بقلم:سهام البيايضة
مضت سنوات العمر ,ولا تزال ذكريات مديرتي (الست مقبولة ) عالقة في ذهني , الذي تفتق من خبرات الحياة, ومن مواقف صبغتني بالكثير من التجارب ,عبر الايام وهي تمر مسرعة,تحمل في طياتها الكثير من المخزون العاطفي والانساني والكثير من الاتجاهات التي تغير بعضها, وبقي البعض الآخر راسخا في ذهنية متجددة, تفرض الرغبة بالمقاومه أحيانا وعقلانية تفهم مجريات واقعها أحيانا أخرى, في فترات زمنيه مختلفة ,تظهر من جديد في لحظات تاملية اثناء ممارسة الحياة.
بعد هذا الكم من سنوات العمر,تكونت مجموعة من الأفكار تمكنا من مراجعة النفس, والبدء بإطلاق الإحكام, وتثبيت الرؤيا العامة حول مجاريات الحياة, فتاتي متأخرة أحكامنا ,لا علاقة للزمن أو المكان بها, ولكن, تبقى للفكرة,لتظهر الحكمة برونقها وبريقها الذي ينير منعطفات الحياة بين الحين والآخر,وتذكرنا بمن تأثرنا؟ ومن هم الذين توجهنا بوجودهم رسخت أثارهم, وتجددت فينا طاقاتهم في فهم الحياة, وتسيير أمور الدنيا.
مريول المدرسة المخطط بالأبيض والأزرق, والقبة البيضاء التي حبكتها والدتي بالصنارة من خيوط الحرير الابيض. ورود متراصة وإشكال هندسية جميلة فيها الدقة والمهارة والذوق, على كلا الطرفين تركت خيوط منسوجة ومربوط في نهايتها( شرشوبة) من الخيوط المجمعة والمقصوصة نهايتها لتظهر جمال القبة وإبداعات الوالدة في نسج (الكروشيه).
كنت اعلم إنني متميزة بحرص والدتي واهتمامها ببقاء القبة بيضاء ناصعة,رغم قصر قامتي فلقد علمتني كيف أقف على طرف (المغسلة) لتعلمني كيف اغسلها بالصابون والماء كل يوم بعد العودة ومن المدرسة لتبقى نظيفة لليوم التالي, بهذا الاهتمام والمتابعة أغدقت علينا- رحمها الله- رعايتها رغم تعدد أفراد الأسرة وكبر العائلة.لتنطبع أدق تفاصيل الحياة في كينونتنا لنجد الحل , والفكرة والخبرة ,تسير معنا ملازمة لمسيرة حياة تشبعناها صغارا ووجدنا فيها الخبرة والممارسة ونحن في سنوات العمر المتقدمة.
كل شيء كان محسوبا ,حتى أني كنت اعتقد في مخيلتي الصغيرة أن الوالدة قد حسبت عدد الخطوات من البيت إلى المدرسة التي كانت تقع في أعلى الشارع.لهذا إذا أردت المرور على مطعم أبو احمد لشراء سندويشة فلافل فلا بد أن تعرف, أنني قد تأخرت عن الموعد المحدد للعودة للبيت, ويتم مسألتي عن سبب التأخير,فكنت احتفظ ببواقي السندويشة الملفوفة بالورقة البيضاء دليل على اني لم اذهب هنا أو هناك.
كثيرة هي التعليمات وكثيرة هي التحذيرات والتوصيات ,كل يوم, وفي جميع الأحوال,لا تنتهي أبدا ,رغم شعوري بالملل ورغبتي في التفلت بين الحين والآخر, إلا أن توقعي لعقاب ممكن, يردعني عن لتفلت من زمام سلطة الوالدة ومتابعاتها التي كانت تحيط حياتنا من جميع الجوانب ,في كل صغيرة وكبيرة ,فيما حصل وفيما سيحصل ,فوجودها معنا أو عدمه لا يؤخر ولا يغير شيء من تصرفاتنا فلقد تقولبت الحياة كلها حول رأي الوالدة وأسلوب تربيتها التي احتوتنا تحت أجنحتها بأحكام المتابع العارف المدرك للحياة, لدرجة أنني كنت أصدق بصورة جدية أن العصفورة على سطح بيتنا, كانت تخبر والدتي بكل الأخبار وبكل التحركات التي نقوم بها,ومن شدة فضولي وتعجبي ,كنت اطلب من والدتي أن تقول لي كيف تستطيع أن تفهم حديث العصافير وزقزقتها ,وهي بطبيعة الحال موجودة في كل الأوقات قرب البيت تحط على أسلاك الكهرباء القريبة , وتنقد حبات القمح المسلوق المفروشة على سطح البيت لتجف ولتصنع منها والدتي( البرغل ) ,قالت لي أن لغة العصافير لغة خاصة لا يفهمها الصغار,وأنها تفهمها, لأنها فقط,.. ماما!!
