د. ظافر مقدادي
مجلة الفينيق الثقافية/ هيوستن
العلاقة بين الطيب صالح وادوارد سعيد أبعد من أن تكون علاقة قومية وحسب، فالأهم علاقتهما المعرفية. لهذا لا نجد أي غرابة في أن يستوعب ادوارد سعيد في (الاستشراق) مصطفى سعيد، بطل الطيب صالح الذي هاجر الى الشمال، كمعادل موضوعي لعمل (قلب الظلام) لكونراد وهو نصّ استعماري، بل إن مصطفى سعيد يمتص الشرق عند حلوله في الغرب في كينونة ثنائية ملتبسة وفرّت على ادوارد سعيد عناء البحث في (الاستشراق معكوساً)، فمصطفى من وجهة نظر ادوارد سعيد رد فعل طبيعي على الغرب الاستعماري. وبردّ الفعل هذا فهم مصطفى الغرب على أنه (اللاشرق)، تماماً كما يقول ادوارد سعيد بأن الشرق بعيون غربية ليس إلا سالب صورة الغرب عن نفسه. والغريب حقاً أن يموت الإثنان، الطيب صالح وادوارد سعيد، في المنفى الغربي الاستعماري بعيدأ عن الوطن، فهل ثمة علاقة بين الابداع والمنفى؟
لقد هاجر الطيب صالح، كما هاجر بطله مصطفى سعيد، الى الشمال البريطاني، وكذلك فعل ادوارد سعيد مهاجراً الى الشمال الأمريكي. من ناحية الطيب صالح كانت هجرة مصطفى للإنتقام من الاستعمار الغربي الذي استغل وطنه وشعبه. وفِعل الانتقام هذا جاء فعلاً جنسياً لما يحمله من معاني الفحولة العربية. أما من ناحية ادوارد سعيد فإن الانتقام جاء على شكل تشريح لعملية الاستشراق كنظام معرفي يُعطي الغرب المسوغات الحضارية للاستعمار. إلا أن هذه المفارقة بين الطيب صالح وادوارد سعيد سرعان ما تزول إذا تعمقنا في فهم مصطفى سعيد كـ(فكرة) ابتعدها خيال الطيب صالح الخصب، فهو بهذه الفكرة ينتقم من الغرب، وهو انتقام دائم، كما عند ادوارد، حيث أكمل الإثنان مسيرة الحياة في أحضان ذلك الغرب الذي جاءا للانتقام منه. وعليه فإن الانتقام الجنسي عند مصطفى سعيد ليس إلا تعبيراً قصصياً عن (الخصوبة) بكل ما تحمله من معاني (العطاء) الذي ترجمه الطيب صالح عوضاً عن بطله على مدار عشرات السنين من اقامته في بريطانيا، فـ(جين موريس) التي قتلها مصطفى سعيد كانت حقيقية في حياة الطيب صالح، ولكن الطيب لم يقتلها بل تزوجها. وكذلك كان انتقام ادوارد ليس إلا عطاءً فكرياً أثرى به ثقافة الغرب.
فهل انتقم الطيب صالح من الاستعمار أم من وطنه؟ وهل انتقم ادوارد سعيد من الاستشراق أم من الاستغراب (او الاستشراق معكوساً)؟ لقد تعامل الإثنان مع الغرب على أنه (اللاشرق)، هذا اللاشرق يرى الشرق على أنه (اللاغرب)، وبذلك نرى أن كليهما قد انتقد الشرق أيضا بطريقة غير مباشرة. ولكن الفرق يكمن في أن الغرب قد استوعب الاثنين واعمالهما الخالدة، في حين أن الشرق لم يستوعبهما بعد. فممن انتقم الاثنان إذاً؟
لماذا يهاجرون.. لماذا يعيشون في المنفى.. لماذا يصرون على الموت في منافيهم؟ ممن ينتقمون؟ من أنفسهم أم من الآخرين؟! أم أن (لا كرامة لنبي في وطنه)؟. منذ رحيل ادوارد حتى رحيل الطيب رحل الكثير من المبدعين العرب في المنافي، بل وكأن سخرية القدر قد جرجرت أقدام محمود درويش، الذي استقر على مرمى حجر من الجليل، الى هيوستن ليموت في يوم سبت في المنفى كما عاش في المنفى!! وكأنه تنبأ بذلك في (لاعب النرد) حين أعاد صياغة فهمه لمعنى الوجود مُدخلاً فيه (نظرية الاحتمالات) على طريقة (مبدأ اللايقين) في (ميكانيكا الكم)، وكأنه (فوتون) ضل الطريق حين سقط من ضوء قمر أطلّ على الجليل.
