكير بطريقة مختلفة.. ابنوا ذاكرة جديدة.. ربما كلماتي عصية على فهمكم الآن، ولكنها ستكون ممتعة اذا نجحتم في هذه المهمة الأخطر في السيطرة على تنمية تفكيركم الفلسفي وعقلكم الفلسفيبدءاً من هذه اللحظة”.
وقال أيضا: “السؤال في الفلسفة لا يقاس بالحجم، كبير او صغير، انما يقاس بالمضمون.. وفي الفلسفة لا يوجد سؤال مستقل ونهائي، في الفلسفة كل سؤال يثير مجموعة أسئلة أخرى، والأسئلة الأخرى تثير أسئلة أخرى عديدة، والأسئلة تمتد بلا توقف الى أدنى والى أدنى أكثر، والى أعلى والى أعلى أعلى.. بلا حدود، بلا حواجز، بلا عجز عن الولوج الى ما يعتبر مناطق محظورة. لا مناطق محظورة في الفلسفة، كل شيء يخضع للعقل.. للإدراك.. للتفكير.. للتساؤل اللانهائي.
اذا انتهت الإسئلة تنتهي الفلسفة. واذا انتهت الفلسفة تفقد الحياة معناها وقيمتها، لأننا نفتقد الوعي، والوعي هو ما يميز الانسان عن عالم سائر المخلوقات، أما اذا اقتنع الشخص أنه وصل لحقيقة ما، يراها ثابتة غير قابلة للنقد او للنقض، أنصحه ان يصبح رجل دين… هناك الكثير من الحقائق التي تريح عقله وتوقف إدراكه. وثم سألنا: “ماذا يعني كل هذا؟ وكيف تدركون الأشياء بمنظار فلسفي، وليس بمنظار التلقين الذي كنتم ضحاياه، والآن علينا اولاً ان نخلصكم من آثاره المدمرة، وعلاجكم لن يكون سهلاً، كما ان علاجنا ونحن في جيلكم لم يكن سهلا، ولا يبدو ان مسؤولي جهاز التعليم قد استوعبوا الدرس”.
توقف الدكتور منصور، أجال نظره بالطلاب وسأل:
هل يريد أحدكم ان يقول شيئا؟
ساد صمت ثقيل.. وتجرأتْ بعد برهة غير قصيرة، طالبةٌ رفعت إصبعها بتردد:
– تفضلي
– ما الفرق بين الإدراك والفلسفة؟
سؤال جيد، باختصار، الإدراك هو تكوين صورة متكاملة لكل مواصفات الشيء، مثلا طاولة، لها مواصفاتها.. أي اختلاف في الشكل لا يلغي المواصفات.. هذا يعتبر إدراكاً لشيء، أي ان الإدراك يتّسم بالثبات والاستقرار النسبي، وهو غير ممكن بدون وعي الانسان.. اما الفلسفة فهي الوعي.. وتمثل الأساس النظري لرؤية ومكانة الانسان في العالم. والفلسفة هي الاشارة الأولى لانفصال عالم العمل الذهني عن العمل الجسدي. بمعنى آخر، بالتفكير الفلسفي يمكننا من إدراك حقائق عن الكون والحياة عبر إدراك منطق الأشياء. أي لا يمكن ان ندرك شيئا يفتقد للمنطق. لا يمكن ان نصدق ان الإنسان قادر على الطيران بدون آلة. لا يمكن ان نصدق ان البقرة تلد حماراً. لا يمكن ان نصدق ان هناك إنسان يعيش على ثاني أكسيد الكربون. وبالطبع أريدكم ان تجتهدوا بطرح ملايين الأسئلة التي لا منطق فيها.. تصديق الخوارق هي الطريق لشلّ العقل. لا تخافوا من دخول المناطق المقدسة.. في الفلسفة لا شيء مقدس.. ومرة أخرى من لا يستطيع ان يخرج من سجن المقدس الى فضاء التفكير والأسئلة والبحث عن المنطق، ليخرج الآن من دروسي.
