نبيل أبو جعفر *
بين التشاؤم والتفاؤل جاءت كلمة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن التي ألقاها في ندوة أمنية عُقدت بألمانيا يوم السبت الماضي تحمل موقفين متناقضين بالكامل من قضية واحدة ، استحال على الذين يحلّون الألغاز تفسير سبب ذلك . هل هو مقصود من قبله ، أم أنه مجرد خطأ في اللفظ أو التعبير . في البدء فاجأ بايدن المستمعين بقوله أن فكرة دولتين فلسطينية وإسرائيلية قد تجاوزها الزمن ، ولكنه عاد سريعا ليؤكد تصميم إدارة أوباما الجديدة على تحقيق حل الدولتين !
وبين التفاؤل والتشاؤم ، تراوحت توقعات المتابعين لمهمة جورج ميتشيل مبعوث الإدارة الخاص للشرق الأوسط الذي أنهى جولته الأولى منها باستطلاع آراء الجميع حول إمكانات هذا الحل ، وأعدّ تقريراً حول محصلتها إلى الإدارة ، على أن يعود لاستئنافها قبل نهاية الشهر الحالي .
جورج ميتشيل الذي يصفه البعض بأنه أحد العاملين بصمت لخدمة اللوبي الصهيوني منذ زمن، وأحد الحريصين عل مصلحة إسرائيل ، ويتّهمونه بأنه يُنكر أي صلة له بالعرب حتى عن طريق أُمّه اللبنانية . يرى فيه البعض الآخر – قياساً برجال السياسة في الولايات المتحدة – أكثر اعتدالاً وقبولاً ، خصوصاً إذا ما أُخذت بعين الإعتبار مواقفه المعارضة للإستيطان ، المتفهمة للإنتفاضة التي اندلعت على إثر زيارة التحدّي التي قام بها آرييل شارون إلى المسجد الأقصى والتي وصفها ميتشيل بالإستفزازية . وثمّة من يدلّل على موضوعيته وعدم إنحيازه بأن أحد أهداف أوباما من وراء اختياره لهذه المهمة الحساسة ، تعديل الكفّة التي راجت بتعيين رام عمانويل ومارتن إنديك وغيرهما من المحسوبين على الخط الموالي للكيان الصهيوني . علماً بأن الأول يحمل الجنسية الإسرائيلية، والثاني يهودي أسترالي/إسرائيلي الهوى والتوجّه.
المهم أن هذا التباين في الموقف من ميتشيل ، لا يسمح حتى الآن بتحقيق رجحان بالغٍ ضده ولا رجحان معه من قبل أطراف الصراع . وهذه الحالة لا يمكن أن تنطبق ـ مثلا ـ على الموقف من المنحازين علناً دانيس روس والوزيرة السابقة كونداليزا رايس، لو كان أحد منهما مكانه على سبيل الإفتراض .
أين نحن من الأولويات؟
ولأن التوقعات منقسمة بين المرحَّب بمهمّته ، المتفائل بأن تُفضي إلى نتيجة إيجابية، وبين المتشائم الذي يعتقد أن الوصول إلى هذه النتيجة أمر مستحيل ، فإن مواقف كلا الطرفين من مهمّة الرجل الذي ساهم في حل مشكلة إيرلندا الشمالية حملت الأسباب والأسانيد التي يعتمد عليها كل منهما في قراءته للآتي. .
أصحاب الموقف المتفائل يرون ما ذهبت إليه صحيفة “يو إس توداي”التي قالت أن تعيين ميتشيل وتكليفه بهذه المهمة ، يشير إلى عودة الدور الأميركي كوسيط “أمين” بين اسرائيل والفلسطينيين. ويستندون في موقفهم هذا إلى إيجابية التوصيات التي وضعتها لجنة ميتشيل التي شُكّلت في العام 2001 لمتابعة نفس قضية الصراع، وقد تضمّنت أبرز نقاطها المطالبة بتجميد الإستيطان. ولا يعود عدم تنفيذها إليه بالطبع، بل إلى انحياز إدارة بوش للكيان الصهيوني حتى في التفاصيل الدقيقة، وإقدام الرئيس السابق على خنقها في المهد .