أين الغُربة إذاً؟ في الأوطان أم المنافي؟ حين نستذكر سيَر هؤلاء الراحلين العظام نتأكد أكثر وأكثر أن الغربة كانت في الوطن، وأن اكتشاف الذات وتحقيقها تم في المنافي. وكأننا نتحدث عن الغربة الداخلية في الوطن، والإنتماء الداخلي في الغربة. ما الذي أعطته بريطانيا للطيب صالح ولم يُعطه إيّاه السودان؟ ما الذي أعطته المنافي للراحلين الكبار ولم تُعطهم إيّاه أوطانهم؟ ربما الحرية!!.
هل كان بإمكان الطيب صالح أن يكتب وينشر “موسم الهجرة الى الشمال” في السودان؟ علينا أن نعترف بأن هذه الرواية التي كُتبت في الأعوام 1962-1966 مُنعت في معظم البلاد العربية وخاصة في السودان بسبب المشاهد الإيروتيكية، وكأن العرب لا يُمارسون الجنس في حياتهم!. هذا عذر أقبح من ذنب، فأسباب المنع قد تكون أعمق من ذلك، ربما تكون في المقارنة نفسها بين عالم الغرب وعالم الشرق، فالحديث عن الاستعمار وما ارتكبه في المستعمرات هو حديث عن (رجالات) الاستعمار في الشرق وتداعياته في الزمن المعاصر، وإلا كيف نفهم انتحار مصطفى سعيد في نهر النيل بعد أن عاد من صقيع الشمال الى دفء وطنه؟! ألم يفضح الطيب صالح بطريقة غير مباشرة سلبيات الشرق؟!.
هذا يُعيدنا الى الخصوبة المرموز لها روائياً بقضيب مصطفى سعيد المنتصب في الشمال البارد، وق
ضيب الخصوبة بدوره يعيدنا الى نهر النيل الخصب المعطاء وعلاقته أيضاً روائياً بأساطير أوزيريس النيلي الذي كان يقذف من قضيبه خصباً على وادي الملوك. وها هو قضيب مصطفى سعيد يعود الى نيله في النهاية. أما الطيب صالح فآثر عدم العودة لأن خصوبته الفكرية مرفوضة في بلاده ومُرحّب بها في المنفى، وإلا كيف نفهم الحملة الشعواء في تسعينيات القرن الماضي على رواية “موسم الهجرة الى الشمال” في جمهورية السودان الاسلامي؟ في حين أنها تُرجمت الى العشرات من اللغات الأجنبية. لا شك أن مساحة الحرية المُعطاة للمبدعين العرب في المنافي عاملٌ مهم لبقائهم فيها وموتهم فيها، فالمبدع بحاجة الى ما هو أكثر من قوت اليوم أو كما قال السيد المسيح عليه السلام (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان).
ضيب الخصوبة بدوره يعيدنا الى نهر النيل الخصب المعطاء وعلاقته أيضاً روائياً بأساطير أوزيريس النيلي الذي كان يقذف من قضيبه خصباً على وادي الملوك. وها هو قضيب مصطفى سعيد يعود الى نيله في النهاية. أما الطيب صالح فآثر عدم العودة لأن خصوبته الفكرية مرفوضة في بلاده ومُرحّب بها في المنفى، وإلا كيف نفهم الحملة الشعواء في تسعينيات القرن الماضي على رواية “موسم الهجرة الى الشمال” في جمهورية السودان الاسلامي؟ في حين أنها تُرجمت الى العشرات من اللغات الأجنبية. لا شك أن مساحة الحرية المُعطاة للمبدعين العرب في المنافي عاملٌ مهم لبقائهم فيها وموتهم فيها، فالمبدع بحاجة الى ما هو أكثر من قوت اليوم أو كما قال السيد المسيح عليه السلام (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان).
