سامح عوده – فلسطين
تقول أحلام مستغانمي في إهدائها رواية ” ذاكرة الجسد “
” إلى مالك حدَّاد ..
الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألا يكتب بلغة غير لغته ..
فاغتالته الصفحات البيضاء … ومات متأثراً بسلطان صمته
ليصبح شهيدَ اللغة العربية، وأول كاتب قرَّرَ أن يموت صامتاً،
وقهراً، وعشقاً لها” .
بالتأكيد لم يكن مقصوداً من هذه المقدمة أن يكون محتوى المقالُ درساً في اللغة، ولا تراجيديا حزن يراد منها البكاء على الأطلال، أو درساً في البلاغة، ربما الأجدرُ أن تصلحَ تلك المقدمة لدرس في التاريخ، أو في فن الصمت، الصمت الذي أصبح مرادفاً للذات العربية، والصمت في غير موضعه يعبرُ عن حالة من البلاهة، أو الجبن، منذُ ما يقارب القرنَ ونيف والحالة العربية ليست سويةً، أقصد بأن أيدلوجيا الصمت، والتباكي هما الأيدلوجيتان اللتان تصلحان لوصف الحالة العربية المزرية، فإما العجزُ أو القهرُ، أو ظلمُ ذوي القربى..!! فهم من جعلونا نغرقُ في شبر من الخوف، فحتى الأقلامُ باتت شحيحةً في إنتاجها، وتوثيقها لكل شيء في حياتنا، وجفافُ الأحبار جعلها لا تقف موقف الشاهد الأمين على ما يجري من حولنا من ظلم وافتراء، وحتى لا أغرقُ في فلسفات، وتأويل للكلام أشير إلى الوضع العربي المزري، وحالة التراجع والتخاذل التي نعيشها اليوم، فلسطين، والعراق، ولبنان، ونماذجُ أخرى من القهر، أينما حاولت النظر تجد المشهد نفسه، ربما بمفردات مختلفة لكنه في المحصلة المضمون نفسه، ومع ذلك نمارس صمتاً غليظاً، بالمطلق لا يعبرُ عن صمت الحكماء .
لم يخطئ ناصر دمج نخطئ البتة عندما قال ” إن التاريخ لم يتعدَ على المسارات الثابتة في سياق حضارته الإنسانية، لان الثبات ألزماني والمكاني سمه لا تقبل التاريخ بها كحاكمة وضابطة لحركته الحضارية كون التصارع ومنهاج النفي وزوال الطوالح لصالح الحق والعدل،” فالتاريخُ في مساره ومنذ وجود الخليقة اعتمد على كم تراكمي للأحداث شكلت في مجموعها السيرة التاريخية للبشرية، وأتت كتابةُ التاريخ كمحصله تراكمية للأحداث، فمنها من نقل بموضوعية ومنها من اعتمد على تجيير ” الايدولوجيا ” والرأي المسبق لصالح الفكرة المراد توثيقها، بالرغم من أنها لم تكن واقعاً يوماً ما، لأنها كانت ومازالت تعبر عن حالة فصام ذهنية قادت أصحابها إلى حبكة قصصية خرافية ألصقت للتاريخ لتشكل إرثاً حضارياً، وتراثاً، فكرياً، لفئة عرقية لتكون حالة الفصام تلك هي الخزعبلات التي يراد زرعها في الذاكرة الآدمية، وبتأكيد فان كل الطوالح إلى زوال مهما حاولت من إضافة هالة من القدسية إليها..!! أما الحق المستند إلى أصل واقعي فهو الباقي في أذهان وعقول البشر وعقولهم .
أدركُ تماماً أن الحق المبني على الأصل هو الباقي بالرغم من كل المحاولات التي تريد تغيبه، ربما لان عوامل التحول والتغيير لم تكن ذات أصل يمكن البناء عليها لإنتاج موروث أصيل يتناسب مع عوامل الزمان والمكان المسرح الحاضن للأحداث كلها، وهذا ما حصل فعلاً مع الحركة الصهيونية كونها حاولت في نهاية القرن التاسع عشر وتحديدا بعد مؤتمر ” بال ” في سوسيرا، عندما حاولت جمع خليط غير متجانس من البشر وصهرهم في بوتقة الصهيونية مرة واليهودية مرةً أخرى، والعزف على وتر الأرض المقدسة ” فلسطين ” التي تدرُ لبناً وعسلاً لتسهل عملية الصهر، لذلك ظهرت تيارات حاولت ربط الخرافة بالتاريخ لتكوين ” الايدولوجيا “ التي يمكن الاعتماد عليها في إقناع تلك الفئات سواء كانت يهود أو غيرهم لتكوين ما يسمى بالوطن الذي يحويً اليهود وغيرهم ممن ضاقت بهم سبل العيش في مواطنهم الأصلية، وهذا ما حدث مع كل الهجرات منذ أن أقيمت إسرائيل، في نماذج الهجرات في العقد الأخير من القرن الماضي، وتحديداً هجرات اليهود ” الفلاشا ” واليهود ” الروس ” الذين كان من بينهم يهود وغير يهود، جاءوا بدافع العوز بحثاً عن لقمة العيش ليس إلا، لذلك منهم من عاد ومنهم من يفكر بالعو
دة إلى موطنه الأصلي خاصة بعد تحسن الأوضاع في دول الاتحاد السوفيتي السابق .
دة إلى موطنه الأصلي خاصة بعد تحسن الأوضاع في دول الاتحاد السوفيتي السابق .
