صحافية وعضوة محلس الشوري في البحرين
تاريخ ما بعد العراق، بدأ عند المفصل الزمني المحدد بانطلاق المشروع الشرق الأوسطي الاستعماري الأمريكي على أنقاض خريطة “سايكس-بيكو” الاستعمارية الأوروبية على الأرض العربية.. فغزو واحتلال وتدمير العراق عام 2003 كان بمثابة وضع حجر أساس مرحلة استعمارية جديدة، بدأت بإزالة أقوى وأغنى دولة عربية كان من أهم أدوارها، الجيوسياسية والتاريخية، الدفاع عن المنطقة ضد الأطماع الاستراتيجية العدائية الإقليمية والغربية المتجددة باستمرار. يمكن تعريف هذه المرحلة (ما بعد العراق) بأنها فترة افتقاد العرب لعناصر القوة في حسابات توازن القوى الإقليمية، لتمكين رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد بخطوط مذهبية وإثنية.. وقد تم بنجاح وضع أسس الخريطة الأولية بما تم إشعاله حتى الآن من انقسامات سياسية وصراعات طائفية وأثنية في مجمل المجتمعات العربية، وبما تم تأسيسه من علاقات وتحالفات عربية أجنبية تصنع وتؤجج المزيد من الخلافات والانقسامات العربية-العربية على مستوى المنطقة برمتها..
فبعد أن كان العمل السياسي والثقافي، في مراحل تاريخية سابقة، محصوراً ما بين الأحزاب السياسية وبين أنظمة الحكم حول محاور وطنية، أهمها المطالب الديمقراطية، والسياسات التنموية القائمة على العدالة الاجتماعية، صار هذا العمل السياسي، في مرحلة “المشروع الشرق الأوسطي الجديد”، عبارة عن مجموعة من الخلافات والانقسامات والصراعات في المجتمع الواحد، وخلافات ما بين الأنظمة العربية ذاتها..
ففي الجانب الأهلي تتسع الانقسامات المذهبية والأيديولوجية، وفي الجانب الرسمي تتصاعد الخلافات العربية العربية، وفيما بينهما تتسع الهوة وتزداد عمقاً بين الشعوب والأنظمة.. حتى باتت هذه الصراعات والانقسامات مشكلتنا الرئيسية، وتحولت قضايانا المعيشية والتنموية إلى أدوات مقايضة ومساومة.
بعد العراق، ألغيت الثوابت وتزعزعت القيم، وعند تلك النقطة بدأت المساومات في “مؤتمرات السلام” على الحق العربي، وصار للعدو الصهيوني اسم شرعي و”دولة” تُدعى “إسرائيل”، وصار لهذا العدو حضور في مجالسنا ومضاجعنا بفضل شاشاتنا الفضائية، بعد أن كان من المحرمات.. ومنذ ذلك اليوم صارت العلاقات، غير المتكافئة، ما بين أمة عربية تتنازل عن حقوقها في الأرض والأمن والسلام والتنمية والعلوم والتكنولوجيا وبين كيان محتل وغاصب ومدعوم بأساطيل أكبر قوة في العالم، أحد عناصر الصراع والمزايدات والخلافات والتحالفات التي بدأت تأكل ما تبقى من الجسد العربي الواحد. فلم تكذب الوزيرة الأمريكية السابقة عندما قالت إن المنطقة تعيش حالة “مخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد”..
نعم.. فكل هذه الانقسامات الطائفية والسياسية، والحروب التدميرية، وتهمة الإرهاب، وجرائم الإبادة الجماعية، والدفع بالمنطقة نحو المزيد من التخلف والفقر، ما هي إلا حالة مخاض..
والمضحك المبكي إننا بعد كل معركة دمار شامل وإبادة جماعية، يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء، ونجني المزيد من المدن المدمرة ونخسر المزيد من مواردنا باسم إعادة الإعمار، نصدح بالانتصار على العدو، حتى يغطي صوت أهازيج النصر على مآسي وكوارث تلك الحروب غير المتكافئة.
واليوم، وبعد ما يزيد على ست سنوات من الحروب والمعارك المفتعلة، وما تحقق خلالها من نجاحات للمشروع الاستعماري على الأرض العربية، فإن الحصاد الأوّلي لنتائجها يكشف أن أساطيل “الناتو” تمكنت من فرض حصار محكم حول المنطقة، باتفاقيات ومعاهدات تم توقيعها على هامش كل معركة.
ففي الشرق، تم احتلال العراق وفرض السيطرة التامة على كل الحدود والمنافذ العربية، من الحدود التركية العراقية وحتى نهاية حدود خليج عُمان مع بحر العرب (الحرب على العراق، 2003).
وفي أقصى الغرب، تم فرض السيطرة الدولية على جنوب لبنان وتدويل الحدود البرية والمنافذ البحرية اللبنانية، ورقابة مستمرة في مياهها الإقليمية (الحرب على لبنان، 2006). وفي الغرب، تم فرض الرقابة والحراسة في المياه الدولية المواجهة لغزة ومصر، والمنافذ الشمالية للبحر الأحمر، مع الحق في قصف أي عمق عربي يُتهم بتهريب الأسلحة (الحرب على غزة، 2009).
أما تدويل بحر العرب في جنوب شبه الجزيرة العربية والتحكم في المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر، فقد كان من أهم نتائج أسطورة القرصنة الصومالية (التي تذكرنا بحكايات ألف ليلة وليلة) في بحر العرب..
ويجب التذكير بأن هذه المنطقة البحرية تعد جزءاً من الأطماع الغربية في مسلسل تأمين منافذ ومسارات خط النفط (الجديد) في القرن الإفريقي، وما لذلك من علاقة بالقضية المفتعلة في دارفور والجنوب السوداني. وهكذا، وقبيل انتهاء العقد الأول من القرن الجديد صارت كل الحدود البرية والبحرية العربية تحت السيطرة والهيمنة الغربية.. والمعركة مفتوحة، لم تنتهِ بعد..