زكريا النوايسة
حين تحاول أن تدرس الحالـة السياسيـة الإيرانية ستجابه بجملة من الطلاسـم التـي تحتاج جهدا وصبرا غير طبيعيين لتصل إلى معالم واضحة تستطيع من خلالهـا فك هذه الرموز ليتسنى وضع توصيف منطقي لهذه السياسة ، فإيران الدولـة تتفرد دون سواها بهذا البناء السياسي المتشابك والذي لا يدخل في قاموسه الشراكة مع الآخر أو التعدد في إطـار حفاظ كل طـرف على مكوناتـه العقائديـة والسياسيـة ، بل الثابت أن كينونة إيـران لا تتحقق إلا بإلغـاء الآخـر وطمس كل تفاصيلـه الحضاريـة والثقافيـة واللغوية والقيمية ،وهو ما نراه متحققا الآن في العراق بعد أن صبغت روح هذا البلد بثقافتها الفارسية وسعت من خلال أذرعها الطائفية إلى مسح الكثير من المعالم التـي تبرز وجه العراق العربي لتبدو أقرب إلـى ملامـح فارسيـة خالصـة، وقبل كل هذا كانت قد اغتالت الروح العربيـة في الأحواز ،وتسعى إلـى هذا الفعل فــي أكثـر من مكان من المنطقة العربية.
إيران الدولة تمثل حالة من التوحش المغلف بغطاء ديني ولا أقول إسلامي ، لأن ما تعيشه إيران وتطرحه يتنافى مع مُثل الإسلام الساميـة ، وادعاؤها أنها ثمثـل روح الإسلام تدحضـه الحقائـق ، وتكذبـه حركـة هذه الدولة الأميبيـة ، فالإسلام لم يشـرّع الغدر والكذب ، بل غلّظ العقوبة على هذين الفعليـن القبيحيـن ، ولكـن إيـران لا تـرى ضيرا في أن تبني سياستها وكيانها عليهما ، فالغدر الإيراني في أفغانستـان والعـراق والأحواز لا يمكن لأحد إنكاره لأن ايران ذاتها تعلن عنه دون وجل، والكذب المغلف برزم تومانها ما زالت معالمه شاهدة في الساحة وسيبقى مفعولـه – بكل أسف – إلى أمد بعيد.
ويكفي أن نورد تصرحين لمسؤولين إيرانيين من المستوى المتقدم يعبران فيهما عن العلاقة بين الشيطان الأكبر ( أمريكا ) وبين إيران التي تقدم نفسها كرأس حربة في مقارعـة هذا الشيطان ، فلم يجـد مسؤول بوزن محمد على أبطحي نائب الرئيسالإيرانـي للشؤون القانونية والبرلمانيـة وفـي ختام أعمـال مؤتمـر الخليـج وتحديـات المستقبل الذي نظمــه مركـزالإمارات للدراسـات والبحــوث الإستراتيجيـة بإمـارة أبو ظبي بتاريخ 2004/1/15 ما يدعو للخجل أن يعلن أن بلاده: “قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضدأفغانستان والعراق”، وأنه “لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذهالسهولة.” وفي تصريح آخر يقول رجل إيران القوي رئيس مجلس تشخيص مصلحــة النظـام والرئيس الإيرانـي السابق علي أكبـر هاشم رفسنجاني في خطبة له في جامعة طهران بتاريخ 8/2/2002: ” القواتالإيرانيـة قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، وأنّه لو لم تُساعد قوّاتهم في قتالطالبـان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني”، ويقول في نفس الخطبة : “يجب على أمريكا أنتعلم أنّه لولا الجيش الإيراني الشعبيّ ما استطاعت أمريكا أنْ تُسْقططالبان”.
وفي الجانب الآخر نرى إيران تنشط في هذه الآونة للترويج لدورها كدولة مقاومة ولا تتوانــى عن لبس العديــد من الأقنعــة التــي تخفي خلفها الوجه الحقيقـي لإيران المذهبية والقوميـة ، ففي لبنان نسمع حديث المقاومة المدعومة من إيران ليصل هذا البلد المنكوب إلى حقوقه السيادية في الأراضي التي ما تزال إسرائيل تحتلها ، وفي فلسطين تسعى إيران بالمال والسلاح لإقناع الدهماء من العرب والمسلمين أنها تفعل ما تفعل لا لهدف إلا لتحرير الأرض والإنسان الفلسطينــي ، ولكن الحقائــق تدحض هذا الفرية ، فإيران وضمن إستراتجيتها الدفاعية لا ترى ما يمنع من دعــم أي جهة كانت بالسلاح والمال ، إذا كانت هذه الجهــة ستنوب عنها في معاركهــا بعيــدا عن الأرض الإيرانية،وفي العراق تمارس إيران دور المشفق الحريص على مصالح هذا البلــد ، ولكــن ما يجــري علــى الأرض يكشف كذب وزيف هذا الإدعــاء ، فالعبث والتدخل الإيراني في أدق تفاصيـل العراق هو ما أوصلـه إلى هذا الوضـع السياسـي الباهت والأمني المتردي.