مؤخراً ظهرت العديد من الدراسات التاريخية الموثقة تناولت هذا الموضوع بإسهاب، ومنها ما أصدره أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب ” شلومو ساند ” والكتاب يستند إلى دراسة توثيقية لتاريخ اليهود بعنوان متى وكيف جاء الشعب اليهودي، وهو الأكثر شهرة والأكثرُ مبيعاً، فالكتاب يعالج قضيتين أساسيتين الأولى أن اليهود يرجعون إلى أصل وأحد بغض النظر عن الاختلاف في اللون، والثانية أن حالة الشتات التي ينفيها المؤلف تماماً، ولهذا فان الفكرة الايدولوجية – الرجوع إلى الوطن- التي تتبناها الحركة الصهيونية هي فكرة كاذبة..!! ولا أساس لها من الناحية التاريخية، وهو يؤكد أن اليهود قاموا بمثل ما قامت به حركات قومية أوربية حاولت أن تصنع تاريخاً بطولياً لنفسها لتثبتَ أن شعوبها كانت موجودة منذ بدء التاريخ، فكذلك اليهود صنعوا لهم تاريخاً يرجع إلى دولة داود الأسطورية، في الكتاب الكثير من الشواهد التاريخية التي تدلل على كذب ما جاءت به الحركة الصهيونية، وما كتب في أدبيات منظري الحركة الصهيونية لم يستند إلى شواهد تاريخية، والا فما هو السبب الحقيقي وراء عمليات الحفر والتخريب للمقدسات في مدينة القدس، اجزم بأنهم يحاولون البحث عن شيء يربطهم بهذا المكان من باب تدعيم الأسطورة التي يدعونها، والأمر الآخر تخريب وهدم المقدسات الإسلامية والمسيحية التي تمثلُ وجه المدينة المشرق، عشرات السنين والحفريات لم تتوقف ولن تتوقف الا بالقضاء على المعالم الدينية في المدينة.
لم يكن البروفسور ” شلوموساند ” أستاذ التاريخ في اكبر جامعات إسرائيل عربياً أو مسلماً، انه من رحم المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية التي يتفاخرُ اليهود بها، والاهم من ذلك أن كتابه المثير للجدل لم يجرؤ أحد من زملائه على نقده حتى الآن، ترى لو لم يمتلك ” ساند ” الأدلة التاريخية التي تؤكدُ صدق ما جاء به، هل تراهم يسكتون عنه حتى الآن ؟!
ولم يكن ” ساند ” الباحث الوحيد في هذا الشأن فهناك كتاب آخر صدر مؤخراً للبرفسور المرحوم عبد الوهاب المسيري ” من هم اليهود ومن هي اليهوديه ” والكتاب يناقش مسألة هامة تثير جدلاً في المجتمع الإسرائيلي، ويخشى الجميع من طرحها وهي من هو يهودي، في الكتاب إن قضية تعريف من هو يهودي مسالة هامة، وهي ليست قضيه دينيه أو سياسيه، لانها مصيرية تتعلق في شكل الدولة وتعد مصدراً لشرعية الدولة، والمسيري إذ يرى أن المؤسسة الصهيونية الحاكمة لا تملك الحد الأدنى من الاتفاق حول السؤال المطروح من هو يهودي؟ ولهذا لجأت مؤسسات الدولة إلى تجاهله، وإيجاد حلول تلفيقية مؤقتة، كي يستمر هذا الأمر، لان الإجابة عن هذا السؤال تفجر العديد من الإشكاليات التي هم في غنى عنها، وإلا فكيف تكون دولة يهودية لكل اليهود دون أن يعرف من هو اليهودي.
لذلك وجد مفكرو الحركة الصهيونية إلى تصدير المشكلة اليهودية إلى الشرق، بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره في فلسطين ليس الهدف منه التخلص منه، وإنما العودة إلى أرض الميعاد التي جندوا الأقلام كي تكتب عنها، ساعدهم في ذلك الامبريالية الغربية التي ساعدتهم في إقامة دولتهم منذ وعد بلفور عام 1917 م وحتى عام 1948 م والهدف الحقيقي وراء تلك الخدمات المجانية هو الحفاظ على المجتمعات الغربية نظيفةً من اليهود كون اليهود في منتصف القرن التاسع عشر شكلوا قوى اقتصاديه وعزلوا نفسهم في ” جيتوهات ” اختيارية، لذلك بدا الحل الأنسب هو تهجيرهم إلى خارج القارة الأوربية.
باعتقادي أن هذين الكتابين يمكن الاعتماد عليهما كوثائق لتكون شاهداً أمام التاريخ، والمسالة ليست بحاجة للكثير من العناء، المشكلة فينا نحن كعرب ربما استطاع اليهود من خلال أمريكيا والغرب ومن خلال الأنظمة العربية ألا تركز على مثل هذه القضايا الهامة، بل وان الإعلام العربي الذي يلوم عليه الدكتور المسيري في عدم كفاية تغطيته لمساءل هامة في الصراع ومنها من هو يهودي؟ بالتأكيد أن التاريخ لا يسمع من أصم، أو من صامت على الأرجح، وأمام ما يجري من تثبيت لهذا الكيان على أرضنا، هل سننتظرُ زمناً طويلاً من الصمت؟! مالك حداد ظل صامتاً كي يحافظ على لغته من الضياع، أما نحن فمارسنا الصمت مجبرين حتى اغتالتنا أنياب الجبن..!!