عبد العزيز كحيل
تشتكي الدوائر الثقافية والأوساط الفكرية والإعلامية من غياب المثقفين في الأوقات الحرجة وسكوتهم أو هروبهم عندما يكون المجتمع في حاجة إلى أن يتكلموا ويحضروا حتى تجرأ ت كثير من الأوساط على الحكم عليهم بعدم الوجود والانتهازية والسير في ركاب السياسة،والواقع أن المشكلة مطروحة فعلا ولكن ليس على مستوى البلاد العربية وحدها ولا حتى تلك التي تعيش توترا سياسيا أو اجتماعيا،فالبلاد الغربية التي تعتبر نموذجا للرسوخ الثقافي لم يسلم مثقفوها من المساءلة والنقد اللاذع والاتهام بالغياب والرداءة والتولي…وفي هذا الشأن أصدر الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي -الذي نختلف معه في أشياء كثيرة ولكن نقر له بالتوسع المعرفي- كتابه الممتع”الثناء على المثقفين” “Eloge des intellectuels“ يطرح فيه المشكلة الثقافية ويضع شروط رد الاعتبار للمثقف وفي كلامه تشخيص ينفعنا نحن العرب والمسلمين كما ينفع غيرنا
لا شك أن المثقفين فقدوا المصداقية عندنا بدليل انكماش ظلهم لصالح نجوم الأغنية والمسرح والسينما والرياضة فسقطت الثقافة إلى مستوى يقارب التفاهة فتجد الصحافة والأوساط التعليمية تتناول قصيدةً لأبي فراس الحمداني أو صفحة من كتاب لمصطفى صادق الرافعي على قدم المساواة مع إنتاج أي مؤلف مغمور أو شاعر هاو لا ضلع له في عالم الأدب ، كما أصبح لفظ”مبدع”يطلق مجانا فيشمل-إلى جانب أرباب الفكر أو حتى قبلهم – كل من يكتب جملا-بالعربية أو غيرها-لا تتميز إلا بكثرة الأخطاء والركة في التعبير… فأين من يستحقون وصف “المثقفين”؟يبدو أن الثقافة اختارت أن لا تتحرك في أجوائنا غير المأمونة مخافة ارتكاب الخطأ، واختار رجال الفكر أن لا يفكروا فتركوا الساحة للفراغ القاتل والمبتدئين من القصاص والشعراء والأدباء،فهل يكفي أن تفتح الجرائد لهؤلاء لنظن أن الثقافة موجودة؟إن الناس-مواطنين وسياسيين وغير هؤلاء -ينتظرون من المثقفين أن يهتموا بالمجتمع أي بآلامه وطموحاته،بمشاكله وتناقضاته و أن يبلوروا الحل في إطار متنوع يفتح الآفاق ويبعث الأمل،ومن أجل ذلك لا بد أن يثيروا معركة مجتمع حقيقية تتفاعل فيها الآراء وتسهم كل التوجهات لتكريس الديمقراطية وإتاحة الفرصة للاختلاف في الرأي والمواجهة الفكرية السليمة التي تحتوي الفروق وتوجه التناقضات في القنوات التي أبدعتها التجارب البشرية عبر القرون…كل هذا غائب عن ساحتنا أو يكاد ،فأصيب العقل بانتكاسه وأفلست الكلمة رغم أننا أمة الكلمة”اقرأ”،نومن بأن العقل هو مفتاح فهم الوحي وفهم الواقع والقوانين الكونية والسنن الاجتماعية ،فأين المثقف؟ هل أحس بالاغتراب في زمن التحديات؟هل ألف المهرجانات والتظاهرات الفلكلورية التي تتحمل خزينة الدولة نفقاتها الباهضة من غير أن تكون ذات جدوى ؟أليس المجتمع يُنتظر من هذا المثقف أن ينزل من برجه العاجي ليتدخل فيما لا يعنيه – كما يقول سارتر-؟أن يكافح ويعرض نفسه ويخاطر؟عجيب أمر بعض مثقفينا…يفرون بسبب المخاطر وهم الذين ينبغي-بحكم تواجدهم في صدارة المجتمع ومواقع التنظير-أن يكونوا وجها لوجه مع الجريمة والخطيئة والجنون والموت مثلما يواجهون فعل الخير والفضيلة والاستقامة والحياة،ليس هذا فقط وإنما لمسنا أن بعضهم يهرب من الآخر ولا يطيق إلا معاشرة نفسه بيد أن المثقف هو النقاش ممارسة وعادة ومبدأ وحتمية،..وفي زمن الأنانية يجب أن يبرز المثقف ويحتل الساحة.
كأني بالمثقف يستكثر ما نلقي على عاتقه من أعباء،لكنه ليس رجلا أو امرأة فحسب ولكنه بعد من أبعاد المجتمع وهو- كما يقول ليفي- مؤسسة حيوية مثل الفصل بين السلطات وحرية التظاهر أو أكثر من ذلك ، فمن العيب أن يغيب أو يتبلد ومن العار أن ينقلب إلى آلة تكرس الحمق والغباء كما حدث مع النازية والستالينية فيصبح جنديا من جنود العبث والدمار فيتنكر له المجتمع ولقيمه ويقصيه نهائيا …ليبقى هذا المجتمع في النهاية بلا معالم هادية.
لا أسمح لنفسي بإعطاء دروس للمثقفين لكن أخشى أن بعضهم انسحبوا لأنهم متورطون ، وهم يعلمون أن المثقف لا يجب أن يدخل أية قضية ويلتزم بها في إغلاق،وإنما عليه أن يترك دائما داخل نفسه هامشا يمكنه من التفكير ويفسح له عند الضرورة فرصة للمراجعة والتراجع دون أن يفقد من شرفه شيئا ..فمن حقه أن يقتنع بما يشاءعلى أن لا ينسى أنه مسؤول،وإنما توارى كثير من المثقفين لأنهم تخندقوا في مواقع أتى عليها الانهيار وكانوا يزعمون أنهم اكتشفوا الحقيقة..واحتكروها.
..حدث هذا عندما تحالفوا مع الأنظمة لا مع الشعوب وعندما اختاروا ايديلوجيات مستوردة وتبنوا قضابا مصيرية لا ترتضيها الأمة
فمن ينكر أن الثقافة تعاني من التوتر؟انظروا إلى الخلط الذي اعتراها فأصبح مطرب الراي يحظى بما لا يحظى به المفكر والفيلسوف والشاعر، فاستقال المثقفون وقادة الرأي وترك أمر الثقافة للمشبوهين والعابرين فاختلطت معايير الخير ومعايير الشر ووجد من هؤلاء “المثقفين ” الجدد من يدافع عن الإنسان(لإلغاء الله والقيم والضوابط)وهو لا يؤمن به وكانت النتيجة أن المجتمع قد استغنى عن الثقافة والمثقفين وكأنها وكأنهم من سقط المتاع…هل هذا قدرنا؟أنترك طاقتنا الخلاقة يسرقها الآخرون و تلتهمها ثقافة الاستفزاز التي تطعم الناس غناءً ورقصاً حين يطلبون الفهم والأمن والذوق الرفيع؟أليس فينا من يهب لنجدة الثقافة التي تم تقزيمها وتحجيمها واختصارها في المهرجانات الفلكلورية؟إن آخر هامش قبل الفناء يكمن - في تقديرنا- في استفاقة الضمير والتنادي بتشجيع الثقافة البنائية على أنقاض الثقافة الاستهلاكية المستشرية.
عبد العزيز كحيل