إن العلاقة ما بين التقيّة الدينية والتقيّــة السياسيــة متطابقة في أدبيــات ونظريــات السياسة الإيرانية ، بحيث أنك ستعجــز فـي البحث عن فاصل بينهما ، فإيــران كبناء عقائدي مذهبي يستمد مبررات وجوده من النصوص الدينية التي توظف في خدمــة الهدف السياسي ، والذي هو في منتهاه سيشكل قاعدة لبناء الدولة الدينية الكبرى ذات الصبغة المذهبية ( الشيعية ) ، فالساســة الإيرانيــون ومنذ قيــام الثورة الإيرانية فـي عام1979 لم يبادر أحدهم إلى طرح نموذج لدولة مدنيــة ، أو دولــة يمكــن أن تقبـل (الآخر ) السياسي أو المذهبي ، وكان الملاحظ التناغم بين الإصلاحيين والمحافظيـن في رسم معالم هذه الدولة ( دولة ولاية الفقيه ) بالرغم من الخلافات والاختلافات في الرؤى والمشارب السياسية ولكن الهدف الأكبر والأسمى في نظرهم يجعلهم فوق كل اختلاف فدولة المهدي المنتظــر يتساوى في البحث عنها المحافظ والإصلاحي ، ولا تكاد تجد هذه الصورة إلا في النظريـة
الصهيونيـة التي يتفق فيها الصهاينـة المتدينون والعلمانيون على حلم ( إسرائيل الكبرى ).
الصهيونيـة التي يتفق فيها الصهاينـة المتدينون والعلمانيون على حلم ( إسرائيل الكبرى ).
قد يقول البعض أن هناك مبالغة في طرح عقيدة التقيّة عند الشيعة وأن ما يشاع عن إصرارهم على صياغة وبناء معادلتهم السياسيـة وفقـا لهذه العقيدة فيــه من الإجحاف والظلم الكبيرين ، وحتـى لا نقـع فـي مزالق رمـي التهم جزافـا كان لا بـد من دراسـة بعض النصوص المشهورة والمعتبرة فـي المذهب التـي تجعل من هذه العقيدة أساسا لأي حـراك فـي اتجــاه تحقيـق الهـدف الشيعـي بغض النظـرعن جغرافيتــه وزمانـه والظروف المحيطة به :
عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقيــّة ولا دين لمــن لا تقيــة له والتقيـــّة فــي كل شيء إلا في النبيــذ والمســح على الخفين) / الأصول من الكافي ج1 ص 217.
عن حبيب بن بشــر قال: قــال أبــو عبد الله (عليــه السلام): سمعـت أبــي يقول: سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجــه الأرض شيء أحب إليّ من التقية، يا حبيب انه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعــه الله. يا حبيب إن النــاس إنمــا هــم فــي هدنــة فلو قد كان ذلك كان هذا)/ الأصول من الكافي ج2 ص 217.
روى مسعود العياشي في تفسيره عن الحسن بن زيد بن علي عن جعفر بن محمد عن أبيه (قــال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا إيمـان لمن لا تقية له ويقول: قال الله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة) /وسائل الشيعة ج11ص467.
يقول شيخهم وكبير محدثيهم محمد ابن علي الملقب بالصدوق : “واعتقادنا في التقية أنها واجبه ، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة والتقية واجبه لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم فمن تركها قبل خروجه فقد خرج مندين الله )/ رسالة الاعتقاد ص 104.
وعن أبو جعفر أنه قال 🙁 خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية) /أصول الكافي ج2 / ص220. (والضمير هنا يعود على العامة وهم أهل السنة)
وروى محمد الشعيري ( كذبا ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تاركالتقيّة كتارك الصلاة )/ بحار الأنوار: 75-412
وعن الصادق أنه قال) : ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه ليكون سجية مع من يأمنه ) /أماليالطوسي ص 229.
يقول الشيخ المفيد في تعريف التقية : ( التقيـّـة كتمان الحق وستـر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين )/ تصحيح الاعتقاد ص) 115والمقصود بالمخالفين أهل السنة كما هو شائع).
وبعد هذا العـرض لعدد من النصوص المشهورة التــي تبــرز أهميـة التقيــّة في حركة المجتمع الشيعي ، بل الضرورة الفائقـة للتمسك بهذه العقيـدة ، بعد كل هذا هل من أحد سيبقى مصرا على دفاعه عن تلك الصورة الخادعة لهذه الجمهوريـة الانتهازيــة؟ وإظهارهــا كطليعة للمدافعيـن عـن المستضعفيـن والمضطهديـن في العالم ، وتقديمها على أنها حاملة لواء المقاومة في وجه الاستكبــار الدولي وعلى رأسه ( الشيطان الأكبـر ) الذي يُطلق عليــه مجـازا هـذا اللقب ولكنـه في الحقيقة صديـق تُزجى له الخدمـات كما تشهد على ذلك الساحــة العراقيـة والأفغانستانيـة كدليل صارخ على الوجه الإيراني الكاذب .