جميـل عبــود
لا يعرف كيف ومتى ولماذا وُجد؟ كل ما يعرفه عن نفسه، أنه بدون أب، وبدون أم ، قيل له أن والده توفي في مرض الكوليرا الذي أصاب فلسطين في مطلع القرن العشرين، وقيل له أيضاً، أنّ أمه موجودة، ولكنها متزوجة من رجل آخر، لا يتسع صدره إليه. وجد نفسه يعيش عند أقاربه، وكل بيت يصل إليه، يسألونه عن وقت المغادرة. في النهار يعيش على ما تنبته الأرض من ثمار وحشائش برية، ويشرب الماء كالبهائم من الآبار المنتشرة في بطون الجبال، وفي الليل يُضنيه التعب فينام مُقتنعاً مستسلماً. لم تدم هذه الحالة، أصبح يعي ما يدور من حوله أكثر فأكثر، وجد نفسه في قرية لا خيار أمام ساكنها إلا أن يكون ضارباً أو مضروباً، سارقاً أو مسروقاً، قاتلاً أو مقتولاً، فلا حياة له في هذه القرية بعد اليوم.
سمع ممن حوله عن قرية مجاورة لقريته، فقرر الذهاب إلى تلك القرية – سراً- لمحاولة العيش فيها، لعلها توفر له حياة أفضل من الحياة التي يعيشها الآن في قريته، وصل إلى تلك القرية فكانت طيبة أهلها أكبر مفاجأة له، وجد كل احترام وحب وشفقة، وأصبح يأكل ويشرب وينام مثل غيره من الناس، حتى أنه نسي ظلم ذوي القربى السابق الذي كان يعيش فيه، وأخيراً علم أهل قريته برحيله عنهم، فلم يكترثوا بهذا الخبر، وقالوا: لقد أراح واستراح.
ذات يوم استضافه شيخ كبير على الغداء، وفي اللحظة التي دخل فيها الصبي بيته، ولد للشيخ حصان، فقال له الشيخ، هو لك يا بني، ثم تدارك الشيخ قائلاً : ولكن ماذا أنت فاعل يا بني، أجابه على الفور -وقد فهم الصبي قصده – سأقوم بتأجيره لمن يملك الأرض ولا يملك حصاناً، ومن هذا الأجر، سأشتري للحصان فرساً، وسأقوم بتزويجهما، فيصبح الاثنين ثلاثة، والثلاثة أربعة، إلى أن يصبح عندي قطيعٌ من الخيول، فقال له الشيخ بارك الله فيك وفيه .
وما هي إلا بضع سنوات خلت ، وإذا بالحلم يصبح حقيقة، فأخذ يؤجر جزءاً من هذا القطيع إلا فرسا استكبرت وأبت أن تكون مطية لغير صاحبها، استهجن الأمر في بدايته، إلا أنه بعد أن أدرك وفاءها له، قرر أن يجعلها مكرمة على غيرها، وما تبقى من الخيول، يأخذها لترعى في الجبال والوديان، واستمر على هذا الحال إلى أن اشترى بيتاً في القرية، واستقر حاله فيها، ولم يعد عالة على أحد .
استقر وضعه على هذا الحال عدة سنوات، إلا في تلك السنة اللعينة، لم تنزل الأمطار، وبدأ الجفاف يزحف، وقضى الجراد على ما تبقى من الأشجار والمزروعات، وأصبحت الأرض قاحلة، والناس لم تعد تستأجر خيوله لأنه لم يعد هناك من زراعة أو فلاحة أو حصاد أو قطف للثمار.
تذكر حياته السابقة، وقال في نفسه: لقد عدنا كما كنا، ولكني اليوم كبير، ولا أحد يشفق على حالتي، قال ذلك في نفسه وهو ينظر إلى قطيعه نظرة عتاب، وإذا بفرسه تلد له حصانا أبيض، وغير عاديٍ، لفت نظره، وتفاءل خيراً، لأن السماء أمطرت مطراً غزيراً في تلك اللحظة.
وفي اليوم التالي،أخذ القطيع ليرعى في الجبل، وإذا بالأمطار تنزل على هذا الجبل، ساق قطيعه إلى جبل آخر، فنزلت عليه الأمطار أيضاً، وذاع صيت هذا الحصان الأبيض أينما ذهب نزل المطر، ونما العشب ، واخضرّت الأرض التي مشى عليها، وجرت الوديان، وعادت الحياة أحسن مما كانت عليه قبل القحط، وأصبحت مزروعاتهم مروية، وخضارهم دائمة بعد أن كانت موسمية.