هكذا افتتح الدكتور منصور السنة الدراسية، مع طلاب سنة أولى فلسفة. كان يعرف ان الكثيرين سيصابون بالإحباط والخوف من كلماته، والتردد سيجعلهم يعيدون التفكير بخيارهم. او يتجاوزون حواجز فكرية عميقة في تربيتهم.. بدونها لن تفيدهم دراسة الفلسفة الا بتضييع سنوات من عمرهم الضائع. وقال بعد برهة:
لكل إنسان منا مبادئ.. رؤية للحياة. قد لا تعجب البعض.. الفيلسوف لا يقول أبداً لمن يرفض رأيه ومبادئه: “هذا ما لدي، اقتنع بما تشاء..” انما يقول له: “اذا لم تعجبك مبادئي التي طرحتها، عندي مبادئ أخرى، في النهاية سأصل الى تسويق رؤيتي”. لذلك أقول لكم ان الفلسفة لا تنهزم.
بدأ يلحظ ان البعض يتحرك بما يوحي بعدم الارتياح. وهذا ليس شيئاً غريباً او جديداً.. هذا يتكرر كل سنة.
ومع ذلك طلابي الأعزاء، الفلسفة هي أقرب شيء للإنسان. وكلما كان الإنسان أكثر وعياً، ومستقلاً بفكرة، كلما كانت فلسفته أرقى وأقوى وتتسع لإدراك العالم وتشكيل وعيه عن محيطه عن مجتمعه عن عالمه… في الفلسفة اليونانية القديمة طرح أحد الفلاسفة سؤالاً على زميل له: “ما الذي يجعل كرتنا الأرضية ثابتة في الفضاء؟” أجابه: “يحملها أحد الآلهة” سأله: “ومن يحمل الإله؟”: أجابه: “إله آخر”. سأله:” والآخر من يحمله؟”. أجابه: ” ايضاً اله آخر الى ما لا نهاية إله تحت إله تحت إله الى ما لا نهاية”. اذن جوهر عالمنا انه لا شيء من لا شيء. كل شيء يعتمد على شيء آخر. سلسلة بلا نهاية.
اسمعوا هذه القصة: عاد جميل الى بيته ووجد زوجته وأفضل صديق له عاريان في السرير. قبل ان يتمالك نفسه من الصدمة قفز صديقه من السرير وقال له: قبل ان تفتح فمك وتقول شيئاً، من تصدّق؟، هل تصدّق أفضل أصدقائك أم تصدّق عينيك؟”
من سيصدّق حسب رأيكم؟
أحسن صديق لديه، أم يصدق عينيه؟!
هذا سؤال فلسفي للتفكير.. وليس مجرد نكتة. والسؤال الفلسفي هنا: أية مجموعة من المعطيات يجب ان يثق بها، معطيات الرؤية المدركة الواعية؟ او الوعظة التبريرية الهرطقية التي سيدلي بها الصديق؟
الجواب هنا سهل.. انقلوه لمواضيع مركبة أكثر.. وفكروا.. واليكم قصة أخرى: رجل عجوز في التسعين دخل عيادة طبيب نسائي: “زوجتي ايها الطبيب ابنة العشرين سنة حامل”. نظر الطبيب اليه وقال له: انت الزوج؟. أجاب:” أجل”. قال له: “سأروي لك حكاية، خرج صياد الى رحلة صيد وبدل ان يأخذ بندقيته معه، أخذ بالخطأ شمسيته. أثناء الصيد هاجمه دبٌّ ضخم، فصوّب شمسيته وأطلق عليه النار وأرداه قتيلا”. وصمت الطبيب منتظراً رد فعل العجوز التسعيني الذي ينتظر طفلاً من زوجته العشرينية. قال العجوز بعد تفكير: “مستحيل ان يكون هو الذي أطلق النار وقتل الدب، لا بد من صياد آخر كان متواجداً أطلق النار من بندقيته وقتل الدب”. قال الطبيب: “بالضبط هذا ما أحاول ان أشرحه لك.. صياد آخر مع بندقية تطلق النار، وليس شمسية… أين زوجتك الآن؟”
اذن ما هي الحقيقة.. هل الزوجة حامل من إطلاق النار من الشمسية؟ أم من شخص يحمل بندقية؟
هل فهمتم الأن أهمية الفلسفة في تشكيل الوعي، ودور الوعي في الإدراك والوصول الى الحقيقة؟
أهلاً وسهلاً بكم في دروس الفلسفة…
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة