بقلم نقولا ناصر*
ما زال المجتمع الدولي يحث الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على تهدئة مقاومته للاحتلال من جانب واحد ودون مقابل ، ويعتبر هذه التهدئة الأحادية الشرط المسبق للتوصل إلى وقف” دائم ومستدام” لإطلاق النار ، محملا بذلك الضحية المسؤولية عن هشاشة الهدنة التي أعلنتها دولة الاحتلال من جانب واحد إثر عدوانها الأخير على القطاع دون أن تلتزم هي نفسها بما أعلنته ، لا بل إن قادتها يعلنون ليل نهار بأن العدوان الذي توقف بسبب إجراء الانتخابات العامة سوف يستأنف بعد تأليف الحكومة الجديدة الشهر المقبل لاستكمال المهمة التي عجز العدوان العسكري الذي قادته الحكومة السابقة عن إكمالها ، أي أن “المجتمع الدولي” ما زال يضغط على الضحية لكي تتوقف عن المقاومة بينما يطلق يد الجاني حرة ليواصل الإجهاز على ضحيته دون أية ضغوط .
إنه السقوط الأخلاقي بعينه الذي يفرغ أية وعود سياسية يقدمها هذا المجتمع للشعب الفلسطيني بالتحرر والاستقلال من كل صدقيٌة ويوفر الحماية الدولية لإطالة أمد الاحتلال إلى أجل غير مسمى .
ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية مضاعفة لأن الضحية الفلسطينية قد استجابت لضغوطه فوافقت على أن تكون هي المبادرة إلى التهدئة ، ليس لأن إرادة المقاومة أو القدرة على المقاومة قد ضعفت بعد العدوان الأخير ، فدولة الاحتلال تعرف قبل المقاومين أن الضربة التي لم تمت المقاومة قد منحتها قوة إضافية ، بل لأن المقاومة قد جنحت فعلا إلى التهدئة أولا لحسابات وطنية خالصة قبل العدوان الأخير ولمدة سنة منذ أوائل عام 2005 ثم لمدة ستة أشهر حتى التاسع عشر من شهر كانون الأول / ديسمبر الماضي ، وثانيا لتسهيل وحدة الصف الوطني الفلسطيني ، وثالثا استجابة لمناشدة أشقاء عرب وأصدقاء دوليين ما زالوا يأملون في صحوة لضمير المجتمع الدولي قد تتمخض عن تسوية سلمية تحقق حدا أدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية ، ورابعا أملا واقعيا في أن يكون صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته للعدوان الأخير قد وفٌر شروطا موضوعية لمبادلة التهدئة برفع الحصار الخانق المفروض على القطاع .
وفي هذا السياق جنحت المقاومة إلى التهدئة مقابل رفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان عليه كمعادلة كان الوسيط المصري طيلة أكثر من شهر مضى يسعى لتحقيق توافق على أساسها بين المقاومة الفلسطينية وبين دولة الاحتلال ، لأن الحصار والعدوان هما عملان من أعمال الحرب من المستحيل أن تهدأ المقاومة لهما في ضوء التجربة الإنسانية التاريخية خصوصا إذا قامت بهما دولة قائمة بالاحتلال ضد شعب مدني أعزل خاضع للاحتلال . ويكاد يجمع الفلسطينيون في الوقت الحاضر على أن “التهدئة” مع الاحتلال مصلحة وطنية ، بما في ذلك قطبا الانقسام الراهن ، مع أن أحدهما (سلطة الحكم الذاتي) يعتبر التهدئة جزءا من استراتيجية منبثقة عن “نبذ العنف” والالتزام بالتفاوض سلميا طبقا للاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع دولة الاحتلال بينما يعتبرها القطب الثاني (حماس) ثمنا مقبولا تعلق بموجبه المقاومة لفترة زمنية محددة مقابل فك الحصار وفتح المعابر لإعادة إعمار ما دمره العدوان .
غير أن العقبات التي أثارتها حكومة الاحتلال المنتهية ولايتها برئاسة إيهود أولمرت في اللحظة الأخيرة الأسبوع الماضي — باشتراطها أن يشمل اتفاق التهدئة الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط ورفض حركة حماس للربط بين الأمرين – تؤكد بأن الاحتلال إنما يسعى إلى فرض صفقة لا تكون فيها الالتزامات متبادلة ، وإلى تهدئة فلسطينية طويلة لا سقف زمنيا لها من جانب واحد ، وإلى “ضمانات” فلسطينية وعربية لكن أولا “دولية” لمثل هذه التهدئة ، وإلى تجفيف أية مصادر مالية وإغلاق كل طرق الإمداد المحتملة لتسليح المقاومة للحيلولة دون أن يخرج خيار المقاومة من مجرد اجتهاد نظري إلى سلاح في اليد الفلسطينية يقاوم على الأرض مرة أخرى ، أي أن الاحتلال يسعى إلى صفقة استسلام يفرضها على المقاومة عبر القنوات الدبلوماسية بعد أن عجز عن فرضها بقوة العدوان المسلح .
