د/ أحمد الصغير
تعد قصيدة الإبيجرام فى الشعر العرب الحديث من القصائد المهمة التى يجمع فيها الشاعر عن طريق التكثيف والإيجاز قضايا الإنسان المعاصر، فهي تعد نوعاً أدبياً قائماً بذاته له سماته ومعاييره الفنية، وقد كتب “طه حسين” هذا النوع / الفن فى منتصف الاربعينات من القرن الماضى 1944، ونقله إلى العربية نثراً من خلال كتابه المهم (جنة الشوك). ويمكن أن نقدم تعريفاً موجزاً عن الإبيجرام: “هو كل قصيدة قصيرة مختتمة بحكمة أو نكته، مدح أو ذم ولا تخلو من الهجاء وكل هذا يشمل على المفارقة : ويمكن أن نستعين بما قدمه طه حسين نفسه فيقول فى مقدمه جنة الشوك ” يجب أن أعترف بأن لا أعرف لهذا الفن من الشعر فى لغتنا العربية اسماً واضحاً متفقاً عليه ، وإنما أعرف له اسمه الأوربى ، فقد سمّاه اليونانيون واللاتينيون “إبيجراما” أى نقشاً واشتقوا هذا الاسم اشتقاقاً يسيراً قريباً من ان هذا الفن قد نشأ منقوشاً على الاحجار ، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفى معابد الآلهة وعلى التماثيل والآبنية والاداة البيت أو الأبيات من الشعر[1] ويعد طه حسين أول ناقد عربى يقدم تعريفاً عن الابيجراما رغبه فى التجريب من حيث ان اللغة العربية هل ستقبل هذا الفن ام ترفضه ؟ وقد أشار طه حسين الى اهمية هذا الفن الجديد ودعا شاب الباحثين والمبدعين الى الكتابة فيه والاضافة اليه.
وقد اشار عز الدين اسماعيل فى مقدمة ديوانه “دمعه للأسى دمعه للفرح” الى ان كلمة ابيجراما نفسها كلمة مركبة فى اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هما (eposs graphein) ومعناها : الكتابة على شىء – وفى البداية كانت تعنى النقش على الحجر فى المقابر احياء لذكرى المتوفى – او تحت تمثال لاحد الشخوص” [2] وجاء تعريف الموسوعه البريطانية الجديدة للإبيجراما وهى “انها كتابة تصلح للنحت على اثر او تمثال….. وقد اصبح الاسم يطلق ويطبق على كل بيت قصير وملىء بالمعانى خاصة اذا كان قوياً وذا معنى معين ويشير الى مبدأ معيـن” [3] ومن ثم فان الابيجرام نوع ادبى يقف نداً جانب الانواع الادبية الاخرى فقد كتبه الشعراء اليونانين والاوربيون امثال جون دن ويوب والكاتب الامريكي مارك توين من اشهر من كتبوا الفطانات الابيجرامية.
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا هذا النوع عز الدين اسماعيل فى ديوانه دمعه للأسى ودمعه للفرح ، واودونيس فى قصائده الاولى ، احمد مطر فى لافتاته ، الشاعر السعودى عيد الحجيلي ، محمد حبيبي ، الفلسطيني عز الدين المناهره….. وغيرهم كثيرون الذين كتبوا هذا الفن وقد سبقهما العقاد فى كتابه آخر كلمات العقاد وطه حسين فى كتابة جنة الشوك.
لاشك ان طه حسين قدّم مجموعه من النصوص المهمه الابيجرامية فى كتابة جنة الشوك فيقول فى ابيجراما بعنوان هجاء:
” قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : أى فنون الأدب أحق أن يزدهر وينفق فى هذا العصر الذى نحن فيه ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : لا أدرى ! ولكننا فى عصر انتقال أشد فنون الأدب ملاءمة فن الهجاء”
من الملاحظ ان طه حسين فى الابيجراما السابقة يتكىء على الحوار المباشر الذى يحمل فى باطنه مفارقة ما وهذا الحوار القائم بين الفتى (السائل) والشيخ (المسئول) الذى يجيب عن اسئلة الفتى القلقة.
والتى يشوبها اثارة حفيظة الشيخ من ناحية وتفجير الاسئلة والقضايا من ناحية اخرى ، ومن الجلى ان طه حسين لجأ إلى هذا الحوار لكى يثبت افكاره وقضاياه الذاتية والجماعية فى آن واحد ولاشك ان الحوار سمة رئيسية فى ابيجرامات طه حسين جميعها.
ومن ثم فان تلكم المفارقة تتضح فى اجابة الشيخ الذى لايرى الا فن الهجاء فى الواقع المعاصر ، بل يمثل ركناً اساسياً من اركان المجتمع ويصلح للازدهار ، لأننا فى عصر انتقال على حد قوله.
وتتجلى المفارقة ايضاً فى صيغة السؤال الثانى وجهة الفتى للشيخ ، لان هذا السؤال لايخلو من مك وخديعة ، فهذا السؤال يتضمن وراء نقاب الواقع القاتم الذى يؤرق السائل من جهةة والمسئول من جهة اخرى ، وتأتى اجابة الشيخ صادمة عندما يقول : لا أدرى ! [ثم يضع علامة تعجب] تحقق هذه العلامة الصدمة المدوية ، ثم تنتهى اجابة الشيخ حاملة الاسئلة الملغزة والمخاتلة فى الوقت نفسه ، فالشيخ (الرمز) الذى يصنعه طه حسين لايروق له فى هذا العصر الذى يعيش فيه ، لا فن الهجاء ، لأن كل ما فيه يحتاج إلى الهجاء.
ويقول ايضاً فى ابيجراما بعنوان تملق :
” قال الطالب الفتى لآستاذه الشيخ : ألا ترى أن فلان قد كان أبعد الناس عن التملث ، فلما تقدمت به السن جعل إمعاناً فيه يزداد من يوم إلى يوم ؟!
قال الاستاذ الشيخ لتلميذه ال
فتى : كان يعتمد على نفسه ، ماواتته قوة الشباب ، فلما أدركته الشيخوخة اتخذ من التملق عصا يدب عليها” [4] .
فتى : كان يعتمد على نفسه ، ماواتته قوة الشباب ، فلما أدركته الشيخوخة اتخذ من التملق عصا يدب عليها” [4] .
توجد علاقة قوية بين عنوان الابيجراما والنص الابيجرامى نفسه فجاء العنوان دالاً على ما يحويه النص ، فهو المؤشر الدلالى الأول للدخول فى متن النص ، وحمل الابيجراما السابقة السخرية الشديدة من شخص كان فى شبابه بعياً عن التملق ، فلما دخل الشيخوخة عليه وتمكنت من قلبه أمعن فى التملق إمعاناً شديداً وتأتى إجابة الشيخ (الرمز) تحمل بعداً سياسسياً شديداً له وقع الأثر ، لأن طه حسين يرصد من خلال هذه الاجابة التحول المضاد لبعض الشخوص الذين يكونو فى بداية حياتهم / شبابهم فى اقصى اليسار وعندما تداهنه السلطة يتخذها عصاً يدب عليها ، حتى يؤمن نفسه متعاب الحياة.
ومن الابيجرامات التى كتبها العقاد فى آخر كلماته التى نشرها الأستاذ عامر العقاد ابن أخيه فيقول العقاد ” التواضع نفاق مرذول إذا أخفيت به ما لا يخفى من حسناتك توسلاً لكسب الثناء”.