أما أصحاب الموقف المتشائم فيذهبون مذاهب شتى، لعلّ أكثرها مدعاة للفت الإنتباه ما عبّر عنه المؤرخ الفلسطيني الأصل رشيد الخالدي – الصديق الشخصي لأوباما – في حديث لصحيفة “هآرتس” قُبيل استلام الرئيس الأميركي الجديد مهام عمله، بقوله: “على الرغم من الأهمية البالغة لفوز أوباما بالنسبة للتاريخ والسياسة الأميركية، ورغم اقتناعي بأن الرئيس الجديد سيولي القضية الفلسطينية اهتماماً، إلا أنني لا أعتقد بأنه سيطرأ تغيّر على توازن القوى في واشنطن فيما يتعلق بالموضوع الإسرائيلي – الفلسطيني، ذلك لأن النتائج مرهونة بدرجة كبيرة على الأشخاص الذين سيتم تعيينهم في مواقع هامة بالنسبة للشرق الأوسط. فإذا عيّن أولئك
الذين كانوا مسؤولين عن الوحل الذي نغوص فيه منذ أكثر من عشرين عاماً ، أي منذ إدارات ريغان وبوش الأب وكلينتون، قبل أن يسوء الوضع أكثر في زمن بوش الإبن، فإن توقّعاتي ستكون في غاية التدّني، لأن هؤلاء يحملون أفكاراً ومواقف مسبقة” .
الذين كانوا مسؤولين عن الوحل الذي نغوص فيه منذ أكثر من عشرين عاماً ، أي منذ إدارات ريغان وبوش الأب وكلينتون، قبل أن يسوء الوضع أكثر في زمن بوش الإبن، فإن توقّعاتي ستكون في غاية التدّني، لأن هؤلاء يحملون أفكاراً ومواقف مسبقة” .
إلى جانب هذا الموقف الواضح والذي لم يعد يخلو من بعض أدلّة عليه ، ثمة من يرى أن الأولوية الملحة ـ بداهة ـ بالنسبة للولايات المتحدة تكمن في تحقيق هدفين آخرين لهما الأسبقية على حل الدولتين . أولهما الخروج من مستنقع العراق بأسرع ما يمكن وأكثر السبل أمناً وسلاماً ، وثانيهما الدخول بقوة أكبر في العمق الأفغانستاني، والتركيز على مواجهة “الإرهاب” المستشري هناك ، وقد بدأ أوباما هذا الدخول فعلاً بإصدار قرار جديد يقضي بإرسال خمس فرق عسكرية أخرى إلى هناك. وأمام هذين الهدفين يأتي أي هدف آخر في مرتبة تالية ، مع مراعاة الإيحاء لمن يهمه الأمر بعدم غياب الإدارة الجديدة عن المتابعة والإهتمام ، وهو ما عبّرت عنه صحيفة النيويورك تايمز بقولها “إن اختيار ميتشيل لهذه المهمة وأعطاءه الصلاحيات الواسعة، يؤكد للإسرائيليين أنهم سينالون الدعم الأميركي المستمر، كما يبعث للعرب رسالة مفادها أن الولايات المتحدة بقيادة اوباما تتحسّس – على نقيض سابقتها – المآسي التي يعانيها الفلسطينيون” . وإذا كان مثل هذا الكلام يوحي بمسك العصا من الوسط، إلاّ أن هذا الموقف “الوسط” بين الجلاّد والضحيّة يصب لصالح الأول منهما دون أدنى شك .
