د. فايز أبو شمالة
سكنت المدافع، وطوت أجنحتها الطائرات، وبدء “بابور الكاز” يلملم أغراضه لينزوي عن حياة غزة بعد أن استرد عافيته المفقودة منذ ثلاثين عاماً، فمسح الناس على رأسه، ونظفوه، ونكشوا عينه، وتفقدوا صدره، وجلوه بالليمون، ووضعوه في صدر المطبخ رغم ما يصدر عنه من سُخام دغّم حياة مجتمع يتعرض لعقاب جماعي لأسباب سياسية.
تناول بعض الكتاب “بابور الكاز” بالتعليق من واقع المسئولية، والأمانة التي يفرضها الموقف، وظلت مصلحة الوطن أمام ناظريهم بغض النظر عن انتمائهم التنظيمي، وظلت فلسطين تشهد على موضوعيتهم وهم يكتبون عن مستجدات الحياة في ظل الحصار، وبعض الكتبة وجد في سُخام “بابور الكاز” فرصته كي ينقض على الوطن، وينفث سمومه في أذن المواطن، ويهاجم أخاديد الوجدان التي تتكون منها الذاكرة الجماعية، أقلام كفرت بقدرة الخالق على التغيير قبل أن تكفر بطاقة الوطن، يعرفهم الناس في غزة، ويعرفون تركيبة كريات دمهم الحمراء، ويعرفون دوافعهم للكتابة، ومواقعهم، أولئك الذين ما عرفوا التضحية يوماً، ولا طرقت باب بيتهم، وكانوا يهربون من طريق من سار على خط المقاومة خشية التأذي، وظلت الحياة بالنسبة إليهم أخذ، والعطاء تشدق باللفظ، وتشكيك بقدرة الوطن على الصمود، وتقليل من شأن المقاومة ولاسيما المقاومة الإسلامية، فراح بعضهم يكتب عن سُخام “بابور الكاز”، والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وعن الحالة البائسة التي وصل إليها الغلابة الذين لا يجدون غاز الطهي، والويل لتنظيم حماس الذي كان السبب في قطع الكهرباء، وقطع الرواتب، وإغلاق المعابر، ويتمنون غياب رجال المقاومة ليرتاح الناس من هذه البهدلة، والمهانة، ومن الوقوف على الطرقات في انتظار رغيف الخبز، والبحث عن اسطوانة غاز.
تلك الأصوات المشككة الوجلة هي سُخام غزة، ودخان “بابور الكاز”، يهبون مع الريح، وهم يرتعدون من المبيت ليلة بلا كهرباء! فكيف حال الأسر الفلسطينية التي انقرضت، وجرفت بيوتهم، وهدمت أرازقهم، وتلقوا النكبات على يد العدو الإسرائيلي؟؟ وما رأي الأستاذ “عيسى البطران” الذي دفن بيده خمسة من أولاده، وأمهم؟ وما مشاعر الأسير كريم يونس ابن تنظيم فتح الذي ينام في عتمة السجن منذ سنة 1983؟ وكيف بالأسير يحيى السنوار ابن تنظيم حماس الذي جاوز العشرين عاماً في غياهب السجون؟ وبماذا يفكر أحمد سعدات المحكوم ثلاثين عاماً؟ وماذا يقلن النسوة الأسيرات اللائي تركن أطفالهن تحت السماء والطارق لسبع سنوات، وما زلن؟ بل لماذا لا يبصقن في وجوه أمثالكم، وعلى عمائم، ومكاتب، ووثائق من يفاوضون بلا أملٍ، ويبكون بلا دمعٍ، ويصرخون بلا وجعٍ؟
إن للوطن كرامة، ولا وطن لمن افتقد كرامة التضحية. واحتفظ بقلمٍ يخط الكلام الأسود الفاجر الواهن الواهي.