إن المتأمل فى الابيجراما السابقة يلاحظ أن العقاد كان معتزاً بنفسه ، شامخاً فهو يطرح الوجه الخفي من التواضع، فهو نفاق مرزول اذا اخفى به المرء ما لا يخفى من الحسنات حتى يقال عنه إنه رجل متواضع ، ويكسب ثناء الناس عليه. ويقول العقاد :
” كن شريفاً أميناً لا. لأن الناس يستخفون الشرف والأمانة ، بل لأنك أنت لا تستحق الضعة والخيانة”
تتجلى فى نثريات العقاد ( ابيجراماته) المفارقة بشكل واضح حيث انه يتكىء على مشاهد من الحياة تلك المشاهد التى تؤثر فى نفسه أولاً ، ثم يسجلها / يدونها ، التوتر فى القارىء ، لأنه يذم الضعة والخيانة والخسة ويمدح الشرف والأمانة ، محاولاً ترسيخ هاتين الصفتين الحميدتين لدى الناس.
الإبيجرامات الشعرية:
عندما أوغل الشعر العربى الحديث فى التجريب ، وقد استحدث الشعراء أشكالاً متعددة من الشعر بدءاً من القصيدة الكلاسيكية والتفعيلية وقصيدة النثر اتجه الشعراء أنفسهم الى كتابة قصيدة الابيجراما ، لأنها تمثل كما قلنا ظاهرة جديدة فى الشعر العربى الحديث ، فقد خصص الشاعر الدكتور عز الدين اسماعيل ديواناً كاملاً (دمعه للأسى…دمعه للفرح) عن الابيجراما ، فقد تضمن هذا الديوان مائه وست وأربعين ابيجراما تنوعت موضوعات الديوان بين الانسانى والحياتى والسياسي والثقافى والاجتماعى .
فيقول فى ابيجراما السؤال :
” بحثت فى كل الجهات
سألت كل من لقيت
ام أجد جواباً
وحينما يئست وانسحبت
جاء من يسألنى
ما سر هذه الكآبة” [5]
من الملاحظ فى الابيجراما السابقة ان الشاعر عز الدين اسماعيل طرح أسباب هذه الكآبة من خلال عنوان الابيجراما نفسها (السؤال) فسبب كآبته هو عدم حصوله عهلى اجابة ترفيه وتجده قد استخدم مفردات قريبة من الجحزن مثل (يئست) من خلال استخدامه لهذه المفردات التى جاءت متفقة ومتناسبه مع الشعور النفسى ازاء الواقع الذى يعيش فيه الشاعر من ناحية والآخر من ناحية اخرى وتكمن المفارقة فى المقطع الأخير من الابيجراما عندما يسأله سائل ما سر هذه الكآبة فالسؤال اذن لاينتهى ، وكأننا فى حياة مفعمة بالأسئلة اللانهائية وكآبة تهيب الذات الشاعرة لاتعرف لها مبرراً .
ويقول أيضاً :
سنلتقى غداً
متى غداً
غداً غداً
ليتك تنسى الموعدا “[6]
يحدد الشاعر عز الدين اسماعيل فى الابيجراما السابقة الزمن الذى سيلتقى فيه بالآخر الذى يخاطبه ، زمن المستقبل الذى تجلى من خلال تكراره لمفرده غداً غداً . ومن ثم يكشف النص الشعرى عن اللازمنية ، ايضاً فالذات الشاعرة تتأرجح ما بين الغد القريب والغد البعيد ، ويتكى الشا
عر العراقى أحمد مطر على المفارقة المباشرة فى جل نصوصه أعنى المفارقة السياسية فيقول :
عر العراقى أحمد مطر على المفارقة المباشرة فى جل نصوصه أعنى المفارقة السياسية فيقول :
” صباح هذا اليوم
أيقظنى منبه الساعة
وقال لى : يا ابن العرب
قد حان وقت النوم !”
تيكىء الشاعر احمد مطر على قيمة المفارقة التى يعيش فيها المجتمع العربى الذى يغط فى النوم ، فلا توقظه المنبهات ولا الساعات ولايعرف قد للزمن الذى يدور حوله . ونلحظ ذلك عندما يختم الشاعر ابيجراماته بعلامة التعجب ( ! ) لقومىء الى الحس السياسي الساخر من المنظمات العربية فى كليتها.
