ليس في سوريا أيها السيد!
بقلم : زياد ابوشاويش
في الحرب الهمجية على قطاع غزة كان للأطفال الفلسطينيين النصيب الأكبر من الموت والتعذيب، وقد اهتمت كل وسائل الإعلام بذلك، حتى أن كثيراً من أطفال العالم تظاهروا ضد اسرائيل لهذا السبب بشكل خاص، ولم يبق بيت في الوطن العربي إلا وبكى أهله من الحزن والقهر تجاه مأساة أطفال غزة وما أصابهم، وهذا ينطبق على القطر العربي السوري وبطريقة مميزة حيث لم يبق شارع أو مكان عام ولا خاص إلا ووضع صور أطفال غزة ودعا لنصرتهم، وفي المدارس الحكومية والخاصة قام الطلاب بجمع التبرعات لأطفال غزة وتعاون الجميع في ذلك وإلى هنا يبدو الأمر عادياً ومنسجماً مع ما تعودناه من نصرة الأشقاء وتعاطفهم الذي يقدره شعبنا الفلسطيني ويثق في صدقه، إلا أن شيئاً مزعجاً قد حدث في أحد المدارس الخاصة بسوريا وهي مدرسة دولية وذات سمعة طيبة في مجال التعليم والتحصيل العلمي ومستوى طاقم التدريس وغير ذلك من المميزات التي تتمتع بها هذه المدرسة التي يكلف طالب الابتدائية فيها أهله مبلغاً من المال يساوي ما يكلفه الطفل في أمريكا ولا ينتسب لها سوى المقتدر مالياً.
في هذه المدرسة قام المدير الإنجليزي باستدعاء مدرس الفنون الجميلة الفلسطيني من غزة ليهدده في معاشه إن عاد وطلب من طلابه رسم لوحات عن أطفال غزة. ولغرابة الطلب والحوار سأحاول هنا إيجازه قدر المستطاع.
يقول السيد الذي قدمت بلاده وعد بلفور وأنشأت الكيان الصهيوني فوق أرضنا للمدرس أن أحد أهالي الطلاب اتصل محتجاً على طلب المدرس من الأطفال رسم لوحات عما يحسوه تجاه أطفال غزة مردفاً أن هذا تدخل فظ في السياسة وأن مأساة أطفال غزة ناجمة عن السياسة رغم السلوك الإسرائيلي القاسي (على حد تعبيره) وأن طلبك من الطلاب يدخل في مجال التحريض ضد السلام، وأنهى مطالعته للمدرس الفلسطيني بالقول أن هذا الأمر لو تكرر فلك أن تعتبر نفسك خارج هيئة التدريس بالمدرسة. طبعاً رد المدرس على التهديد مباشرة بالقول نصاً : هناك أمران لا تهددني بهما أيها السيد المدير وطني وديني فهما خارج أي حسابات وأنا حر في شعوري تجاه وطني طالما أني لا أعكسه في العملية التربوية بالمدرسة لخصوصيتها وليس لأن هذا ممنوع بالمبدأ كما أنك أيها السيد حر في شعورك تجاه بلدك ونحن في هذا متساويان .
وأردف المدرس بأن مدة الحرب على غزة لم أكن في المدرسة بل في إجازة وعندما عدت للدوام كانت الحرب قد توقفت وبالتالي لم يكن طلبي من الطلاب تحريضاً أو أي شيء من هذا القبيل، وخصوصاً أن مدخل المدرسة ذاتها مزين بلوحة كبيرة رسمها أحد الطلاب لأطفال غزة، كما قامت المدرسة بجمع التبرعات لهم ولا فرق هنا بين ذلك كتعبير عن التضامن مع مظلومين بالمعنى الإنساني إن أردت وبين أن أطلب من الطلاب رسم أطفال غزة.
الغريب في الأمر أن المدير أصر على موقفه رغم كل الشرح وانتفض مزمجراً حين أخبره المدرس الفلسطيني أن موقفي تجاه اسرائيل هو اعتبارها دولة عنصرية قامت على حساب شعبنا وأنها دولة معتدية ولا أعترف بها لا اليوم ولا في المستقبل. وبالطبع قال المدير للمدرس بعد هذه الكلمات قناعته بحق اسرائيل في الوجود وأن إعادة الطلب من الطلاب لرسم مشاعرهم تجاه أطفال غزة يمكن أن يعرضه للفصل من المدرسة.
هناك طبعاً كلام آخر داخل حوار امتد بين المدرس والمدير لثلاثة أرباع الساعة وجدنا أن ما أوردناه يمثل جوهر الحوار ويلخصه.
من المعروف تربوياً أن الفن بكل أشكاله يستخدم لرفع الحس الإنساني عند الناس عموماً وفي المدارس خصوصاً وأن الرسم كأحد أشكال الفن المعروفة منذ القدم استخدم للتعبير عن مشاعر الفنان أو أي ممارس تجاه ما يحيط به وما يعتمل في نفسه، كما استخدم للتوجيه والتعبئة تجاه بعض القضايا الهامة في الحياة وكمحرض على القيم الإنسانية والمثل العليا، ولم يكن الرسم في أي وقت بدون قضية أو هدف، ولا يوجد في هذا النوع من الفن أي ظل لمقولة ” الفن للفن “.
ولأن ما جرى في غزة كان صارخاً لأقصى الحدود فيما ي
خص عذابات أطفال غزة فقد وجدنا تعاطفاً غير مسبوق مع قضيتهم حتى أن طلاب من غير العرب في هذه المدرسة التي نتحدث عنها رسموا لوحات تضامنية جميلة مع أطفال غزة وهو ما ذكره لي هذا المدرس، وسوف يستخدمها في إيضاح موقفه للمديرة السورية المسؤولة عن المدير الإنجليزي الغاضب لأسباب لا تمت للعملية التعليمية والتربوية بصلة.
عندما يعبر الطفل عن مشاعره بالرسم فهو لا يستخدم سوى القلم والألوان، وهذا جوهر العملية التربوية والسعي لتعميم مفاهيم السلام التي تدفع باتجاه التعبير بأشكال غير عنفية عما يجول في خاطر الطفل أو الشاب الأمر الذي يحققه الفن وفي القلب منه الرسم.
إن شوارع سوريا المليئة بصور الضحايا من أطفال غزة ومعظمها صور دامية ومؤلمة ويراها الأطفال كل يوم في غدوهم ورواحهم تكذب رأي هذا المدير الإنجليزي، كما تظهر للجميع وخصوصاً العاملين في مجال التربية أن محاربة العنف وتعميم مفاهيم السلام لا تكون بإغماض العين عن جرائم اسرائيل البشعة والتسامح مع جرائمها بل بإظهار بشاعة هذه الجرائم ومعاكستها لأبسط القيم الإنسانية وضرورة ردعها لأنها تتكرر دائماً.
إن ما جرى مع هذا المدرس الفلسطيني في هذه المدرسة يفتح على نقاش واسع في السياسة التربوية والفن كما في السياسة العامة وطريقة مواجهة العدوان الإسرائيلي في الميدان أو في المدرسة وفي كل المجالات بما فيها الفنون. لكن المؤكد أن التعاطف مع أطفال غزة برسم لوحات تعبر عن معاناتهم والتعاطف معهم وإدانة القتل والإجرام هو عمل مشروع وواجب تحتمه قيم الحق والإنسانية وليس الانتماء الوطني فقط، وعلى المعني أن يراجع حساباته إن لم نقل معلوماته فهو في سورية البلد العربي الوحدوي الذي يعتز كثيراً بعروبته حكومة وشعبا.
زياد ابوشاويش
ً