لم تكن والدتي من السيدات اللواتي يترددن على المدرسة كثيرا,إلا أن مديرتي كانت تعلم بالمستوى الذي كانت تهتم به الوالدة بي ,وبأخواتي.من خلال مفاهيم واضحة للتربية والضبط,تحكم سلوكنا ,فلا نتطرق لافتعال مخالفات أو مشاغبات ممكن أن تنقلها العصافير للوالدة,فنحسب ألف حساب قبل الشروع بأي فكره طارئة أو ملقاة علينا من زميلاتنا في المدرسة .
ذاكرتي مزدحمة بالكثير من مشاهد الطفولة والصبا, لا تزال عالقة في ذهني, وكأنها بالأمس.
نقشها الحرص والاهتمام من تلك الشخصيةالتي دعكتها, الحياة الاجتماعية وملكت العقل والاصالة وحكمة الحياة, قبل التعليم, فكانت لها اليد البارعة, التي شكلتنا كعجينة طرية ونحن صغار لتستقر وتتكون مع الأيام, والتي منحتنا التربية والمتابعة,و الكثير من الحكمة والتروي في التعامل مع الآخرين والالتزام بمعايير التبادل الإنساني والاجتماعي بأفضل طرقة, وبأجمل صوره الإنسانية القادرة على تحمل كافة التغيرات, ومنحتنا تميز خاص في التعامل مع الناس والحياة.
مديرتي الفاضلة لم تعجبني في يوم من الأيام. لا بهندامها ولا بتصرفاتها داخل ممرات المدرسة, وطريقة تعاملها مع المعلمات والطالبات ,كنت اشعر أنني تحولت إلى جهاز لتسجيل تصرفاتها, و كنت أعجب,واقول لنفسي: ماذا يمكن أن تفعله بها الوالدة لو أنها وقعت تحت يدها…؟؟, صديقتي “وفاء”, كانت تعبر بالنيابة عني عن كثير مما كنت ارغب أن أقوله, كونها.كانت بارعة في إطلاق النكت والدعابات عليها, وعلى المعلمات ,كنت استمع بهدوء, ولا اعلق خوفا من أن تسمعني العصفورة وتخبر الوالدة ,التي كانت تحترم التعليم, ولا تسمح لأحد أن يضع الآخرين في زاوية التعليق,فلقد علمتنا احترام حقوق ووجود الآخرين,وتعتبر عكس ذلك (عيب) دون أن تطلع على قرارات الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان المتعلقة باحترام الإنسان وكيانه وأحقيته بالعيش الكريم المحترم.
كما يقول الراوي يا ساده يا كرام, جاء دوري ,لأصبح مديرة مدرسة ثانوية للبنات,هاجسي وفكرتي التي لازمتني في إدارة المدرسة, إنسانيا واجتماعيا,كانت :ان اجمع عناصر الزمان والمكان في توليفة انسانية واجتماعية تصنع الانسان المحترم والقادر على إحترام وتقدر الاخرين ليكون مؤثرا وتاركا” للاثر,وان نجتمع جميعا على فكرة أن نكون مؤثرين وموجهين لهذه العقول الصغيرة التي تحيط بنا , التي ستكبر في يوم من الأيام ,وسنعود جميعا, إلى الذاكرة المتنامية من جديد وسيتم إعادة النظر بكافة السلوكيات والتصرفات التي صدرت عنا,في أحكام مؤجلة ,ليس الآن ,وليس أمامنا,وإنما ستكون لاحقة,لن يكون في مقدورنا التواجد وقت صدور الحكم علينا , لندافع عن أنفسنا.
فالحذر الحذر, ولنحتفظ بسلوك القدوة والتربية, حتى نضمن شيء من التقدير المستقبلي عند طفولة كبرت وأصبحت قادرة على الحكم والرأي, كانت دون شك, صغيرة مثلي, تعتقد أن للعصافير لغة لا تفهمها إلا الأمهات,