وتكن المفارقة ايضاً فى ابيجرامات الشاعر السعودى عيد الجحيلي فيقول :
بعدما شربت عمره
الكلمات
قيل مات.
ان الجحيلي ينسج عبر هذا النص الابيجرامى رجلة الانسان / الشاعر لأن الشاعر الذى يعيش بين الكلمات / حياته مجموعة من الكلمات التى يستخدمها تعبيراً عما يدور فى ذهنه وقلبه معاً ، إن الصدمة التى احدثها النص تجعل المتلقى منعاً ظعاً مع هذا الشاعر الذى مات ، فقد أخذت الكلمات عمره ، ثم أخذه الموت بعد ذلك الواقع أن الشاعر لم يمتن لأن كلماته ما تزال تحيا ، ترددها ألسنة الجماهير الغفيرة / الأجيال من بعده.
تتجلى قصيدة الابيجراما فى نصوص أدوتيس فى منقول فى قصيدة بعنوان (مرثيان الى ابى)
أبى غد يخطر [7]فى بيتنا
شمساً وفوق البيت يعلو سحاب
أحبه سراً عصيا دفين
وجبهة مغمورة بالتراب
أحبه صدراً رميماً ، وطين
على بيتنا كان [8] يشهق صمٍتُ ويبكى سكون
لأن أى مات ، أجدبَ حقل ، مات سنونو”
يحلق الشاعر العربى الكبير ادوتيس فى فضاءات الطبيعة المتعددة الرحبة يستمد منها صورة الشعرية التى تبوح بالحزن والاسى على فقدان الأب فقد كان الأبُ شمساً تضىء هذا البيت ، على الرغم من أن السحاب يمكث فوقه ، إلا أن العلاقة القوية بين الشاعر والأب (الرمز) يصبح إلهاً للخص والنماء فتتولد عنه الطبيعة أشياءً تلهم الشعراء نصوحهم.
ونتج عن هذا كله اتحاد الشاعر بالطبيعة وانغماسها فيه أدى الى خلق صيرورة أبدية يعيش الإنسان ومن ثمَّ يقول الشاعر مصطفى رجب:
أنادى أن تدور الشمس حول الأرض
وأرفق أن تدور الأرض
لأن الأرض إن دارت
أطاعت سلطة الشمس
فأين حقوقها فى الرفض؟
يتجلى الحس السياسي الساخر فى الابيجراما السابقة للشاعر الدكتور مصطفى رجب ، حيث إنه يتكىء استنطاق الأشياء فى الطبيعة لأن الشاعر يريد أن يغير الحقائق العلمية ، وأن تدور الشمس حول الكوكب (الأرض) ويعطى لذلك أسباباً ، لأن الأرض إن دارت أطاعت سلطة الشمس ، وتتجلى المفارقة أيضاً فى البعد السياسي الذى حاول الشاعر أن يبثه وهو حرية الرأى وحق الأعتراض وابداء الرأى الآخر ، فقد استخدم مصطفى رجب هذين الرمزين (الشمس و الأرض) ليومىء إلى وجهين حقيقين فى الواقع المعاصر وجه الحاكم ووجه المحكوم.
دكتور / أحمد الصغير
القاهرة 26/12/2008
[1] طه حسين : جنه الشوك ، دار المعارف ، ط11 ، س1986 ، القاهره ص11
[2] عز الدين اسماعيل ” دمعه للأسى… دمعه للفرح ، مطابع لوتس، ط، س2000 القاهرة
[3] The new wnseclopadia Britannica, Micropedia Volum15 Edition, Helen Heming way Benton publisher 1973-1974 , p933
[4] طه حسين : جنة الشوك ، ص67 .
[5] السابق ص77
[6] عامر العقاد : اخركلماته لعقاد ، ص43
[7] عز الدين اسماعيل : دمعه للاسى – دمعه للفرح ، ص34.
[8] السابق : ص150