إنها الثنائيات: الطيب صالح وزواجه من سيدة اسكوتلندية.. مصطفى سعيد وحبه لجين موريس.. ادوارد سعيد وعلاقة الغرب بالشرق. الضد يظهر في مرآة ضده. عالم الثنائيات: الغربة والانتماء، الوطن والمنفى، الداخل والخارج. والحب والقتل ثتائية أخرى نراها بوضوح في “موسم الهجرة الى الشمال” حين يقتل مصطفى سعيد حبيبته جين موريس، وكأنه (عُطيل) شكسبير الذي قتل محبوبته من الغيرة. ما الذي أدخل شكسبير في عقلية مصطفى سعيد؟ هل هي معرفة الطيب صالح بالأدب الانجليزي أم إنها ببساطة سيكولوجية الانسان نفسه شرقياً كان أم غربياً؟ لقد سفك الغرب الاستعماري الكثير من الدماء الشرقية التي بررها الاستشراق الغربي بأنها الثمن المدفوع لشراء الحضارة. بالمقابل كم من الدماء الغربية سفك الشرق العربي الاسلامي تحت شعار الفتوحات؟ فهل يقوم بيننا عملاق مثل ادوارد سعيد لتشريح (الاستغراب) من خلالة دراسة الأدبيات العربية عن الغرب بدءاً من عصر التدوين الاسلامي (بما فيها موسم الهجرة الى الشمال)؟ وماذا سيكون الفرق يا ترى بين الاستشراق وبين الاستغراب؟!
يموتون في المنافي، وقد تُحمَل توابيتهم على الأكتاف في أوطانهم حيث يُوارون الثرى (وكأنهم بُفضلون أوطانهم أمواتاً)، ويرثيهم الشعراء، وينعاهم الطغاة الذي كانوا من أسباب موتهم في المنافي. منذ أن خطب الملك العضوض معاوية بن أبي سفيان خطبته الشهيرة عن (خزائن الله) التي أودعها أمانة لدى بني أمية والأمة العربية تعمل بوقود (الجبرية)، جهمية كانت أم أشعرية لا فرق، فالأولى فجة والثانية ناعمة بنعومة الكسب الأشعري.. هذا حال الأمة الى اليوم، فالسلطات العربية المتعاقبة منذ معاوية حتى اليوم تعشق مواطنيها برابطة الجبرية، والعكس صحيح. مئات من السنين مرت منذ خطبة معاوية، يقابلها مئات من الطبقات المعرفية الجبرية ترسبت في الجمجمة العربية، الأمر الذي تحتاج معه الى حفريات جيولوجية لتحليل بُنية العقل العربي الذي ألغى الفكر.. أما مَن شذ فقد غرد خارج السرب وهاجر الى المنفى إن استطاع الى ذلك سبيلاً، وأما من بقي فانتحر إما في نهر أو في سجن أو في فقر أو في صمت أو في حفنة من دولارات نخاسة الفكر البترودولاري.
نرثي الطيب الصالح وغيره من مفكرينا ومبدعينا الكبار. ماذا كان ينقصنا لو اتبعنا (غيلان الدمشقي)؟ سيف الحَجّاج الثقفي؟! قالوا إن غيلان كان قَدرياً لأنه نفى قدر الله عز وجل وقال بأن الانسان مُخيّر لا مُسيّر!! غريب أمر هذا التركيب اللغوي فإن نفى القدر فلماذا نسميه قدرياً إذاً؟ أليس من الأصوب تسمية من يقول بالقدر قدرياً (وهم الجبرية في هذه الحالة)؟ لماذا قلبوا الأمور رأساً على عقب؟ لا بد أن في الأمر سرّاً دفينا!!. لم يتغير شيء بعد.. ها هي جبرية معاوية معلقة كالتعويذة على صدورنا وسيف الحجاج على رقابنا.. والجزرة هي الجزرة سواء كانت حفنة من دولارات النخاسة او كيس من دنانير الرشيد الذهبية.. فعلامَ إذاً لا نرثي كبارنا الذي قضوا في ساحة الغربة.. دعونا نرثي غيلان أولاً! (انظروا اليهم سيرمونني بالكفر والزندقة الآن).
للمفكر العربي خصوصية مأساوية، فإن بقي في الوطن اضطر للخضوع الى مبدأ الجبرية، وبذلك يكون قد ألغى عقله (دع عنك مهزلة العقل والنقل، فالنقل ليس إلا اسقاط عقل الشاهد القروسطوي على الغائب، والعقل لا ينقد هذا النقل بل يخدمه)، وإن هاجر الى المنفى ليتمتع بالحرية المتوفرة اتهموه بالتصهين والتغرّب والكفر والزندقة وغيرها من التهم الجاهزة في خزانة الحجّاج المُبير، وهم لا يعون حجم الجهد الذي يبذله في الغرب لتوضيح وجهة نظر الشرق والتقريب بينه وبين نقيضه الغرب. هذا ما فعله الطيب صالح وادوارد سعيد وغبرهما.
نرجو من الله العلي القدير أن يتغمد فقيدنا الكبير الطيب الصالح بواسع رحمته.