لم يستوعب أهل القرية ما حدث، فانشغلوا بأنفسهم، وانقسموا فيما بينهم، فمنهم من أخذ يحسد ذلك الغريب الذّي غيّر من واقع القرية، ومنهم من نفى أن يكون هذا الخير- المفاجئ – من بركات هذا الحصان الأبيض، لا بل زاد أحدهم أنه حتى لو مات هذا الحصان، فعندهم من الخير ما يكفيهم، ومنهم من احتار في الأمر، وسأل نفسه: هل هذا الخير الّذي نحن فيه هو فعلاً من هذا الحصان، فماذا لو مات هذا الحصان أو قُتل؟ قال – ولسانه يرتعش في فمه-: أنا لا أريد أن أغامر وأقتل هذا الحصان ولكنني سأخفيه فترة من الزمن، وأراقب ماذا سيحدث لنا في هذه القرية.
ذهب هذا الرجل عند تواجد القطيع ، وغافل صاحبه ، وأمسك بالحصان ، وبعد أن تأكد من أن القطيع ذهب بعيداً، أفلته فوجد الحصان نفسه وحيداً، ولم يستطع اللحاق بقطيعه .
رجع القطيع إلى القرية بدون حصانه الأبيض، بدأت الوديان تجف، والزرع يذبل، والعشب يصفر، وعادت القرية كما كانت قبل الحصان الأبيض، ودفع أهل القرية مجتمعين ثمن ما جناه حاسد طائش محتار.
أما الحصان الأبيض عندما وجد نفسه وحيداً في الجبل، حاول جاهداً اللحاق بالقطيع، فاجأه ذئب صغير وأخذ في مطاردته، وإذا بذئب أكبر ينقض على الذئب الأصغر، واستغل الحصان الأبيض صراع الذئبين معاً، واستطاع الهرب منهما، ونزل بسرعة إلى الوادي ، وإذا بأفعى كبيرة ، ذيلها على الأرض، ورأسها في السماء، لكنه استطاع الهرب منها وبسرعة كبيرة، وأخذ الليل يسدل أستاره، وبدأ يسمع أصواتاً لم يعتد على سماعها تصدر من حيوانات الليل، وخفافيش الظلام وعندها قرر أن ينام في أول مغارة يصلها.
في الصباح بدأ المسير في الغابات والجبال والوديان، وتعرض إلى كل الزواحف والحيوانات المفترسة وغير المفترسة، إلى أن وصل إلى نهر لم يشاهد مثله من قبل، حاول قطع هذا النهر فلم يستطع، سار بمحاذاته عله يستطيع قطعه من مكان آخر، وأخيراً وصل إلى مكان اتسع فيه النهر، وتحول إلى جداول صغيرة ، قطع كل جدول على حدة، إلى أن أتم قطع هذا النهر .
وجد نفسه
في الضفة الأخرى، يسير في صحراء قاحلة على طول مد البصر، لا عشب فيها، ولا ماء، وعندما حل عليه الليل ، لم يجد مكاناً يقيه هذا البرد القارص، حاول أن يأكل من بعض النباتات الصحراوية من حوله، انغرس شوكها في جسمه، ولم يستطع أن يأكل، حاول أن يجد الماء ليشرب، فلم يجد، أضناه الجوع والعطش والبرد والخوف وغلبه النعاس ونام .
أيقظته شمس حارقة لم يألفها في حياته، نظر من حوله ليستوعب الوضع الجديد، فإذا بالنباتات من حوله أوراقها صغيرة ويتخللها شوك حاد، أخذ الحصان الأبيض يأكل الورق بحذرٍ شديدٍ، نظر بعيداً فرأى بركة ماءٍ ولكنه لم يستطع الوصول إليها، فكلما اقترب منها ابتعدت عنه أكثر، حاول أن يسرع ، فلم يستطع، لأن أرجله أعدت للجبل، وليس لرمل الصحراء، ونظر حوله مرة أخرى، فوجد قطرات من الندى على أوراق النباتات، اكتفى بلعقها لتبقيه على قيد الحياة.
استمر هذا الحال أياماً، نحل جسمه، وخارت قواه، ولم يعد قادراً على مواصلة المسير، ولكن أين المفر، قالها في نفسه ثم تابع قائلاً سمعتهم يقولون أن في الحركة بركة، والثبات في المكان يعني الموت، إذن لا بد من مواصلة الطريق إلى المجهول.