الوزيرة وصلاحيات الرئيس
غني عن الذكر أن جولة ميتشيل لم تسفر حتى الآن عن أي جديد يُذكر لا سلباً ولا إيجاباً، بل راوحت على نفس الموقف الذي لخصته “النيويورك تايمز” بالحرص على “أمن اسرائيل”، ومراعاة “الحاجة الإنسانية” للفلسطينيين . وبانتظار أي جديد إيجابي على الصعيد العملي لا بدّ من الملاحظة أن الرئيس الأميركي وإدارته ووزيرة خارجيته لم يعبّروا عن إدانتهم – ولو الطفيفة! – للمجازر الجماعية التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد أهلنا في غزة، ولا بدّ من التوقّف أيضاً أمام إصرار السيدة كلينتون على التعبير عن مواقف لا تبتعد عن مواقف إدارة بوش المعادية والغنيّة عن التعريف، ودخولها على خط الموفد الخاص جورج ميتشيل ، والتصريح وهو في بداية جولته بما يمالىء إسرائيل ويعكس التحيّز لها، الأمر الذي يذكّرنا بتصريحات سابقة لها كان أبرزها ما قالته في خطاب ألقته أمام المؤتمر السنوي لمنظمة “إيباك” عندما وصفت حركة حماس بالإرهابية، وأكّدت على أمن وسلامة الكيان الصهيوني إلى حدّ التهديد بمسح إيران ـ التي تدعو الإدارة الآن الى الحوار معها ـ من الخارطة إذا ما تجرأت على مواجهة إسرائيل “!”
لا ريب أن تصحيح هذا “الحَوَل” في الرؤية يتطلب من السيدة كلينتون أن تضع حداً لنغمتها النشاز في الطرح، وأن تتخلّى عن هذا الإنحياز المتعصب، و”تتجرأ” على المطالبة برفع الحصار المستمر وغير الإنساني عن قطاع غزة، وفتح المعابر، والتأكيد على عدم شرعية الإستيطان وضرورة وقفه، كي يتم الإنتقال إلى المرحلة التالية على طريق إنهاء الصراع، هذا إذا كانت حريصة على احترام البلد الذي تمثل وَجْهَهُ المطلّ على العالم، والذي ينصّ دستوره على أن مسؤولية السياسة الخارجية يتحمّلها الرئيس. وفي ضوء هذا النص جاء قرار اوباما – لا هيلاري كلينتون – بتعيين ميتشيل، وتأكيده على سرعة التحرك في اتجاه إحياء المفاوضات السلمية حول “أزمة الشرق الأوسط” من النقطة التي وصلت إليها في السابق، لا من نقطة الصفر. ثم تأكيده أيضاً على أن هذه الأزمة تُشكل المشكلة المحورية الأساس في المنطقة، وأن حلّها يدفع باتجاه حل كافة أزمات هذه المنطقة .
ثمة من يقول أن هذا الحل يقتضي حُكماً دخول حركة حماس حلبة الحل السياسي ونبذ “الإرهاب” ـ أي العمل المقاوم ـ وهذا يقتضي في المقابل، ومن وجهة النظر الأميركية التي عبّر عنها جورج ميتشيل ، بناء الثقة بين أطراف الصراع قبل الدخول الجديد إلى حلبة المفاوضات. لكن هذا الهدف، وأي هدف آخر يسعى إلى تحقيقه في سياق مهمته لحل هذا الصراع، يستوجب الجلوس مع حماس وسماع رأيها والإعتراف بها، وهو ما لم يحصل حتى الآن، ولا يبدو أنه سهل التحقق، خصوصاً أمام مسارعة مؤيدي الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة إلى إبداء إنزعاجهم من تعيين ميتشيل، وشنّ حملة انتقادات ضده رداً على مواقف الترح
يب بقدومه ، متهمين إياه بعدم وعي ابعاد الصراع، وهو ما عبّر عنه – حسب قولهم – مضمون تقرير لجنته التي شكلت في العام 2001 وطالبت بوقف الإستيطان .
يب بقدومه ، متهمين إياه بعدم وعي ابعاد الصراع، وهو ما عبّر عنه – حسب قولهم – مضمون تقرير لجنته التي شكلت في العام 2001 وطالبت بوقف الإستيطان .
نعود للبداية كي نتساءل: ماذا في عقل أوباما مما يميّزه عن سابقيه .. وأي دور سيلعبه موفده على طريق الحل؟