د/نصار عبدالله
الحاج عبدالقادر أو الحاج عبده كما كنا نناديه كان بائعا لأشهى وأطعم أطباق الفول المدمس، ربما على مستوى مصر بأكملها !!! .. كان ـ رحمه الله ـ يقف بعربة يد عليها قدرة ضخمة أمام ضريح سعد ، …دائما كان حواليه زحام شديد من عشاق فوله المتميز الذين كان بعضهم يأتى إليه خصيصا من أماكن بعيدة من محافظة القاهرة أملا فى ساندويتش أو طبق يتناولونه وهم وقوف قبل أن ينفد ما فى القدرة ويهتف الحاج فى الزبائن : ـ خلاص شطبنا!!، اللى ما لحقش ييجى بكرة !! …وحين فتح الله على الحاج عبده، واستبدل بعربة اليد محلا مطلا على نفس المكان الذى كانت تقف فيه العربة، ظل رغم ذلك محافظا على كمية مبيعاته : قدرة واحدة يوميا يعلن بعدها أنه قد شطب أيا ما كانت أعداد الزبائن المنتظرين!! وكان يعلل ذلك بضرورة المحافظة على المستوى والنوعية!! ، ولهذا السبب لم يكن المحل يقل زحاما عن العربة!! بل إن مستوى الزحام قد تضاعف فى الحقيقة أضعافا مضاعفة نتيجة لهذه السياسة الغريبة (أو بالأحرى التى كانت تبدو حينها غريبة) من جانب الحاج عبده …ورغم أنه كان من الصعب جدا أن يجد المرء عيبا واحدا من أى نوع كان، سواء فى فول الحاج عبده ، أو فى خلطة توابله السحرية، فإن العيب الحقيقى الذى جعل الكثيرين من الزبائن ينصرفون فيما بعد واحدا بعد الآخر عن هذا الفول الممتاز، كان هذا العيب كامنا فى الحاج عبدالقادر نفسه … فرغم أنه رحمه الله لم يقدر له أن ينال أى قدر من التعليم والثقافة إلا أن منظر الحشود المحشورة فى محله أو المتكدسة أمام الباب كانت تغريه بأن يمارس دور الخطيب أو الواعظ ، حيث كان يتوقف أثناء إعداد أحد الساندويتشات لكى يكلم الناس بصوت زاعق ممتلىء بالحماس عن تدهور الأخلاق، وعذاب القبر ، وعقوق الأقارب، وفساد الرجال والنساء، وغلاء الأسعار، منتقلا دون رابط من الموضوعات العامة إلى الخاصة، ومن الفن إلى السياسة والكرة، مطعـما خطابه بين الحين ببعض الأحاديث التى يرويها على أنها آيات ، وبعض الحكم والأقوال المأثورة التى يرويها على أنها أحاديث !!.. وعندما كان أحد الزبائن يحاول أن يستعجله ,وأن يلفت انتباهه إلى أنه مزوغ من العمل وأنه معرض لتوقيع عقوبة عليه إذا لم يعد إلى مكان عمله قبل اكتشاف أمره ، كان يجيبه فى غضب : لما ييجى دورك ، أنا مش مسئول عن التزويغ .. حضرتك كده بتحملتى ذنبك ، يعنى كده حضرتك عامل زى فلان … ثم يلتفت إلى الزبائن قائلا :عارفين قصة فلان ؟؟ … حينئذ ترتفع بعض الأصوات : خلصنا ياعم الحاج سقنا عليك النبى! ، فيرد قائلا : ــ مش لما أولا تعرفوا قصة فلان! ….، ـــ مش عايزين نعرف!! إحنا جايين من آخر الدنيا ناكل لقمة ولا نسمع قصص ؟؟،.. لكن الحاج يتجاهلهم ويبدأ يحكى بأعلى صوته قصة ما حدث لفلان مع علان ، وترتفع صيحات الإحتجاج دون أن يعبأ بها الحاج ،.. ويغضب البعض وينصرفون ، بينما يظل البعض الآخر ينتظرون وهم صاغرون ، …وفى أخريات عمر الحاج عبدالقادر عندما تدهورت صحته ولم يعد يقوى على الزعيق لفترات طويلة ، قام بشراء جهاز تسجيل ذى صوت مرتفع وراح يسجل عليه ـ كلما سمحت له صحته ـ فقرات من أحاديثه بقدر ما كان يقوى على الزعيق حتى ينقطع نفسه، إلى أن تمكن فى النهاية أن يعد شريطا مدته ساعتان من الزعيق المتواصل الذى يفرضه فرضا على الزبائن الصاغرين ، وكثيرا ما كان عند موضع معين من الشريط ، كثيرا ما كان يتوقف عن إعداد طبق الفول قائلا للزبائن : اسمعوا دى !! !! …..تذكرت الحاج عبــده رحمه الله عندما تابعت فى برنامج العاشرة مساء لقاء مع الأستاذ مدنى مدرس اللغة العربية الذى انتهز فرصة وضعه امتحانا لتلميذات إحدى المدارس فقام بتضمين الإمتحان فقرة تنطوى على رأيه فى فيلم للفنان محمد هنيدى معقبا إياها بسؤال يتضمن عبارة : ” الفنانون الذين يسخرون من القيم فاشلون “!!، ومن خلال حوار المذيعة المتميزة معه راح سيادته يفخر بأن هذا هو أسلوبه الدائم فى وضع الإمتحانات وهو أسلوب يربط من خلاله ( على حد قوله ) مابين مقررات الدراسه ومشكلات الواقع!! ، وأن هذا الأسلوب كان موضعا لثناء الكثيرين عليه إلى حد أن الأستاذ محمود عارف كتب عن ( إحدى) امتحاناته!! …لاحظ أيها القارىء أنه مدرس للغة العربية ومع هذا فهو يقول : ( إحدى الإمتحانات)… قلت لنفسى حينئذ : لقد كان الحاج عبده ـ رحمه الله ـ أرحم من هذا كثيرا… على الأقل: كان بوسع بعض زبائنه أن يتركوه وينصرفوا .