بدأ يشعر من خلال أرجله ويديه أن الأرض بدأت تتغير، ولكنه غير مصدقٍ لرجليه ولا ليديه، لا بد أن يرى بعينيه هذه المرة، وسع من حدقات عينيه ليرى أكثر، وإذا به يسير في مرج شاسع، ومترامي الأطراف، فيه من العشب والماء، والنخيل والأشجار الشيء الكثير، أخذ يرعى العشب، ويشرب الماء ويأكل ما لذ وطاب من الفواكه، وينام على عشب ” النجيل “، ويسير على أرض ” مسفلتة “، نسي المشي على الرمال، والغوص فيها، حتى أنه نسي الجبال ووعورتها، والأهم من ذلك أنه أصبح في مأمن من الجوع والعطش والخوف، يذهب إلى أي مكان يريد، ويفعل بهذا المكان ما يريد.
استمر على هذا الحال فترة من الزمن، نسي فيها قريته وصاحبه، ونسي المشقة الّتي أوصلته إلى هنا، وبينما هو مسترسل في أحلامه، وإذا بقرد ينزل من شجرة عالية، ليهبط على ظهره بسرعة، ويضع لجاماً في فمه، ورسناً يشد به رأسه لجهته، وأخذ يطارد به حول المرج، إلى أن تعب هذا القرد ونزل عن ظهره، فاعتلاه قرد آخر، وطارد به الآخر حتى تعب، وهكذا انقلبت حياته إلى جحيم، ما إن يتعب قرد من الركوب فوق ظهره، يسلمه إلى قرد آخر، إلى أن ركبه قرد – من نوع آخر- لا يريد المطاردة عليه فحسب، بل أخذه بالقوة، وأدخله إلى إسطبل، وأقفل عليه الباب وانصرف، وإذا بداخله خيولاً من جميع الألوان والأعمار والأجناس، اقترب من أحدها، وسأله عن الوضع في هذا المكان، فقال له: الوضع هنا ممتاز، أكل ومرعى، وقلة صنعة، وبصراحة أكثر نسينا حالنا، لأنهم أعطونا أرقاماً بدل من أسمائنا، وأدخلونا عصر العولمة قبل غيرنا، وأنكروا علينا جنسياتنا المختلفة، وأعطونا جنسية واحدة “أجنبي”، بيني وبينك أحسن ، لا هموم شخصية أو وطنية لكل من يعيش في هذا المكان.
ضاق ذرعاً بهذه الحياة المترفة التي تتساوى فيها الأحصنة ومن هذه البلاد التي يركب فيها القرد على ظهر الحصان ، وقرر العودة ثانية إلى قريته رافضاً رغد العيش إذا كان مغموساً بالمذلة.
سمعت كل حيوانات العالم – الجائعة والطامعة والحاسدة – بهذا المرج الأخضر، وما به من عشبٍ وماء، والتقطها الأسد قبل غيره – ملك الحيوانات– واستدعى كلاً من الحمار والبقرة والأرنب والعقرب والثعلب والديك والحية، وقرروا تشكيل جيش من الجراد لغزو هذا المرج والسيطرة عليه.
اختار الأسد يوماً غائماً ماطراً وأطلق الجراد على المرج، دهش الجراد عندما دخل المرج، فقد رأى ما لم يراه في حياته، انتشر الجراد في المرج، وأكل الأخضر واليابس، حضر الثعلب إلى الإسطبل، تعرف على الحصان الأبيض، فقال للحمار لا أريد مشاكل في هذا المرج، مولاي الأسد يريده هادئاً ومن غير منازع، أبعدوا هذا الحصان المشاكس إلى بلده .
وصل الحصان الأبيض إلى قريته، فلم يعرفه أحد، بعد أن كان ناراً على علم، فقد تغير لونه، وزاد وزنه، وطال شعره، فقال لهم : ويحكم يا أهل القرية! أنا الحصان الأبيض، ألم يكن لي فضل عليكم في يوم من الأيام؟ فقالوا له: ولكنك تركتنا بعد أن منّ الله عليك، وانشغلت في نفسك! ثم أشاحوا بوجوههم عنه، ولم يعترفوا به، وانفضوا من حوله.
ذهب الحصان إلى قطيعه لعل أحداً منهم يتعرف عليه، فأخذ القطيع يدفع فيه للخارج، قال لهم: أنا الحصان الأبيض، إذا ما عرفتموني، اسألوا آبائكم وأمهاتكم عني ، فقالوا له : إنهم ماتوا جميعاً، ونحن لا نعرفك، مشى القطيع وبقي وحيداً .
وأخيراً ذهب الحصان إلى صاحبه، فلم يتعرف عليه هو الآخر، فقال له :أنا الحصان الأبيض، هل عرفتني؟ فقال له صاحبه: ولكنك لست أبيض كما كنت، وبياضك مزيف، وأنا مثلك قد تغيرت أيضاً – كما ترى – وتغير الناس من حولي، ولم يعد أحد يميّز بين الألوان.
جميــل عبـود
شباط 2009