وهذه بالتأكيد مناورة مكشوفة لتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية الفشل في التوصل إلى اتفاق تهدئة من أجل تسويغ استئناف العدوان العسكري ، ولن تستطيع حجة الجندي الأسير شاليط التغطية على هذه المناورة ، فقد كانت تصريحات جميع المتنافسين الرئيسيين على رئاسة الحكومة المقبلة مدوية في صراحة الإعلان عن نية استئناف العدوان ، إذ من المتعارف عليه كتقليد تاريخي أن “تبادل الأسرى” يعقب وقف الأعمال القتالية ولا يسبقها ، فأسرى الحرب هؤلاء ليسوا معتقلين سياسيين يتفق خصمان سياسيان على الإفراج عنهم لإثبات حسن النية وتعزيز الثقة عشية حوار سياسي بينهما .
ويلاحظ هنا أن الاحتلال الإسرائيلي وراعيه الأميركي قد نجحا منذ عام 2005 وخصوصا بعد مؤتمر أنابوليس عام 2007 في الضغط على قيادة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لكي تجعل قبول المقاومة بالتهدئة شرطا مسبقا للحوار الوطني ، وإذا كان يمكن سابقا تسويغ مثل هذا الاشتراط المسبق بالآمال التي كان يعقدها المفاوض الفلسطيني على “عملية السلام” فإن أي تسويغ كهذا لم يعد مقبولا ولا مفهوما بعد أن دفنت تلك الآمال – الأوهام مع أشلاء ومزق الشهداء الفلسطينيين تحت أنقاض أحياء المدنيين التي دمرت فوق رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والرجال القاطنين فيها خلال العدوان ، وبعد أن خابت آمال المفاوض في أن تأتيه القيادة الأميركية الجديدة بغير قديم سابقتها ، وبخاصة بعد أن ظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة في دولة الاحتلال التي أطلقت رصاصة الرحمة على “عملية أنابوليس” وتهدد بحسم المعركة عسكريا ضد المقاومة في القطاع وبسرعة كي تتفرغ لدفن تلك العملية العقيمة في الضفة الغربية ، حيث يعد قادة حكومة الاحتلال الجدد – القدامى علنا بأن المعركة المقبلة لدفن حل الدولتين ومعه عملية التفاوض التي كانت جارية بحجة ترجمة ذلك الحل الموهوم إلى واقع على الأرض .
لذلك فإن كل الشروط الموضوعية قد توفرت لانطلاق الحوار الفلسطيني كطريق وحيد لوحدة وطنية مطلوبة لذاتها كحاجة دفاعية حيوية لمواجهة حكومة الحرب الإسرائيلية المقبلة في معزل كامل عن التهدئة كشرط مسبق لها ، فقد حان وقت الفصل تماما بين الأمرين ، كما حان الوقت لإدراك الجميع بأن حالة المقاومة في القطاع هي الوضع الإنساني الطبيعي والوضع السياسي السويٌ بينما الوضع في الضفة الغربية هو الوضع الشاذ الذي ينبغي تصويبه كأساس للتوافق الوطني .
فنتائج الانتخابات الأخيرة لم تترك للمفاوض الفلسطيني أي شريك تفاوضي وتركته مخيٌرا بين أفيغدور ليبرمان ، مثيل جان ماري لوبن الفرنسي ، وتسيبي ليفني ، شبيهة البرلماني الهولندي جيت وايلدرز ، وبنيامين نتنياهو ، نظير فلاديمير زهيرينوفسكي الروسي ، وشمعون بيريس الذي يقابله بيتر دبليو. بوتا في جنوب إفريقيا ، كما كتب المستشار السياسي لرئيس الوزراء في غزة الدكتور أحمد يوسف في مقال له مؤخرا .
وباتجاه قادة الاحتلال والحرب والعدوان والتوسع هؤلاء ، لا باتجاه ضحاياهم ، ينبغي للمجتمع الدولي وامتداداته العربية والفلسطينية أن يوجهوا ضغوطهم إذا كانوا معنيين حقا بصنع سلام عادل وشامل في المنطقة ، فمفتاح وقف إطلاق النار الدائم — الذي أعلن الرئيس الياباني الدوري لمجلس الأمن الدولي يوكيو تاكاسو يوم الأربعاء الماضي أن الأمم المتحدة تريده “في أسرع وقت ممكن” ، والذي حذر مبعوث الهيئة الأممية للشرق الأوسط روبرت سيري في اليوم نفسه من أن عدم التوصل إليه يهدد بتجدد مزيد من العنف المدمر في غزة ، بينما جعل الرئيس الأميركي باراك أوباما الأولوية الأولى لمبعوثه الرئاسي جورج ميتشل تحقيق وقف إطلاق نار كهذا — إنما هو مفتاح موجود في تل أبيب لا في غزة .
إن استمرار مطالبة الضحايا في القطاع بالتهدئة وترك الذين مارسوا الحرب ويعلنون عزمهم على استئنافها في تل أبيب يواصلون استعداداتهم لها هو باختصار تشجيع للعدوان إن لم يكن شراكة فيه .
*كاتب عربي من فلسطين